23 ديسمبر، 2024 1:56 ص

قراءة سيكولوجية سريعة للقاء بنت الدكتاتور العراقي

قراءة سيكولوجية سريعة للقاء بنت الدكتاتور العراقي

قد يكون ليس من المفيد الأنشغال بما قالتة بنت الرئيس العراقي السابق صدام حسين في مقابلة لها عبر حلقات متتالية في قناة العربية التي تمولها وتملكها المملكة العربية السعودية, وهي مقابلة في مجملها تعكس عن ضحالة الفكر والتحليل لدى بنت الدكتاتور صدام حسين للأحداث التي مر بها العراق بعد وقبل سقوط النظام وتعبر اجاباتها عن ثقافة اقطاعية ـ ابوية استمدتها من ثقافة والدها الذي تشبعت خطاباته انذاك بلغة الانشاء الردئ او بأقتباسات لا يعرف معناها حين يستخدمها, ولكن الأعلام الرسمي والصحافة الصفراء سوقت خطاباته كرؤوس اقلام ترسم ملامح مستقبل افضل للعراق, كما عكفت الجامعات العراقية في زمنه الى استخدام العلم لمصلحة الدكتاتور واصبحت خطبه موضوعات للدكتاتوراه والماجستير تنال شرف الأمتياز عن اللاشيئ.

 

كما عكست قناة العربية وتبنيها لتلك المقابلة والأعداد لها من خلال الأسئلة ومظاهر الحفاوة والتكريم والاعتزاز ببنت الرئيس” رغد صدام حسين ” المقبور أن هناك رسالة خاصة جدا تريد السعودية والاعلام الموالي لها ايصالها الى المعنين بالشأن العراقي اليوم والى الخصم المستفحل المتمثل بأيران وحلفائها في المنطقة, وكعادة البراغماتية السعودية فهي تجيد اللعب على الحبال في قدرات استثنائية لأظهار التعاطف والحب والمودة للشعب الذي يكتوى بالصراعات الأقليمية والطائفية ولكن في اجندتها لامانع من ابادته ارضاء لأجندتها الخاصة كما يحصل في اليمن في صراعها الأقليمي مع ايران بشكل خاص, والطرف الايراني هو الآخر لا مانع لديه من حرق دول مستقرة وزجها في آتون اجندتها العقائدية المتخيلة بالحق الآلهي المطلق.

 

القناة العربية استخدمت التفاهة في صراعها مع اعدائها الأقليمين وحلفائهم في الداخل, وبالتالي سوقت مقابلة بنت الرئيس وهي الأضعف حلقة من حيث المحتوى والأداء وافتعال الكبرياء والأبهة لمن تقابلهم لأشاعة جو من القناعة لدى المتلقي أن ما تتحدث به بنت الرئيس سوف يلقى آذانا صاغية لدى المتلقي العراقي وتهديدا خفيا للطرف الاقليمي, ولكن ذلك قد يأتي بنتائج عكسية ويشدد من قبضة الكراهية للسعودية, لأن اختيارها لبنت شخصية كان يتمنى السعوديون زوالها بل ووقفوا مع الامريكان لأسقاطه, كما صدرت فتاوى سعودية بتكفيره, وبالتالي فنحن امام نموذج متحايل للتعامل مع الحقائق والمواقف السياسية عبر توظيفها بطريقة تافه على مستوى محتوى المقابلة ام استثمارها في الزمان وأمكنة الصراع المحددة. ولا ننسى احتجاج الكويت التي احتلها الرئيس السابق على قناة العربية وعلى بنت صدام حسين, حيث صادفت المقابلة بعد ايام من تحرير الكويت, وكانت اجابات بنت صدام تسويفية لأدانة احتلال الكويت.

 

المقابلة أثارت أزمة على المستوى الداخلي، فيما يحتمل أن تُحدث تصريحات رغد بشأن إيران ودورها الخبيث في بلادها أزمة بين ثلاث دول هي العراق والسعودية والأردن، حيث طالب رئيس لجنة الشهداء والضحايا والسجناء السياسيين عبد الإله النائلي، وزارة الخارجية، عبر خطاب رسمي، باستدعاء سفيري مملكتي الأردن والسعودية لتسليمهم مذكرة احتجاج، على هذا اللقاء. اللجنة في خطابها علقت على تصريحات رغد بأنها “تجاوز سافر على الشعب العراقي، وتضحياته في مقارعته لحزب البعث”، فيما أشار النائلي إلى أن استدعاء السفير السعودي نتيجة أن القناة التي خرجت منها رغد هي قناة سعودية وتخضع لإملاءات القيادة السياسية هناك، أما استدعاء سفير الأردن فلكون بلاده هي من تستضيف رغد وعائلتها منذ سنوات طويلة.

 

ولكن نعتقد ان الاعتراض الرسمي العراقي على مقابلة بنت المقبور هو اسوء من المقابلة ذاتها, فهي يعطي تضخيما للحدث اكبر مما تستحقه المقابلة نفسها, وبالتالي يعكس الخوف المتنامي لدى القوى السياسية العراقية الطائفية وجبهتها الداخلية المتصدعة في احتوائها للتصريحات والانتقادات للأوضاع الحالية في العراق. تحدثت بنت صدام عن سوء الاوضاع اليوم في العراق وهذا صحيح للقاصي والداني, ولكنها اخفت كوارث نظام والدها وحروبه العبثية واستنزاف موارد البلاد في العسكرة والعدوان ثم الحصارات المفروضة بفعل تلك السياسبات التي زرعت الفقر والفاقة والتدهور القيمي والاخلاقي وانهيار البنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية والتي تمادى بخرابها نظام بعد 2003 بالفساد وسرقة المال العام والخراب الشامل.

 

اما على مستوى السياسية ورغبة بنت المقبور بممارسة دور سياسي ما في العراق, فقد اثار هذا غضبا لدى قوى السلطة, وكان يفترض عكس ذلك تماما استنادا ان هناك قاعدة جماهيرية تحمي النظام الديمقراطي من البعث وشظاياه, ولكن بالتأكيد ان ازمة النظام المحصصاتي اصبحت على درجة من الحساسية والخوف وتستفزها ابسط التصريحات وفي مقدمتها بنت صدام التي لا علاقة لها بالسياسة حسب قولها. والأمر هنا فيه عودة مجددة الى فوبيا البعث التي طالما زرعت الأرق في نظام المحاصصة.

 

والتعقيد هنا ناتج من أن خبرة البعث السابقة في إدارة الدولة وخباياها بطريقة رجل ” منظمة المافيا السرية ” الذي يحيا ويموت على عدم الثقة بالآخر, وعلى الانقلاب من داخله وخارجه, مكنت الكثير من كوادره وقياداته أن تشكل خلايا أخطبوطية, سياسية وأخلاقية داخل الدولة والأحزاب الحاكمة, ناهيك عن وجودها المستقل علنا والمعلن بعدائه للعملية السياسية.

وقد سهلت التركيبة الطائفية لأحزاب الإسلام السياسي باحتماء الكثير من عناصر البعث ذات الطبيعة الإجرامية,فقد اندست في صفوفه إما ” بلحية قصيرة وخاتم ” أو ” بلحية طويلة وسروال أو دشداشة قصيرة”, وبذلك اختلطت الانتماءات بين شيعي تقي ومؤمن, و شيعي ـ بعثي مجرما, أو بين سني يخاف الله ورسوله, وسني ـ بعثي قاتل. وعلى هذا الأساس تم تشويه صورة الصراع الاجتماعي , وإضفاء الصبغة الدينية عليه, والذي بطبيعته لا صبغة دينية له, وهكذا أيضا بدأت تتشكل ملامح سياسة ” مساواة الجلاد بالضحية “, أو وضع الظالم والمظلوم في سلة واحدة وفي الحزب الواحد, وبذلك تحولت الأحزاب التي تدعي المظلومية إلى أحزاب هجينة وبلون رمادي قاتم لاهوية سياسية لها,وبفعل ذلك أيضا فقد أصبحت بعض من أحزاب الإسلام السياسي مصدرا لحماية البعث والكثير من عناصره الدموية, وتشكل هذه العناصر بنفس الوقت جزء لايستهان به من قاعدة تلك الأحزاب ” الجماهيرية ” سنية أم شيعية.

 

ونؤكد هنا إن قواعد هذه الأحزاب لا ترغب مطلقا بعودة النظام السابق بأي شكل من الأشكال ولا يرغب بعض منها حتى الحوار مع بعض عناصره, طبعا ليست من منطلق العداء له أو العداء للقديم البالي المتهالك, ولكن هؤلاء يستطيعون العبث بالأمن والاستقرار وممارسة الابتزاز والسلب والنهب وخلق الفوضى والاستئثار بالسلطة بما لا استطاعوا فعله في ظل النظام السابق, حيث كانت تجري الأشياء هناك على قاعدة إن الجاني والمجني عليه كانوا معروفين تماما للجميع, أما الآن فالعلم عند الله. إن هذا التعقيد والتداخل في قواعد هذه الأحزاب يضعنا أمام مهمات عسيرة وتساؤل كبير لا تسهل الإجابة عليه آبدا, وهو: ” من يجتث من “, وتلك هي إحدى الصعوبات المفصلية التي ألقت بظلالها منذ البداية على هيئة اجتثاث البعث,وأصبح الحديث عن الاجتثاث أول ما يثير قلق عناصر قوى سياسية تحت قبة البرلمان ويمتد هذا القلق ليشمل قيادات إدارية وحزبية وكوادر في مختلف مستويات الهرم الإداري في مختلف المحافظات, وعلى ما يبدوا فأن العملية ليست ببساطة “جرة القلم ” كما تصورها الذين اندفعوا للوهلة الأولى. ولعل اختزال الأرقام المفترض اجتثاثها من عدة آلاف إلى عدة مئات يعكس بعض من صعوبات الواقع في هذا المجال.

 

ونشير هنا أيضا إلى انسلال جزء كبير من عناصر وقيادات وكوادر البعث السابق إلى مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان المختلفة وغيرها من المنظمات ذات الطابع غير الحكومي, والتي تلعب دورا مهما في بلورة والتأثير على الرأي العام في القضايا الكبرى, كقضية الحرية والديمقراطية والمساواة وغيرها, واغلب هؤلاء من العناصر التكنوقراط وذوي الاختصاصات والكفاءات المختلفة من تعليم وإدارة وإعلام واقتصاد وسياسة, وقد شغل الكثير منهم مراكز القرار في المؤسسات الإعلامية والثقافية والتعليمية ومؤسسات الدولة بصورة عامة, وعدد غير قليل منهم من أساتذة الجامعات.وهذه الفئة تقع ضمن تعداد المليونين من ” النظام السابق ” من حملة الخبرات المختلفة والاختصاصات المتنوعة, وتشكل هذه العناصر احتياطي شعبنا ومجتمعنا لمختلف التخصصات, وهم جزء من بنيته التحتية الاقتصادية والاجتماعية, ولا يجوز وضع هذه الفئة على قدم المساواة مع ” ذوي الشهادات المزورة”.

 

وبالمناسبة ومن تابع حلقات مقابلة بنت صدام والتعليقات عليها من قبل وسائل التواصل سيجد حجم السخرية منها والشجب والأدانة والتهكم عليها وعلى والدها والسب والشتم والتصدي لها بعكس الأحزاب الأسلاموية الخائفة, فالشعب يعي حقيقة المؤامرة على مستقبله ومن هم حلفائه واعدائه, وبالتالي شكلت انتفاضته احدى الخيارات الاساسية للخلاص من المحاصصة, وليست من خلال مشروع بنت الرئيس السابق الذي اقدم على قتل زوجها وتيتيم اطفالها وهي تقول انه رجل رحيم !!!.