18 ديسمبر، 2024 5:20 م

قراءة سايكوسياسية في حرق الكتب

قراءة سايكوسياسية في حرق الكتب

لم يكن حرق الكتب, المقدسة منها بعيون معتنقيها كالمصاحف, او غير المقدسة فأنها تتمتع بمكانة خاصة لدى معتنقي محتوياتها الفكرية وأحيانا تتمتع الأخيرة بنفس قدسية ما تتمتع به الكتب المقدسة بأختلاف مصادر تلك الكتب, وأن الأمر يرتبط بتأثير الكتب بالعقائد الأيمانية لدى المعتنقين أو المؤمنين بجوهر المحتوى الذي أتت به وتأثيرها على الحياة الروحية والنفسية والسلوكية لمن تنسجم ممارساتهم مع ما أتت به بطون تلك الكتب والتي يفترض ان تشكل مع الزمن الطقسي والسلوكي مرجعية لا يمكن الأستغناء عنها بسهولة في حل مشاكل الوجود اليومي وتفسير مختلف الظواهر الطبيعية منها والأجتماعية.

 

وبالتالي وأنطلاقا من تلك الأهمية فأن الأقدام على حرقها تعسفيا من قبل الطرف الآخر الذي لا تعني له تلك القدسية او المكانة كما تعني لمعتنقيها يعبر بأي شكل من الأشكال عن تشوهات سلوكية وعقلية الى جانب أزمة فرديةـاخلاقية تعكس ابعادها في التعدي على حرية الآخرين ورموزهم المكتوبة لأثارة استجابة انفعالية مؤلمة وحادة لدى الطرف الآخر الذي يؤمن بها, والغرض من الحرق او السحق او الأتلاف هو محاولة مقصودة لزرع الألم لدى الطرف الآخر الذي وقع عليه فعل الحرق, ومن هنا تأتي استجابة الطرف المتضرر بأشكال سلوكية متنوعة تستند الى ثقافة المؤمن بها وفهمه لدوافع الحرق بعيدا عن قدسية المحروق, اي بمعنى سايكولوجي هناك ” مثير ” وهو الحرق وهناك ” استجابة ” ما للأفراد المستهدفة بفعل الحرق, وقد تتحول الأستجابة ذاتها الى مثير جديد لخلق استجابة ثانية وثالثة وكذلك المثير قد يتكرر, وبالتالي يقع طرفي الفعل في دائرة مغلقة من الأفعال وردودها والأخطر منها ذو النزعة الأنفعالية المدمرة.

 

وسلوك الحرق أو الأتلاف وغيره من أساليب التجاوز لا تمت بصلة لحرية التعبير, لأن حرية التعبير تكون مكفولة عند حدود عدم التجاوز على حرية الآخرين ومعتقداتهم, وبأمكان الفرد ان يمارس حرية النقد لفكر الآخر ومعتقداته من خلال الكتابة والتحدث وعقد مختلف الأنشطة الفكرية والثقافية من تأليف ونشر وندوات ومجالس ثقافية وغيرها, لأن الحياة بدون ممارسة للنقد البناء هو اقصاء للحياة ذاتها بما فيها من تنوع واختلاف في الثقافات والأفكار, وتلك مهمة التطرف الفكري والسلوكي والتي تصل الى حد تصفية الأفراد والجماعات ومعتقداتهم, وداعش وغيرها هي نماذج حاضرة بكل حمولتها الشرسة في الأقصاء.

 

وكل اشكال حرية التعبير تبقى مشروعة ومكفولة عندما لا تفضي الى اثارة النعرات الدينية والمذهبية وتهدد السلم المجتمعي وكذلك الى تهديد أمن المجتمعات المحلية والعالمية وتضعف النسيج الأجتماعي وتشرذمه. ووفقا للمواثيق الأممية فأن حرية التعبير هي إحدى حريات الإنسان الأساسية في الحياة، وقد أكدتها جميع الاتفاقيات الدولية والإقليمية حول العالم، على الرغم من ذلك لا تعتبر حرية التعبير من الحريّات المطلقة، وإنما تحددها مجموعة من القيود والمحددات. ويمكن تعريف حرية التعبير على أنها منح الإنسان الحرية في التعبير عن وجهة نظره، وإطلاق كل ما يجول في خاطره من أفكار بمختلف الوسائل الشفهية أو الكتابية، حيث إن بإمكانه الإفصاح عن أفكاره في قضية معينة سواءً كانت خاصة أو عامة بهدف تحقيق كل ما فيه خير لمصلحة الأفراد والجماعات.

 

وبشكل عام يمكن القول إن حرية التعبير هي قدرة الإنسان على أن يعلن عن الأفكار التي تجول في خاطره، وعن قناعاته المختلفة التي يعتقد أن فيها مصلحته ومصلحة غيره من الأفراد إزاء أمر معين. وتعتبر حرية التعبير حقاً من الحقوق الأساسية للإنسان، وذلك باعتباره جزءاً أساسياً من المجتمع ومكلفاً ومسؤولاً فيه. ومن المواد التي تنص على حق الإنسان في التعبير المادة رقم 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي تنص “على أن لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير، والذي يتمثل في تلقي الأفكار والآراء واستقصائها وإذاعتها دون أدنى تدخل أو تقيد بالحدود الجغرافية “. وبالتالي نفهم من ذلك أن لا حرية للتعبير في التهكم والتهجم على الآخر المغاير لك في المعتقد او الرأي او الفكر, كما أنه لايجوز استخدام حرية التعبير في التنكيل والتشويه الشخصي أو الأفتراء والكذب على الآخر او التحايل عليه وتشويه سمعته الشخصية او الفكرية والأيمانية, فأن حرية الأفراد والجماعات وأمنها وتماسكها يجب ان يكون حاضرا في سياقات حرية التعبير ولا يمكن التأليب والتحريض على ما يحرض المجموعات الدينية والعقائدية الفكرية المختلفة الى الأزدراء والأهانات والفناء, كما ان حرية التعبير لا علاقة لها بتشويه السمعة الفردية والجمعية عبر وسائل التنكيل والأهانة وتزوير الحقائق والكذب ومصادرة حرية الآخرين بواجهات مختلفة وذرائع كاذبة.

 

لقد عملت الكثير من الأنظمة الدكتاتورية في العالم ومنها في العالم العربي والأسلامي على قمع حرية التعبير بأشكال مختلفة وبما يخالف المواثيق الأممية, كالأعتقال والتصفيات الجسدية وتجفيف الروافد الفكرية والسياسية لمعارضيها عبر اللجوء الى حرق وتمزيق ومصادرة واتلاف الكتب التي تجسد الرؤى الفكرية والفلسفية والسياسية للمعارضة ومنع تداولها وبيعها في المكتبات وتجريم حيازتها في المكتبات الخاصة للأفراد, ونرى الكثير من الأنظمة والحكومات والتي احتجت على حرق المصحف او تمزيقه تمارس شتى صنوف حرق ومصادرة المعارف الفكرية والفلسفية الأخرى بواجهات مختلفة غرضها البقاء على الأوضاع السائدة كما هي وبقاء الأنظمة القمعية المعادية لحرية التعبير, وطبعا مع الأختلافات النوعية بين حرق المقدس في اذهان مقتنعيه وحرق الوضعي, إلا ان الموقف من حرية التعبير واحد لا يتجزأ.

 

ورغم ان حرق المقدس وبما يمتلكه من اسباب نزول لمعتننقيه هو أخطر لما يمتلكه المقدس من كتلة بشرية ايمانية ذات طابع حشدي يتجاوز الجغرافيا اشد خطورة من معتنقي الأفكار الوضعية والتي تكون في اغلب الأحيان منظمة ومنضبطة, إلا ان تجاوزات الأنطمة الدكتاتورية والقمعية لديها سجل حافل بالمظالم في التعدي على حقوق الأنسان وحرية التعبير. والكثير من الحكومات القمعية والبوليسية وجدت ضالتها في حرق المصحف في تعبئة الرأي العام وتحشيد الجماهير في محاولة للتخفيف عن مظالمها وسلوكها القمعي والبحث عن انجازات مؤقتىة لتصريف ازمتها المستعصية والتضليل على فسادها المالي والاداري والأجتماعي.. ومن السهل لنظام سياسي منافق او حركة ارهابية كداعش ان يضطهدوا معارضيهم ويقتلوا ابناء جلدتهم من المسلمين وغيرهم ويفصلوا الرأس عن الجسد لآلاف من الأبرياء ويحتجون على حرق المصحف دون اي اكتراث لبعض من نصوصه في قدسية الحياة وحرمتها, وهكذا تختلط الأوراق والمشاعر والنوايا بين مؤمن صادق مدافع عن دينه ومصحفه وبين فاسد سارق للمال العام ومجرم قاتل.

 

حرق المصحف لأكثر من مرة في السويد في دولة تتمتع بمدى واسع من حرية التعبير في اطار ديمقراطية عريقة وفي مجتمع مشهود له في الأمن والأمان والهدوء كان بمثابة قنبلة موقوته اختلط فيها ما هو قضائي ودستوري وقانوني, السويد من اكثر البلدان تسامحا وانسجاما مع الجاليات والثقافات المختلفة فيه, وخاصة الجالية الأسلامية التي يتجاوز عددها اكثر من 875 ألف مسلم, أي بحدود 8.5% من مجموع سكان البلد البالغ 10 ملايين للعام 2023 ” حسب الأحصائيات الواردة من موقع المركز السويدي للمعلومات.كوم, وتقوم السويد وعلى مدى عقود بدعم الثقافة والجالية الأسلامية بكل مستلزمات الحفاظ على رموزها من مؤسسات مختلفة, جوامع ومساجد ومجالس عليا وهيئات تنسيقة واندية ثقافية, وتتلقى الجالية الكثير من الدعم المالي من قروض واعانات بما يدعم ثقافة الأندماج والعيش المشترك.والتسامج الديني, وعلى سبيل المثال فهناك ” الرابطة الأسلامية “و ” المجلس الأسلامي السويدي ” و ” ورابطة الجمعيات الأسلامية ” و ” اتحاد الشباب المسلم السويدي ” والكثير من المؤسسات الأخرى المتشابهة, الى جانب انشاء مؤسسات تعليمية خاصة.

 

ومن الصعب هنا التحدث عن كتلة متحانسة من المسلمين في السويد, بل هناك تنوع داخلي كبير فكريا وسياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا, وقد يلتقون عند مشترك واحد هو هجر بلدانهم الأم لأسباب من انعدام حرية التعبير بمعناها الواسع ” السياسي والثقافي والأجتماعي والأقتصادي ” والبحث عنها في بلدان المهجر كالسويد, وهم قد يشتركون في ذلك الموروث الديني المتداول في العقل الجمعي القادم من البيئة الأجتماعية والثقافية للعالم الأسلامي عموما, وكذلك يختلفون بطبيعة استجابتهم لمختلف الظواهر والأحداث في محيطهم القريب والبعيد بما فيه عملية حرق المصحف.

 

ان ما جرى في السويد من حرق للمصحف هو الأستغلال الوقح والنشاز لحرية التعبير الواسعة, وقد ادانت الحكومة السويدية تلك الواقعة واعتبرتها اضرار وتعسفا وتهديدا للأستقرار والأمن المجتمعي, كما ادانها الرأي العام السويدي واعتبره خروجا ومخالفا لحرية التعبير إلا ان المشكلة ذات ابعاد قانونونية ودستورية وتستحق المعالجة في المستقبل, طبعا كما ادانت المنظمات العالمية كافة من امم متحدة واتحاد اوربي الى جانب امريكا وبريطانيا والمنظمات العربية والأسلامية.واصدار قرارات اممية تمنع التجاوز على الكتب المقدسة.

 

نعتقد ان ما قام به كلا الشخصين وهم. سلوان موميكا من العراق, والدنماركي السويدي المتشدد اليميني راسموس بالودان في ظروف اشتداد المد اليمني في اوربا عموما وفي السويد ايضا, فأذا كانت اجندة راسموس هي من ضمن امور كثيرة كالأحتجاج على الأشتراطات التركية لأنظمام السويد الى الناتو والطلب من تركيا ذلك, إلا ان اجندة اليمين تتجاوز تلك الجزئية الى ابعد من ذلك هو استهداف التنوع المجتمعي للسويد والتضييق على الهجرة واعادة النظر بكثير من القوانين التي تستهدف الانجازات السويدية في مجال الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والتعددية الفكرية والثقافية والدينية للسويد, اما اجندة سلوان موميكا سليل المليشيات المسلحة العراقية وينتمي تارة الى المسيحية وتارة الى غيرها فهل كان يستهدف ايضا كصاحبه راسموس الأحتجاج على الأشتراطات التركية لدخول السويد الى الناتو عبر اثارة المشاعر الدينية لأوردغان أم يستهدف اثارة مزيدا من الكراهية الدينية والطائفية في العراق ” وخاصة انه تجاوز على القرآن ثانية قرب السفارة العراقية” وخاصة بين المكونيين الاسلامي والمسيحي, ام انه يريد الحصول على الجنسية السويدية بأسرع الطرق عبر ادعائه انه مهدد بالقتل بعد واقعة حرق المصحف, او يستهدف اثارة الأسلاموفوبيا في السويد وفي مجتمع تتضائل فيه تلك الفوبيا الى ادنى مستوياتها وفي مجتمع عرف بتسامحه الديني والعرقي والثقافي, وبالتأكيد فأن كل من راسموس وموميكا ينتميان الى ذات الأعاقة الفكرية ـ المعرفية والسلوكية.

 

بالتأكيد ان حرق المصحف والكتب المقدسة الأخرى لا يقع في اطار حرية التعبير لأنه يشجع على الكراهية الدينية والثقافية ويهدد السلم المجنمعي في السويد وخارجه ويسيء الى علاقة السويد مع العالم الاسلامي وغيره. ان اللجوء الى الأساليب العنفية من قبل بعض الدول كالعراق وغيره في غلق السفارة السويدية وحرقها او اللجوء الى المقاطعات الأقتصادية ومختلف الوسائل الأخرى التي تدهور علاقة السويد بالعالم العربي والاسلامي فأنه لا يجدي نفعا إلا بالارضاء المؤقت لحالات الانفعال الشديد, ونعتقد ان اللجوء الى المحافل الدولية والمنظمات العالمية للحد من اثار التصعيد واعادة بناء جسور الثقة بين السويد والعالم العربي والاسلامي هو افضل السبل واكثرها في الحد من ظاهرة الأسلاموفوبيا المنتشرة في بعض البلدان الاوربية والتي لم تجد طريقها بذات الحدة في السويد الى الآن وتفويت الفرصة على قوى اليمين احزابا وافراد لأستثمار الأحتقان لأهداف غير انسانية.

 

ويعتمد الكثير على عقلانية الأستجابة الرسمية والشعبية في العالم العربي والأسلامي لرأب الصدع الذي حصل بينهما وبين السويد, كما ان السويد مطالبة بأتخاذ الخطوات الرادعة الفورية في عدم السماح بحرق المصحف او اي كتاب مقدس له دلالته في نفوس اتباعه, واعتقد ان السويد كرأي حكومي وشعبي ادركت الآن مخاطر ذلك على الأمن والسلم المجتمعي, الى جانب احساس صحافتها المتزايد ان تلك الأفعال لا علاقة لها بحرية التعبير, وبالتالي على السويد ان تتجنب تلك السمعة التي بدأ الأعلام الآخر يروج لها بأنها دولة معادية للأسلام وهي خلاف ذلك لعقود عديدة خلت.