في إطار عقد “قمة القاهرة” بعد أيام ، من الضروري إعادة النظر في السردية السائدة التي تصوّر الخلافات بين الحكام العرب على أنها أكثر تعقيدًا وعمقًا وخطورة من خلافاتهم مجتمعين مع إسرائيل, يجب أن يتم إنهاء هذه التصورات لدى الراي العام العربي ، إذ أن التوترات التي تحدث بين الحين والآخر بين الدول العربية , تتنوع وتختلف باختلاف المصالح السياسية والاقتصادية والثقافية، ما يجعلها لا تقل تعقيدًا عن تلك التي تربط المنطقة بإسرائيل . وبالتالي، من الأهمية بمكان تحليل هذه الخلافات بشكل شامل لفهم أبعادها وتأثيراتها على الاستقرار الإقليمي وأثرها على السعي المشترك لتحقيق الوحدة والتكامل العربي في مواجهة التحديات المتزايدة على الساحة الدولية.
سوف نبتعد في هذا السياق عن المشروع الاستثماري العقاري المتمثل في تطوير “قطاع غزة” وتهجير سكانه وإعادة توطينهم في دول الجوار أو في مختلف أنحاء دول العالم، لنناقش رؤيته المستقبلية التي تُرسم من خلال مخرجات إعلان هذا المشروع. إن هذه الرؤية التي نحن بصدد مناقشتها الان تلوح في أفق السياسات التي تديرها أمريكا ومن خلفها إسرائيل ، بما في ذلك أساليب المكر والخداع والابتزاز الاقتصادي والسياسي والتي تسعى معها لتحقيق مصالحها، وبالضد من مصالح الدول الإقليمية المؤثرة مثل “مصر والسعودية والإمارات وقطر ” وعلى الرغم من أن هذه الرؤية ما تزال ضبابية في الوقت الراهن، إلا أنها قد تكون قيد التداول الخفي في أروقة البيت الأبيض، أو قد تظهر إلى العلن في المستقبل القريب.
في ظل هذه الأوضاع، سيواجه الملوك والرؤساء والحكام العرب في “قمة القاهرة” اختبارًا صعبًا أمام شعوبهم. هل سيخضعون لضغوط التهجير القسري والمخططات العقارية التي يروج لها ترامب، أم سيكون لديهم الجرأة على مواجهتها بشكل موحد وبيد واحدة؟ لا بد أن يظلوا يقظين لعدم السماح له بالتفرقة بينهم، وبالتالي تفكيك موقفهم من خلال نهج فردي قد تم التخطيط له في الخفاء داخل مطبخ البيت الأبيض. هذا في وقت تتعرض فيه القضية الفلسطينية لخطر التصفية النهائية وعلى مراحل لحين انتهاء فترة رئاسة “ترامب” العجاف , التي ستكون محورية في تحديد مصيرها
يصر الرئيس “ترامب”، بشكل غير مسبوق على تنفيذ مخططه لشراء أو السيطرة على “قطاع غزة”، متوهمًا أن بإمكانه تحويله إلى وجهة سياحية عالمية عبر إعادة إعماره وفرض نوع من الاستقرار الزائف على المنطقة. وهو يروج لفكرة مفادها بأن هذا المشروع العقاري سيفيد الجميع، مشددًا على أن التطوير في غزة سيكون مفتاحًا للهدوء والاستقرار في المنطقة. ومع ذلك، ورغم غياب أي رد فعل سعودي علني حتى الآن، يظهر جليًا أن السعودية، بل وبعض الحكام العرب بشكل عام، يقفون في وجه هذا المشروع من خلال تصريحاتهم لغاية الآن والتي لم نراها اشتدت حدتها لغاية الان . ولكن يجب جعل ” ترامب ” أن ينتبه لهذه التصريحات فكلما كانت حدتها اكثر كلما مكنتهم من المواجهة مع غطرسته وبدوره يعمل بكل قوته ووسائله لتسويق هذا المشروع وتحويله إلى أمر واقع لا مفر منه، مجندًا كل القوى السياسية والاقتصادية لتحقيقه.
إذا ما تم طرح هذا المشروع على طاولة مكتب البيت الأبيض ، وإذا ما خرج هذا المشروع من دائرة السرية إلى العلن , فقد نشهد ضغوطًا غير مسبوقة على السعودية، تتراوح بين الابتزاز السياسي والاقتصادي. وقد تتسارع المحاولات الرامية لإقناع ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” بتمويل المشروع، تحت ذريعة ربطه بمشروع “نيوم” الذي يعد جزءًا من رؤية 2030 وبالعودة إلى واقع مشروع “نيوم”، الذي يعاني من تحديات هائلة على المستوى اللوجستي والتمويلي، فإن ربطه بمشروع “غزة” قد يكون بمثابة فخ يراد له أن يوقع السعودية في مفترق طرق خطر , وسيجد الأمير “محمد بن سلمان” نفسه أمام خيارين: إما الانخراط في هذا المشروع، مما يعني تخليًا عن سيادته ورؤيته الاستراتيجية للمستقبل، أو الوقوف في وجه الضغوط الأمريكية، مع ما قد يترتب على ذلك من تحديات غير مسبوقة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
صحيح أنه في الوقت الراهن، وعلى الرغم من أن الحديث عن هذا الموضوع قد يكون سابقًا لأوانه، إلا أنه لم نرى لغاية الان أي مؤشرات علنية واضحة على قلق أو مخاوف سعودية بشأن مشروع التطوير العقاري لـ “ريفيرا الشرق الأوسط” ومع ذلك، يبدو أن الرئيس “ترامب” يعمل جاهدًا بكل وسائله المتاحة، بالتعاون مع الحكومة الإسرائيلية المتشددة، لتحويل هذا المشروع إلى أمر واقع لا مفر منه. إذ يسعى ترامب إلى تنفيذه بكل السبل الممكنة التي توفرها له غطرسة امبراطورية سلطاته العسكرية والسياسية والاقتصادية.
ولكن من وجهة نظر استراتيجية وتبعاتها الاقتصادية، يمكن لنا أن نفهم تخوف السعودية والإمارات من هذا المشروع سوف يكون نتيجته بالمستقبل كجزء ولاعب رئيسي تشارك فيه إسرائيل وبدعم أمريكي من التنافس الإقليمي على النفوذ الاقتصادي والسياسي بالمنطقة. وتحويل “ريفييرا قطاع غزة” إلى مركز أقليمي وعالمي اقتصادي وسياحي وتجاري، وبهذا يتم سحب البساط تدريجيا من مشروع “نيوم ورأس الحكمة” ويعيد تشكيل التحالفات الإقليمية ويقلل من أهمية المشروعيين , بالإضافة إلى ذلك، فإن أي محاولة لابتزاز السعودية أو الإمارات لدعم مشروع قطاع غزة قد تؤدي إلى توترات في العلاقات مع الولايات المتحدة، وخاصة إذا تم تفسير هذه الضغوط على أنها انتهاك سيادة هذه الدول وقراراتها المستقلة الاقتصادية والسياسية.
صحيح أن عزم وإصرار الرئيس الأمريكي على تهجير سكان “قطاع غزة” الأن هو موضوع حساس ومعقد من عدة جوانب بعضها قد يكون غير قابلة للتطبيق على ارض الواقع وبعضها قد يكون مجرد احتمالات خاضعة لنقاشات ونتائجها عقيمة وغير مجدية نفعآ لسكان غزة، وما تزال لغاية الآن تتناقش في وسائل الإعلام بدوامة وبطرق مختلفة، ولكن هناك جوانب قد لا يتم تسليط الضوء عليها بشكل كافٍ أو هناك جوانب خفية ,وبدورنا سنحاول قدر الإمكان تقديم سردية تحليل موسع قدر الإمكان بناءآ على المعلومات المتاحة والسياق السياسي والتاريخي للموضوع وكيفية تأثيرها كذلك على مشروعي رؤية السعودية 2030 ورأس الحكمة الإماراتي المصري.
يمكن أن نحاول نلخصها بالنقاط التالي وعلى سبيل المثال وليس الحصر:
أولا: مشروع ترامب العقاري في غزة يريد من خلالها وفكرتها واستثمارها بعد انتهاء الأربع سنوات فترته الرئاسية القادمة , ما يتم تطويره من خلال استثماراته الشخصية مع شركائها باستغلال منصبه الرئاسي في البنية التحتية بالذكاء الاصطناعي الذي بدوره مهتم به ليعيد مفهوم تشكيل وتصورات المدن الذكية والمستدامة والطاقة النظيفة , هذا المشروع لن يكون فقط مجرد تطوير عقاري من أبنية ومنشئات وفنادق ومرافق سياحية ، بل سوف يسعى من خلالها الى رؤية شاملة وموسعة لتحويل قطاع غزة ليس الى ريفيرا فرنسي أخرى ولكنه إلى مركز عالمي للابتكار والتطوير والاستدامة الخضراء والى مركز عالمي استثماري أخرى لتداول العملات المشفرة والبورصة والسندات والأسهم ومركز أخر للبنوك والمصارف.
ثانيآ : جميع ومختلف المساعدات التي اتفق عليها سابقا أن تدخل الى قطاع غزة سوف يتم إيقافها وبالتالي سوف تزيد معاناة السكان في غزة ومنها سوف يأخذ على عاتقهم دفعهم إلى الهجرة المرغمة والطوعية وبين الترغيب والترهيب و يتم استخدام الضغوط الاقتصادية كوسيلة غير مباشرة لدفع السكان كذلك إلى الهجرة.عن طريق تشديد الحصار ، وتقليل المساعدات الإنسانية، وإضعاف البنية التحتية، يمكن خلق ظروف معيشية لا تُطاق، مما قد يدفع السكان إلى البحث عن حياة أفضل خارج القطاع. هذه الطريقة تُعتبر “تهجيرًا ناعمًا” دون الحاجة إلى إعلان صريح عنها.
ثالثا : استخدام أدوات الابتزاز وعن طريق المحادثات السرية مع مصر والأردن والعراق وسوريا والسودان ودول أخرى أجنبية , لتسهيل استقبال لاجئين من غزة. هذه الطريقة قد لا يتم الإعلان عنها بشكل علني، لكنها قد تكون جزءًا من استراتيجية طويلة الأمد لتقليل الكثافة السكانية في القطاع قدر الإمكان وحصرهم في قطعة ارض صغيرة.
رابعا : استخدام أدوات خفية بخلق الأزمات الإنسانية وفي حال تفاقم هذه الأزمات في غزة بسبب الحروب التي يريد أن يشنها نتنياهو بأقوى من السابق أو نشر الأمراض و الأوبئة، وبعدها يتم استخدام هذه الأزمات كذريعة دفع السكان إلى الهجرة. على سبيل المثال، في حالة تفشي أمراض أو نقص حاد في الغذاء والماء، قد يتم تقديم “حلول إنسانية” تتضمن نقل السكان إلى مناطق أخرى وهذا هو المراد والمطلوب.
خامسآ : تنافس على الريادة في المشاريع ونيوم هو مشروع يُعتبر رمزًا لرؤية السعودية 2030، وأي مشروع ناجح أخر في المنطقة قد يقلل من أهميته أو يحول الأنظار عنه وبالتالي خسائر اقتصادية بالجملة , وفي المقابل سوف ينظر الى مشروع غزة ويُستخدم كأداة سياسية لإظهار أن السلام والتنمية ممكنة في المنطقة دون الاعتماد الكامل على السعودية أو مشاريعها. وإذا نجح مشروع غزة الاستثماري، فقد يجذب دولًا عربية أخرى للتعاون معه ومنافسة ولا ترغب بالسعودية أن تكون لها الريادة السياسية والاقتصادية دائمآ ، ومما يضعف التحالفات التقليدية التي تقودها السعودية الإن .
سادسا: تعمل إسرائيل حاليًا بكل جهد ممكن، وتختلق أعذارًا مختلفة لتجنب تنفيذ الاتفاق المبرم مع حركة حماس، خاصة فيما يتعلق بتبادل الأسرى. ومن خلال الرؤية العقارية التي يطرحها الرئيس ترامب، يبدو أن هناك توجهاً لتحويل قطاع غزة إلى منطقة استثمارية كتعويض للدعم السياسي الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل في المحافل الدولية، بالإضافة إلى الأموال والأسلحة التي تم إرسالها ومن المقرر إرسالها في المستقبل. هذا الدعم يهدف إلى تمكين إسرائيل من مواصلة سياساتها الرامية إلى إجبار سكان غزة على الرحيل، سواء بشكل طوعي أو قسري.
أما مشروع رأس الحكمة الإماراتي المصري فأن مخاوفه لا يكاد يخرج عن مخاوف مشروع نيوم فلهما أوجه تشابه مشتركة كثيرة , ومع هذا فقد سعت الحكومة المصرية إلى استغلال موقعه الاستراتيجي المتميز في محاولة لإنعاش الاقتصاد الوطني المتعثر عبر ما يمكن وصفه بـ”صفقة إنقاذ” التي تُعد واحدة من أضخم الصفقات في تاريخ البلاد , ففي 23 فبراير 2024، وقَّعت مصر والإمارات العربية المتحدة عقدًا لتطوير وتنمية مدينة رأس الحكمة الجديدة، باستثمارات تُقدَّر بنحو 150 مليار دولار، تشمل 35 مليار دولار كاستثمار أجنبي مباشر تتدفق إلى الحكومة المصرية خلال شهرين، منها 11 مليار دولار كإسقاط للديون. وينص العقد على أن تحصل مصر على 35% من إجمالي أرباح المشروع , وسوف تسعى معها الحكومة المصرية بأن لا تجعل مشروعها في رأس الحكمة كبديل مرتقب لمشروع غزة .
بالإضافة إلى ذلك، يمكن النظر إلى المشروع الأمريكي في غزة على أنه محاولة لإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، مما قد يؤثر على النفوذ السعودي / الإماراتي في المنطقة، أو يعيد ترتيب التحالفات الاقتصادية بشكل قد لا يتوافق بالضرورة مع مصالحهم وبالتالي، فإن هذا المشروع قد يُنظر إليه ليس فقط كفرصة اقتصادية، بل أيضًا كأداة جيوسياسية لتعزيز النفوذ الأمريكي في المنطقة، مما يضعهما في موقف يتطلب مراجعة استراتيجياتها لمواجهة هذه التحديات الجديدة.
من جانب اخر قد تلعب إيران دورًا خفيًا، بل تسعى جاهدة إلى استخدام كل ما لديها من أساليب مبتكرة وتقليدية لضمان حصتها من كعكة المشاريع مقابل تخليها عن برنامجها النووي . وقد تحاول إيران أن تغض الطرف عن تصوير حماس وحزب الله والحوثيين والفصائل الولائية العراقية المسلحة كعدو لإسرائيل، أو أن تقلل من تأثيرها المباشر عليهم في الفترة المقبلة.
ما سيتمخض عن قدرة وصلابة جبل البيان الختامي لمؤتمر القاهرة سيكون مؤشرًا واضحًا للرأي العام وينعكس برمته على الموقف العربي تجاه مبادرة الرئيس ” ترامب” : هل سيستمر الموقف العربي في التخاذل والاكتفاء بإصدار بيانات التنديد والشجب ، أم أنه سيتخذ موقفًا حازمًا وصريحًا، قد يصل إلى حد التهديد بقطع أو تجميد العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة، حتى يتغير الموقف الأمريكي بشكل جذري نحو إيجاد حل حقيقي ودائم للصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي؟ في اعتقادنا إذا بقى هذا التشرذم والخلافات العربية العربية فإن مستقبل هذا الصراع سيستمر لفترة طويلة، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها.