افرزت ملحمة الطف الخالدة وانتجت قوتين وإرادتين مختلفتين متضادتين في كل شيء، اوغلت احداهما بالبطش والقسوة والاجرام , لإجل مصالح دنيوية زائلة , فتجاوزت كل حدود البغي والتعسف والطغيان؛ وجادت الثانية بكل ما لديها وبأعز ما تملك لأجل قيم أخروية باقية أزلية, فتخطت واجتازت كل حدود الجود والبذل والعطاء, ضاربة اروع الامثلة في التضحية والفداء . اسست الاولى بجبورتها وطغيانها مملكة دموية , واسست الثانية بتضحيتها وسخائها ثورة تحررية, فباتت الاولى رمز للشر والجور والفساد على امتداد التاريخ الاسلامي عنوانها يزيد واصبحت الثانية رمزا للتضحية والفداء والخير والعطاء والاصلاح الى قيام يوم الدين عنوانها الحسين.
ان واقعة كربلاء بأحداثها الأليمة الدامية ومأساتها المروعة – والتي افجعت قلوب المؤمنين عامة واهل البيت عليهم السلام خاصة – كونت الجذور العميقة لمراسيم العزاء الحسيني بعد الواقعة مباشرة واستولدت شعائراً وطقوساً نشأت وتطورت باشكال عدة ومنها البكاء واللطم واقامة مجالس ومواكب العزاء واعلان الحداد ونشر السواد في المدن والقرى وكانت نقطة انطلاقها ارض كربلاء ,ثم انتشرت في جميع مناطق العراق إبان الحكم البويهي ، وبعدها انتقلت الى ايران في القرن السادس عشر فترة حكم الصفويين, فكان لهم الدور في انتقالها الى اذربيجان والاناضول وبعض مناطق سيبيريا وعدد من الدول الاخرى, حتى اصبحت الان تعم معظم دول العالم.
واذا كان من المبالغة الادعاء بأمكانية رصد معالم البناء السوسيولوجي للعزاء الحسيني على مدار زماني طويل ووضعها داخل نسق محدد فلا اقل من تحليل هذه الظاهرة في ضوء المعلومات المتاحة وعلى اساس تأثيرها في توجيه التاريخ والسياسة الاسلامية .
النشأة والتطور:
تعد ظاهرة العزاء الحسيني من الموروثات الدينية التي تمتد جذورها التاريخية إلى القرن الاول الهجري , وتحتل مكانة خاصة ومتميزة ولافتة, ولها قدسية ومنزلة دينية عظيمة في نفوس المسلمين الشيعة, حيث تطغى هذه الظاهرة على الساحة الشيعية في شهر محرم وصفر فيُعلن الحداد وتنتشر الرايات واللافتات السوداء وتُعقد مجالس العزاء في أنحاء المدن والقرى وعلى الطرقات وتُبَث تسجيلات خاصة بهذه الظاهرة في كلّ مكان وتخرج مواكب العزاء في مسيرات كبيرة في العديد من دول العالم التي يتواجد فيها الشيعة لتنتهي إلى تجمّعات مليونيّة في العاشر من محرّم والعشرون من صفر في كربلاء .
ظاهرة العزاء الحسيني هي من الآثار الواضحة في مسيرة التاريخ لملحمة الطف الخالدة واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام والتي ظلت مستمرة منذ ذلك التاريخ وحتى وقتنا الحاضر, لم توقفها اشد العهود السياسية ظلما وبطشا- ضد الشيعة- مرَّت بتاريخ العراق .
تعود أقدم المؤشرات التاريخية على نشوء الشعائر الحسينية إلى ما كان يقوم به جماعة من اهل الكوفة – شعرت بثقل الذنب ومرارة الندم نتيجة عدم نصرتها الامام الحسين بعد أن وعدوه النصر وعاهدوه على الثورة – بالذهاب إلى كربلاء لقراءة الفاتحة والترحم على الحسين (ع) وانشاد القصائد الرثائية بحقه ويصاحب ذلك غالبا البكاء والنحيب وخاصة يوم العاشر من محرم من كل عام وإظهار الندم وطلب المغفرة عند قبره , الا ان تلك التجمعات والاحتفالات لم تكن عادات راسخة ذات مراسيم دينية ثابتة, بل كانت مجرد شعائر رمزية عمل الزمن والأحداث على تطويرها بالشكل الذي نراه اليوم .
ان الصدمة الشديدة التي خلفتها احداث كربلاء والاثار النفسية البليغة التي تركتها في ضمير كلّ مسلم استطاع نصره فلم ينصره ، وسمع واعيته فلم يُجبها, هذا الشعور بضخامة الاثم حدا بالكثيرين نحو تنظيم صفوفهم وتشكيل منظمة سرِّية ، ما لبثت ان تحوَّلت إلى منظَّمة كبرى تحمل اسم (التوابين), فصارت هذه التسمية هي الغالبة على حركة سليمان بن صُرد الخزاعي ورفاقه، وهي منبثقة عن الآية الكريمة التي أصبحت الشعار الرئيسي لهم في قوله تعالى: ((فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقَتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيْمُ)) سورة البقرة الاية(54), ولقد كونت تلك الحركة النواة الرئيسية لتجديد ذكرى الطف , يقول ابن الأثير- في كتابه الكامل الجزء الرابع- عن التوابين: “ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين، فلما وصلوا صاحوا صيحةً واحدة، فما رئي أكثر باكياً من ذلك اليوم، فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه وترك القتال معه وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرعون ويترحمون عليه وعلى أصحابه، وكان من قولهم عند ضريحه: اللهم ارحم حسيناً, الشهيد ابن الشهيد، المهدي ابن المهدي، الصديق ابن الصديق، اللهم إنا نُشهدك أنا على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم وأولياء محبيهم، اللهم إنا خذلنا ابن بنت نبينا، (ص) ، فاغفر لنا ما مضى منا وتب علينا وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصديقين، وإنا نُشهدك أنا على دينهم وعلى ما قتلوا عليه، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين … فازدحموا على لثم القبر كازدحام الحجاج على لثم الحجر الاسود في الكعبة”. فكانت هذه المراسيم هي شرارة ثورة التوابين والثورات والانتفاضات التي تلتها وقد استمدت منها قوتها وحيويتها.
واستمرت حركة الدعوة لإحياء مراسيم عاشوراء دون توقف واخذت بالاتساع وغدت أكثر تنظيماً وفعالية بمرور الأيام، فبحسب مصادر تاريخية موثوقة ومنها كتاب الامامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري الجزء الثاني , ان المختار بن يوسف الثقفي كان اول من اقام احتفالا تأبينيا في داره في الكوفة بمناسبة يوم عاشوراء وانه ارسل بعض النادبات الى شوارع الكوفة للندب على الحسين.
لقد تطوَّر العزاء الحسيني وتغيَّر في العصور المتعاقبة ولم يثبت على صيغة واحدة خلال الفترات التاريخية ودخلته عناصر لم تكن موجودة فيه من قبل , فمراسيم البكاء التي كان يقيمها أهل البيت واتباعهم , اصبحت شعائر ثابتة في عهد الأمراء البويهيين واتسع نطاق اقامة مجالس العزاء على الحسين في عهدهم ,فهم اول من وسعوها واخرجوها من دائرة النواح الضيقة في البيوت والمجالس الخاصة والنوادي الهادئة وعلى قبر الامام الحسين بكربلاء الى دائرة الاسواق العلنية والشوارع المتحركة, وتعويد الناس على اللطم على الصدور, وهم أول من جعل يوم العاشر من المحرم يوم حزن لذكرى واقعة كربلاء بصفة رسمية في عهد معز الدولة البويهي, الذي اصدر سنة 963م امر اعلان الحداد العام في العاشر من محرم الحرام فكانت بموجبه تغلق الاسواق ويعطل القصابون اعمالهم ويتوقف الطباخون عن الطبخ وتفرغ الاحواض والصهاريج من الماء وصارت الجماعات من القائمين بهذا المأتم تجوب اسواق بغداد باعلامها الخاصة لاطمة صدورها ورؤوسها ,كما ان السلطان معز الدولة كان يرتدي رداء الحداد والحزن ويتقدم عسكره المشترك في هذا المأتم ,وكانت تٌقرأ في ذلك اليوم المراثي والمناحات ايضا فكانت عادة احياء العشرة الاولى من شهر محرم في عهد هذا السلطان من اشهر العادات وابعدها صيتا بين العادات والاعراف الشيعية المألوفة والتي لا زالت مستمرة منذ ذلك التاريخ وحتى وقتنا الحاضر.
وعندما حكم الصفويون ايران بداية القرن السادس عشر اعلنوا المذهب الشيعي مذهبا رسميا للبلاد وعملوا على استخدام مراسيم العزاء الحسيني سلاحا سياسيا ودعائيا لنشر التشيع وبسط نفوذهم في جميع انحاء ايران مما ساعد على نشر الشعائر الحسينية وتطورها , فكان لهم تاثيرا في انتقالها الى الهند واذربيجان التركية والانضول وبعض المناطق في سيبريا, واصبحت المواعيد الزمنية لتلك الشعائر اكثر ثباتا وتنظيما كما ان العناصر البشرية المتفرغة لها من نواحٍ ومنشدين وقصًّاص صاروا اكثر عددا, الا ان مراسيم العزاء في هذه الفترة فقدت دلالتها السياسية والاجتماعية , وغدت عملا اخرويا محضا واصبح نقد الامويين والعباسيين – الذين لم يعد لهم وجود في الحياة السياسية في العراق وايران وغيرهما من البلاد الاسلامية – نقدا مباشرا صريحا, ونعتقد ان هذا النقد كان يتضمن موقفا من السلطات المعاصرة نابعا من وعيا واضحا لدلالة الذكرى الحسينية من باب اياك اعني واسمعي ياجارة.
الا ان السمة البارزة لهذه الفترة ان مراسيم اللطم اصبحت عنصرا اصيلا في مجالس العزاء الحسيني في العراق وايران وكان هذا اللطم من العادات التي ادخلها البويهيون كما ذكرنا سابقا, وقد رافق اللطم نشوء نوع من الشعر المرقع بالفصحى والعامية كان المأتم يبدأ به ويرافقه لطم على الصدور مع تعرية القسم الاعلى من الجسم او من فوق الثياب.
اما حين حكمت الدولة العثمانية العراق عملت على منع وتحريم الاحتفالات بيوم عاشوراء ما دعا الكثير من الشيعة الى ان يقيموا مجالس العزاء في بيوتهم ,الا ان هذه الفترة قد شهدت في بعض مراحلها انفراجا سمـــح بأقامة مراسيم العــزاء الحسيني نتيجة لظروف معينة فرضها الواقع السياسي لتلك الحقبة فعلى سبيل المثال انتهز البعض فرصة انعقاد صلح بين داود باشا والحكومة الايرانية عام 1821م فأقاموا مجالس التعزية علنا .
ومنذ بداية القرن العشرين اتخذت المراسيم الحسينية شكلها وتركيبها شبه النهائي وانتشرت وترسخت واتخذت لها طابعا فولكلوريا شعبيا, وبخاصة في المدن المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية وكذلك في بغداد والبصرة فالى جانب مجالس التعزية اقيمت مواكب اللطم ومواكب (الزنجيل) وكذلك تمثيل واقعة الطف ومقتل الامام الحسين (التشابيه).
ادت التطورات التي صاحبت مراسيم العزاء الحسيني والتي جعلت منها ,مناسبة كثيرة التكرار على مدار السنة وتجتذب اعدادا كبيرة جدا من الناس – الى انشاء اماكن خاصة بالمأتم الحسيني تسمى (الحسينية) وهي قاعة كبيرة مخصصة لاقامة مجالس العزاء الحسينية وقد غدت في السنين الاخيرة تستعمل في مناسبات دينية واجتماعية وثقافية كحفلات التأبين والتكريم وما الى ذلك… ويبدو ان هذه المؤسسة ليست حديثة التكوين بل ترجع الى عهد قديم فقد قال السيد امير علي في كتابه مختصر تاريخ العرب: “وكان من افخم عمارة القاهرة في عهد الفاطميين (الحسينية) وهي بناء فسيح الارجاء تقام فيه ذكرى مقتل الحسين في موقعة كربلاء”.
تطورت فكرة الحسينيات حتى أصبح أتباع أهل البيت (ع) يؤسسون (الحسينيات) ويبنونها في كل مكان يتواجدون فيه ويتخذون منها أماكن للمحافظة على ثقافتهم وعقائدهم وتأريخهم , فتحولت الحسينية إلى مؤسسة ثقافية أخرى – غير المسجد – اعتمدها أتباع أهل البيت (ع) لنشر الثقافة السلامية، وأصبحت منطلقاً لمشروع مؤسسة ثقافية واسعة اختص بها أهل البيت (ع) وهي الشعائر الحسينية. ويمكن اعتبار مؤسسة (الحسينية) –امتدادا لمؤسسة المسجد الإسلامية.
يذكر الدكتور ابراهيم الحيدري في كتابه تراجيديا كربلاء: ان اولى الحسينيات التي شيدت في العراق هي (الحسينية الحيدرية ) في الكاظمية عام 1876م وقد تبعتها حسينية اخرى في بغداد ثم ثالثة في الكاظمية ايضا … اما في كربلاء فقد تم بناء الحسينيات في اوئل القرن العشرين حيث شيدت اول حسينية لنزول زوار الامام الحسين وكذلك لاقامة مراسيم العزاء الحسيني عام 1906 وكانت حسينية الشوشترية في النجف اول حسينية شيدت فيها عام 1913 وفيها اقدم مكتبة من مكتبات العصر الحديث في النجف, ثم تعددت الحسينيات في المدن المقدسة وغيرها من المدن.
وقد انبثق عن (الحسينية) مؤسسة دينية – شعائرية اخرى وهي(هيئة المواكب الحسينية) والتي تتكون من عدد من الافراد الموسرين الذين يقومون على ادارتها ودعمها بكافة احتياجاتها ,والتي انتشرت في الآونة الاخيرة بشكل غير مسبوق حتى فاقت اعدادها الآلاف في جميع مناطق العراق , ودور هذه المؤسسة هو رعاية مواكب العزاء الحسيني , فلكل واحدة من هذه الهيئات موكبا خاصا بها تعمل على توفير كافة مستلزماته وادواته من آلات العزف والرايات والمشاعل ومكبرات الصوت والاضاءة وحتى (الزناجيل الحديدية) التي تستخدم اثناء خروج المواكب وهي تجوب الشوارع لتأدية طقوسها بالاضافة الى ان هذه الهيئات لها سرادق عزاء خاص بها ينصَّب من اليوم الاول لشهر محرم والى انتهاء العشرة الاولى من هذا الشهر ولكل هيئة ايضا اسما تتميز به عن باقي الهيئات الاخرى وهذا الاسم مأخوذ من شخوص كربلاء ودلالاتها الرمزية , ولها ايضا منشدا خاصا بها او عدة منشدين يعملون على تنظيم قصائد الرثاء الحسيني – واغلبها بالهجة العامية- التي يلقونها اثناء خروج المواكب بصوت حزين يُثير حاملي الزناجيل الحديدة في الموكب فيضربون بها ظهورهم بحركة تراتبية مع لحن القصيدة وقرع الطبول, ويسيرون بنسق خاص اشبه ما يكون بالاستعراض العسكري.
وهناك هيئات اخرى خدمية يقتصر دورها على توفير الطعام والشراب والمبيت وحتى الخدمات الصحية من دواء وعلاج مجانا للزائرين المتوجهين نحو كربلاء لزيارة الامام الحسين (ع) في ذكرى اربعينيته التي تصادف في العشرين من شهر صفر؛ وهم يقطعون مئات الكيلو مترات مشيا على الاقدام .
وقد كان لهذه الهيئات دوراً كبيرا في الاحداث الاخيرة التي مر بها العراق بدخول العصابات التكفيرة المتمثلة بـ(داعش) لبعض المحافظات العراقية وتهجير مواطنيها, فقد بادرت هذه الهيئات وتطوعت لدعم النازحين وإيوائهم وتوفير الطعام والشراب لهم واصبحت مقرات تلك الهيئات وحسينياتهم سكنا للعديد من العوائل النازحة , ولم يقتصر دورها على دعم النازحين فقط وانما تعدى ذلك الى دعم قوات الجيش والمتطوعين بحملات التبرع لتوفير الغذاء وحتى العلاج للمصابين والجرحى.
نخلص من هذه العُجالة التي ذُكرت اعلاه ان مراسيم العزاء الحسيني وللفترة الممتدة من سنة 61هـ والى وقتنا الحاضر ,تطورت تطورا كبيرا من حيث الشكل ومن حيث المحتوى ولم تقتصر على شكلا واحدا او نسقا محددا , بل هي تتجدد في كل عصر وجيل, بأبتداع اساليب وطرق جديدة غير مسبوقة للشعائر والطقوس العاشورائية ,رغم التحديات الجسام التي واجهتها ولم تنفع كل اساليب القمع التي استخدمتها انظمة الحكم المتعاقبة في القضاء عليها.