18 ديسمبر، 2024 8:15 م

قراءة جديدة في رواية(ذاكرة غانياتي الحزينات)لغابرييل غارسيا ماركيز

قراءة جديدة في رواية(ذاكرة غانياتي الحزينات)لغابرييل غارسيا ماركيز

البنية السردية بين صراع الشيخوخة وعقدة الخوف من النهايات
توطئة:
في سياق مستوى أبعاد وظيفة البنية السردية في رواية(ذاكرة غانياتي الحزينات)للكاتب العالمي العملاق غابرييل غارسيا ماركيز/ترجمة صالح علماني، تتركز فاعلية مبئرات العلاقة القرينية التابعة لخصائص المجاورة الثنائية الممتدة ما بين طرفي(المؤلف ــ السارد مشاركا)في صناعة متواليات المحورية الاستعادية بوظيفة دليل(الفضاء ارتدادا = الفضاء استشرافا)مما أخذ ملفوظ الخطاب السردي على تحفيز مكونات المسرود النصي نحو قابلية خاصة من مستوى تواتر الحكي عبر عملية تعايش السارد المشارك ــ كنسقا سارداــ في منظور دلالات داخل و خارج المبنى من وظيفة متن الحكي السردي في شواهد الرواية.
ــ الحكي كمعادل على شواهد الاسترسال النصي.
تنفتح صورة الحكي في رواية( ذاكرة غانياتي الحزينات)على لسان حال الشخصية المشاركة في محور النص،ليتبين من خلالها مدى إشكالية مقاربات الزمن والمكان والذاكرة والذات الحاضرة في حيز معيش شخصية ذلك العجوز الكاتب في فرضية النص،والذي أفنى ثلاث أرباع زمنه في ممارسة مهنة كتابة المقالات الأسبوعية في الصحيفة،والتي تتحدد بدءا من عاموده الأسبوعي ومنذ باكورة شبابه في الصحيفة عاملا.لقد سلخ عمره المديد في علاقات حميمة مع عاهرات شتى ومع ظلال العزوبية القاهرة في حياته،مما جعل من ذاكرته مستودعا رحبا للعديد من هيئات الأسماء والمظاهر والمغامرات الغريبة.والقارىء لمدلول المعالجة الدرامية للرواية،لربما يتسارع بالحكم مسبقا على مدى إيروسية الروائي ماركيز كعادته في مختلف أعماله الروائية الأخرى،ولكننا كمتفحصين للرواية بكامل مقوماتها وتأهيلاتها البنائية والأسلوبية والسيميائية،تبين لنا بأن حاصلية النظر المعمق للنص في كل جوانبه الأسلوبية والفنية،جاءنا بموجب أبعاد دلائلية رائعة من تجربة الساحر ماركيز في نصه الذي بين يدينا الآن موضع بحثنا.الشخصية الروائية في النص تتجسد وظيفتها المقلقة حول مدى(جوانية الحكي)أي بما يترتب عليه حال خصائصها الكيفية،إزاء تقادم عجلة الزمن والمكان على مواطن عادتها وحالاتها واستغراباتها ووحشتها من أنخراطها المفجع داخل عقود شيخوختها العمرية المتأخرة،وهذا الأمر ما راح يجعل من جهة ما في الشخصية ذاتها داخل مظاهر أوهام ألتباسية مقلقة من اقتراب موعد نهايتها في قارب الحياة.إذن الشخصية بهذا الأمر صارت تواجه مصيرا ترقبيا مفجعا،بحتمية الموت لها قريبا،ولكن كيف هذا؟وهي لازالت تتمتع بروحية العشق و الغراميات نحو تلك الطفلة المعشوقة في مبغى عائدا بملكيته لسيدة تدعى روساكاباركاس: (لم تكن تبدو هي نفسها..لقد كانت فيما مضى أكثر القوادات تكتما..وبالتالي أكثرهن شهرة ..امرأة ضخمة الحجم..كنا نريد تتويجها رقيب إطفائيين..سواء لضخامتها أو لفاعليتها في إطفاء شبق رجال المدينة..لكن الوحدة قلصت جسدها..وجعدت جلدها..وشحذت صوتها ببراعة شديدة..بدت معها كما لو أنها طفلة مسنة./ص23 الرواية).
1ـ ضمنية علاقات وحدات السرد:
فلو تأملنا كينونة علاقة وحدات العرض والسرد والمسرود الذاتي والعرضي في مواقع الرواية،لوجدنا بأن ماركيز قد وضعها ضمن منظور الرؤية من الخلف أو موقع رؤية الشاهد المشارك في الإداء المحكي،بوصفه أداة للأدراك والوعي الشخصاني ـ يتحدد من قبل ثلاثة محاور:الموقع،والجهة،والمسافة.فمن خلال موقعية السارد المشارك تتبين لنا نقطة رصد مسار الأحداث الروائية بكافة تكويناتها وتفاصيلها،وهذه النقطة العاملية قد تتغير نوازعها من تموقع لأخر على مدار ثنائية الحكي/السرد،وبما يقتضيه سياق حال المقام،من تنام مجريات الشرط الأحوالي في مسار النص.أما الجهة في مجال سرد الأحداث فذات أبعاد متغايرة،فالجهات التي يمكن للسارد المشارك التموقع من خلالها،قد تبدو لنا شبه متوحدة ومحسوبية محاور:(السارد=المعشوقة=الشيخوخة=ذاكرة الزمن=الخوف من النهايات)قد نعاين بأن هناك جهات زمنية تؤثر في طبيعة ضمنية وحدات السرد في الحكي،خاصة تلك الجهات المتعلقة بجوانية ذات الشخصية الساردة، فإذا تأملنا سيرة العجوز الزمنية،لوجدناها محيطة بعوالم مرجعية(المعادل النصي)حيث يمكنه سرد الأشياء المتعلقة بدوافع ذاته السلوكية،من غير أن يعلم القارىء بأن السارد يشير إلى ذاته في النص،أو أن الصورة السردية في مثل هذه الفقرة من شريط الذاكرة،ما هي إلا متممة خارجية من طبيعة تماثل المكون الحدثي في لحظة انطباع وقوع زمن الحكي في النص،لذا غالبا ما نجد صيغة الاستباق كجهة استشرافية ما،تلازم خطاب المسرود حكيا.أما منظور المسافة فيتعين في حدود الفصل ما بين الراوي و العالم المحيط بما يرويه مدلول مسار التبئيير،وهو ما تم ملاحظته من خلال المسافة ما بين ذاكرته الشخصية ومحور ما يرويه حول زمنه الغابر:(في السنة التسعين من سنوات حياتي..رغبت في أن أهدي إلى نفسي ليلة حب مجنون..مع مراهقة عذراء..تذكرت روسا كاباركاس..صاحبة بيت سري..أعتادت أن تتصل بزبائنها الجيدين..عندما يكون تصرفها جديد جاهز..لم أستسلم قط لهذا الإغراء..أو لأي واحد آخر من إغراءاتها الفاحشة..ولكنها لم تكن تؤمن بنقاء مبادىء. /ص7الرواية)ومن يقرر مصداقية مبادىء مرحلة الشخصية ،هي مرحلة الإعتراف ذاتها العمرية،هو ذلك(الفاعل المنفذ=جهة الإداء =تحولات الموقع)لتظهر الشخصية لنا في علاقتها بالأشياء في مرحلة من(فاعل الحالة ــ الحالة المحولة=علاقة ضمنية ــ إعتراف الشاهد)فكلما اقترب السارد المشارك من حالة الشخصية في زمن الحكي،صار معادلة لما تفكر فيه جوانيته العمرية الخاصة ومتعلقاتها،فعلى سبيل المثال نعاين هذه الفقرات من علاقته الحميمة بعشيقته المومس الطفلة العذراء في أحدى غرف منزل السيدة روسا: (لم يكن ثمة مفر..دخلت إلى الحجرة بقلب مزعزع..ورأيت الطفلة النائمة..عارية وعزلاء على سرير الإيجار الفسيح..مثلما ولدتها أمها..ترقد على جانبها..ووجهها إلى الباب..مضاءة من البهو بنور كثيف لا يغفر تفصيلا منها..جلست أتأملها من حافة السرير..بأفتتان حواسي الخمس..كانت سمراء ودافئة..وكانوا قد أخضعوها لعملية تنظيف وتجميل لم تهمل حتى زغب عانتها المستجد./ص26الرواية)يتعلق الشخصية العجوز العاشق في هذه المقاربة من جسد الطفلة العذراء،تبعا لزمن هويته العمرية وصراع الشك والحقيقة في معاينة ذلك الجسد من الطفلة،فهو مختلف مع وضع تفاصيل هويته الجسمانية،ولكنه لا يملك خيارا إزاء مرحلته العمرية المنتهية،سوى النظر والتمسك بالبديل،لما يقدمه لجسد الفتاة من بدائل زمنه الرغبوي المفقود،من خيالات سطوة الفحولة الرجولية الآسرة في مخيلته العمرية،والتي بارحت طاقاته الشهوية منذ زمن عقد الأربعين أو الخمسين،لذا فهو يجسد حكاية عجزه أمام وضع عري ذلك الجسد الطفولي الساخن،تعالقا مع نوازع شبق ذاكرته المحفوف بشقاوة ذلك المضاجع العتيد ماضيا.وبهذه الرؤية يضعنا ماركيز إزاء مبررات شخصيته النفسانية والعاطفية في درجة هي غاية في الأستعصاء والحرج العمري في المكاشفة.
2ـ منظور تماثل التبئيير أو الرؤية مع:
عند الحديث حول تفاصيل شخصية العجوز التسعيني في رواية(ذاكرة غانياتي الحزينات)نعاين مجال تماثل التبئير إعتمادا لمستوى كاف من معرفة الشخصية الساردة بذاتها ولذاتها،فتعتبر هذه الشخصية هي محل كشوفات الراوي وقناعه الذي يرى فيه الشخصية كموقعية للروي،أي على أنها عالما قرائنيا مرتبطا بوعي مكون شخوصي في مراحل زمنية سابقة،وفي مكان ما،ويرى هذا السارد المشارك أن فهم العاطفي و الرغبوي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء.كما إن محمول الرؤية لدى الشخصية جاءتنا متماهية ما بين الراوي ونفسه،حتى يتاح للأثنان رؤية العلاقة المتساوية والموزعة بين الراوي والشخصية معا،مجتمعتان بمسارية سردية واحدة،كما سنلاحظ لاحقا كيفية تنقل الفاعل الذاتي بين السرد والتبئيير،فالشخصية هنا هي من ترى وتتكلم،وهذا النوع من الحكي الذاتي هو ما يشكل بذاته تلك الممارسة المركزية للشخصية في لعب دور السارد والشخصية معا في مبئرات جوانية وبرانية الحكي،ويكون المبئر والسارد فعلا واحدا في أغلب فقرات الرواية،أي هو الشخصية ذاتها،وكثيرا ما يقع تبئييرها على ذاتها ولذاتها إحتمالا: (أستيقضت فجرا دون أن أدري أين أنا..كانت الطفلة لا تزال نائمة..مولية ألي ظهرها في وضع جنيني..راودني احساس مبهم بأنني سمعتها تنهض في الظلام..وبأنني سمعت ماء سيفون الحمام..ولكن يمكن لذلك أين يكون حلما..كان الأمر جديدا بالنسبة لي..فأنا أجهل نزوات الأغواء..وكنت أختار عروساتي لليلة واحدة بالمصادفة..وبأهتمام بالسعر أكثر من المفاتن..ونمارس الحب دون حب..ونحن بنصف ملابسنا في معظم الأحيان..ودوما في الظلام..كي يتخيل كل منا الآخر بأفضل مما هو عليه..في تلك الليلة أكتشفت المتعة التي لا تصدق..في تأمل جسد امرأة نائمة..دون تسرع الشهوة أو عوائق الحياء ./ص29الرواية)قد يتضح من خلال هذه الفقرات من المسرود الذاتي،بأن العجوز أضحى يتعامل مع الجسد النائم بمعايير خاصية التملك و الانتساب عن مسافة ما من مفهوم المواجهة الجادة والانصهار الحميمي،وأن يكون عاشقا مثاليا بأكثر من معنى يجعله صريعا بعجزه الجنسي الفاتك،والأكتفاء بمجرد النظر و المتابعة إلى موضع مفاتن ذلك الجسد دون المساس به،ليجعله في لغة ثانية من ممارسة قوانين الحب ذاته،وهذا الأمر يذكرنا بما قاله الناقد ابراهيم محمود في كتابه القيم(علم جمال الجسد المغاير:يغدو الجسد الهامشي،وهو مبعد عن داخليته وعالمه الفعلي،النقيض بصورة ما،لما يشير إليه،لأن أي اشارة تنم عن وضع أفتئاتي أو تشتتيت لكليته،فيرزح تحت ثقل الآخر المنكل به./ص115كتاب:علم جمال الجسد المغاير)ولعل أهم خصائص رواية(ذاكرة غانياتي الحزينات)هو التحفيز المؤشر نحو زمن التفاعل الشخوصي،إزاء تصاعد الزمن العمري إلى أقصى موجهات عقدة الخوف من اقتراب موعد الموت.فالشخصية في صراعها مع شيخوختها من أجل إكساب المزيد من حب الشهوات والمرح إلى زمنها،حيث تعرفنا على ملامح القرائن النصية المعادلة في السرد،كحالة النزوع الذاتي في تقليب صفحات العمر المتزامنة ما بين الشيخوخة والجسد والليل وكتابة المقالات وعقدة نهاية العمر: (أستلقيت على ظهري بأنتظار الألم النهائي..في اللحظة الأولى من سنتي الواحدة والتسعين..سمعت قرع نواقيس نائية..وشممت شذى روح ديلغادينا النائمة على جنبها..سمعت صرخة في الأفق..ونحيب أحد ربما يكون قد مات قبل قرن./ص101 الرواية).
ـ تعليق القراءة.
من الوجهة الزمنية تقدم لنا دلالات رواية(ذاكرة غانياتي الحزينات)رؤية إشكالية واضحة،لأنها تتراوح ما بين صراع الشيخوخة وتصاعدية الخوف من عقدة النهايات العمرية،يتضح ذلك لنا في نسيج ما من المنظور الخارجي البانورامي والتصويرية المونولوجية المؤثرة،والتي راح ماركيز يفترض بالسرد من خلالها لأجل الإحاطة التامة بأزمنة العجوز المختلفة،ومن علاقة خطية الماضي بالحاضر،وصولا إلى المنظور الداخلي الذي أخذ يحكي لنا جوانية هواجس ورغبات الشخصية بصيغة الماضي و المضارع و الغائب معا،وما يعزز القيمة الدلالية في الرواية،هو أتساعها لمجال تداعيات وخواطر الشخصية،مما جعل السرد ختاما في مفارقة إبقاء العجوز على قيد الحياة رغم بلوغه العقد المئة : (إنها الحياة الواقعية أخيرا..بقلب الناجي..والمحكوم بالموت في حب طيب..في الأحتضار السعيد لأي يوم بعد بلوغي المئة./ص103خاتمة الرواية)وبعيدا عن أي مؤولات اسقاطية،نذهب إلى الظن بأن غابرييل غارسيا ماركيز،أراد لروايته أن تكون علامة تحفيزية بمختلف تداعياتها وشرائطها الذاتية والنفسانية والعمرية،بمثابة ذلك الفوز الأرادي والاختياري على كفة ترجيحات التمثيل القدري المنصوص احتمالا في لحظات نهايات وجود الأنسان في تقاطعات فرضية المصير،فيما راح يقدم العكس دعما لواقع معايير سنن امتلاء الأنسان بمقصدية الأمال الوجودية المتعددة الابعاد و الدلالات العنيفة على مستوى فاصلية ميزان مقادير الموت والحياة.