23 ديسمبر، 2024 3:10 ص

قراءة ثقافية في كتاب ( رغيف و كتب )

قراءة ثقافية في كتاب ( رغيف و كتب )

لباسم حسين غلب
( التواريخ الموحشة في جمهورية الجوع المرعبة)
مدخل : إن المنحى التصويري و التوصيفي و الإعلامي و التوثيقي ، الذي أخذت تستشف به فصول و أخبار و إحالات عنوانات هذا الكتاب المركزية و الفرعية ، حيث يمكننا صوغها بهذا القول : بعد كل مجزرة دكتاتورية جديدة من سلسلة مجازر و مؤامرات الدول الإقليمية و بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، و خصوصا فيما يتعلق بتلك الدوافع التي جعلت من جامحية هذه الدول و مجلس الأمن ، تقيم أشد العقوبات الاقتصادية على الشعب العراقي رصدا ، و ذلك بعد صدور أوامر الطاغية العسكرتاري صدام حسين ، باجتياح أراضي دولة الكويت . من جهتي هنا أعلن عن بداية المؤامرة العقوباتية و مترتباتها السياسية ، و التي خصت معنوية المحدق الأكبر وهو عين اللحظة الاعتبارية من قبل مخططات الحسبان الأمريكي حينذاك . إن حكاية فصول ( رغيف و كتب ) للكاتب باسم حسين غلب التي راح يستعرض لنا من خلالها أهم خلفيات و دوائر المؤامرة الغربية الدولية ، و في شكلها الإحالي الموثوق تصديقا و مصدرا ، فيما راح يعرج بنا الكاتب نحو شرح جملة الدوافع و المهادنات المسمومة الأمريكية ، و التي كانت في مشروعية نزوعاتها العدوانية ، تختص بأدوات تجويع الفرد العراقي دون رأس النظام الحاكم في بغداد حينذاك ، و الحديث بنا يطول بسرد مأزومية الفرد العراقي الذي ذاق بدوره أشنع الصور التجويعية و التنكيلية في مسيرة حياته مع تلك العقوبات الاقتصادية . لا أود من جهتي الحديث في مقالي هذا حول فصول الكتاب حرفيا ، أي الحديث حول ما تيسر من لغة و رؤية و توثيقية الكتاب ، و إنما سوف أتعامل و إياها ضمن محددات و مقادير قراءة الحالات الانسانية و التماثلات و الصورة الأشهارية الأيقونية الكامنة في محتوى المتن المبحثي ، وصولا منها إلى معالجة تلك المأزوميات بروح القصد التثقيفي و الإشاري و الإعلامي و التنويري ، خاصة و إن عتبات الكتاب الأولى جاءتنا تحمل هذه اليافطة من التخصيص و الصوغية ، التي من شأنها جعل محورية فكرة هذا الكتاب ، تتم كخلاصة تنويرية و تثقيفية موجهة إلى تقادم صعودية الأجيال ، التي لم تشهد و تحيا فعل حسية التفاعل مع مركب تلك الأزمة الاقتصادية التي قامت بفرضها قسرا مجموعة دول التحالف الصليبي على شعب العراق تحديدا .

ـــ نظرية المؤامرة و سلطة تطبيق المؤامرة .
لا شيء أخطر و أدهى من محاولة قطع حبل السرة الذي يربط الأنسان برمقه و وسائل عيشه اليومية ، فعندما ينقطع هذا الحبل أو يتعرض للاهتزاز ، ينعكس ذلك بصورة انقلابية سلبية للغاية ، على كل مكونات الفرد العضوية و النفسية و العاطفية و الانسانية وصولا إلى منظومة انخلاع مبادئه و قيمه الكينونية . فحجم المؤامرة التي قامت بإعداد سيناريو أفلمتها الهوليودية أمريكا ، كانت بمثابة إخضاع سياق عيش المواطن العراقي إزاء خيارات الجوع و العوزمن أجل حصول ذلك التفكيك في بنية و نسق اللحمة الوطنية ، و من أجل حصول تلك الانتفاضة الافتراضية بوجه الطاغية صدام ، حيث يتم استبداله بأخر غيره ، لأجل ادلجة استخبارية تابعية جديدة . و لكن ما أخبرنا به الكتاب قد يتعارض مع فكرة سقوط النظام ، خصوصا و إن :(المجتمع الدولي كان خائفا من ذلك التغيير .. لعدم انسجامه مع التوجهات الغربية .. لأن المد الشيعي غير مرغوب فيه .. لخشيته من اتساع رقعة هذا المد في المنطقة .. و إن النظام القائم في إيران هو نظام شيعي .. يعد مصدر إزعاج للغرب و للدول الخليجية .. لهذا أعطت الإدارة الأمريكية الضوء الأخضر لصدام لقمع الانتفاضة . / رأي في الحصار : ص23 ) و استنادا لهذه المزايدات و المرادات البرغماتية بين حكومة البيت الأبيض و عملية إبقاء صدام حاكما في العراق ، راح يكشف لنا الكاتب حجم الأرتجالات و التحولات و القوالب الأمريكية اللازمة في سيناريو الحبكة السياسية الغربية ضد الشعب العراقي تحديدا ، و نظرا لما قاله الدكتور العنبكي في بحثه الموسوم : ( مشروعية تدابير الحظر الشامل على العراق في ضوء أحكام الميثاق و القانون الدولي لحقوق الإنسان : ــ في الحقيقة ما من شيء في تاريخ تعامل الأمم المتحدة مع أشد الأزمات الدولية خطورة و تأثيرا على مسألة السلم و الأمن الدوليين منذ تأسيسها عام 1945 يناظر نظام الجزاءات من حيث شموله على مناحي الحياة كافة .. و امتداده في الزمان و المكان / ضرورة مراجعة سلطة مجلس الأمن و أهليته فيما يتخذه من أعمال أو تدابير قسرية .. بموجب الفصل السابع . و القيود التي ترد على سلطته التقديرية كمحددات تحول دون انحرافه / وصولا لتقدير مدى مشروعية فرضه لهذه التدابير .. و أستمراره بالتمسك بها في مواجهة العراق حتى الآن . / رأي في الحصار : ص22 ) و في مكان أخر من فقرات هذا الفصل ينقل لنا الكاتب باسم حسين غلب ، حقيقة العدوان الأمريكي ، و كيف كان يخص تخصيصا الفرد العراقي من جملة عدوانه إجمالا : ( لقد اتضح للرأي العام الدولي ــ و كذلك للرأي العام الأمريكي ــ إن القرارات الدولية لم يكن هدفها تدمير الترسانة العسكرية لصدام أو لحماية المنطقة ــ و في مقدمتهم جيران العراق ــ من شبح حروب مدمرة قد يشعلها صدام .. بقدر ما كان الغرض منها القضاء على اللحمة الوطنية .. و على النسيج الاجتماعي في العراق . / رأي في الحصار : ص23 ) و تبعا لكل ما قام باستعراضه الكاتب في مقدمة كتابه ، من حجم تأكيدات المسوغات الدولية الملتوية في هتك و تدمير بنية الفرد العراقي ، حيث نقرأ تتابع الجمل الاستفهامية و التعجبية في متن فصول الكتاب ، و التي أخذت تشير إلى أقصى درجات المؤامرة الدولية الحاصلة من أجل إسقاط و تفسيخ اللحمة الوطنية لدى الفرد العراقي و من ثم تجويعه و إذلاله ، و بأسهل الطرق و الصيغ و الوسائل الماكرة ، و لهذه الضغوطات بطبيعة الحال لها آلياتها الاستنزافية الهالكة التي راح من خلالها الفرد العراقي ينحط في النزول إلى أقصى سلم الانحدار عن قيمه و عفته و بأسمى الاعتبارات الثقافية و الدينية و الاخلاقية لديه إفتراقا . و مرورا بفصل ( التحولات الصناعية ) نعاين مدى حجم التلاعب و الزوغان و التزوير و الغش في المنتج الغذائي : ( ومن المواد الغذائية التي طالها التلاعب و الغش الصناعي ــ صناعة الحلوى ــ فقد أدخلت عليها مواد غير صالحة أو غير مخصصة للاستهلاك البشري .. فبعد اختفاء زبدة الكاكاو و هي مادة غذائية تستعمل في صناعة الكاكاو في زمن الحصار أصبح لزاما على أصحاب معامل القطاع الخاص و بعد أن وجدوا أنفسهم عاجزين عن صناعة الكاكاو بسبب غياب هذه المادة .. أن يلجؤوا إلى استعمال الشمع الصناعي . / الصناعات الغذائية ــ فصل التحولات الصناعية ــ : ص28 ) و هناك عنوانات فرعية في متن الكتاب ، راحت تعزز حجم المأساة التي طالت هذا الشعب المسكين ، كحال هذه العنوانات الدالة : ( انتعاش مهنة الاسكافي / تأثر الصناعة المحلية / وللدبابات المدمرة فوائد ! / بدائل كهربائية / من فوائد الفانوس الآخر / بدائل الشيلمان / أسطوانة الغاز المعطوبة / الخيوط بدلا من القطن / وسائل النخل في زمن الحصار / التحولات التجارية : التجارة بين المحافظات / تجارة الصفيح / الربح على حساب الآخرين / الكيل و الميزان / انتشار السلف / بالتقسيط / خط و نخلة و فسفورة ! / عطور مزيفة / ثياب مقلوبة !/ تجارة النوى !/ بيوت أم مساجد ! / الإزرار و السحابات القديمة ) و هنالك في متن الكتاب عنوانات مركزية و فرعية ، قد لا يطال مقالنا في عرضها إجمالا ، ولكن ما يعنينا في الأمر هنا هو فكرة ثنائية ( حوار النص / و حوار الصورة ) و أسئلة الجياع في جمهورية الرعب ، و وفق ما تصبو إليه مباحث فصول و صور و تصويرات رؤى الكتاب ، حيث علينا جمع و تفكيك إمكانيات و استعمال اللقطات الوثائقية و الأرشيفية ، كوسيلة تعبيرية ، نسعى من خلالها إلى فهم خواصية المادة التوثيقية و التصويرية في محكيات اللقطة الإخبارية ، كوثيقة تتحدث عن حقيقة متوحشة عاشها الفرد العراقي ، وعلى نحو كارثي من الأزمة و التشرد و الشحاذية و التفكك مع تفاصيل أسرته و ذاته و قيمه ودينه .

ـــ جدل الحقيقة و تسجيل الحقيقة .
و يكفي أن نشير في مجال هذا الفصل إلى حجم و مثاقفة الدلالات التي يمكن فهمها من خلال الصورة الفوتوغرافية المتواجدة في أسفل أو في الوسط أو في الأعلى من مجال منطقة حدود المنطوق التقريري و الاستطلاعي ، لذا فإننا لا نقف عند حدود القراءة ، إلا من خلال لحظة تواصل إحالات المؤشر الصوري في المقروء الصحفي المؤرشف الدال ، لندرك إن الترابطات المتجلية عبر سطح المكتوب النصي ، قد حلت في حدود أفق علاقة عضوية مع حيثيات ( = نص =صورة = وصلات ) لذا فإننا من خلال معطى النص المصور يتولد لدينا معطى معرفي عام و خاص ، حيث لا يدرك إلا من خلال الوظيفة الوصلية بين النص + الصورة وصولا إلى رؤية متكاملة و موثقة بحسن الإشارة و الأرشفة و الإحالات و الدليل و الإقناع .

( تعليق القراءة )
ما من شك في إن حركة دلالات كتاب ( رغيف و كتب) كان يجسد تلك الصورة الاستفهامية و التعجبية في واقعة ودليل أفق مدلولها القطعي الصريح تطبيقا ، وهو ما راح يلخص بدوره لإيقونة فهم الأجيال ذلك المشهد الزمني المتوحش في جملة تفصيلاته القاهرة في محققات علاقة الذات الجائعة وهي تفقد أثمن مقتنياتها ، لأجل سد حاجة الرمق برغيف من الطحين المهجن ، وهنالك بالمقابل من راح يدفع أعلى مستويات اعتباراته التربوية و الاخلاقية من أجل إطعام صغاره الجياع . هكذا تجسد لنا صورة ملفات كتاب ( رغيف و كتب ) أصعب الأمثلة و الحقائق و الحكايات ، منها حكاية ذلك الشاعر الذي دفعه العوز و الجوع و الحرمان و الفاقة إلى بيع خزانة كتبه و قلمه و ضميره إلى سلطة بائع الطحين و إلى سلطة الدكتاتور طلبا منه للعيش الرغيد . و تبعا لهذا أصبحت الكثير من الأعمال الأدبية في زمن الحصار تابعة لسلطة و إعلام الدكتاتور ، حيث راح الشاعر يكيل أعظم و أجلى كلمات التأليه بحق صدام و زمرته البعثية الفاسدة ، جاعلا منه آلهة في أرض دولة التواريخ المتوحشة و الزنازن المظلمة و أناشيد الجياع . هكذا وجدنا فصول و أسفار و مداليل كتاب ( رغيف و كتب) للكاتب المبدع باسم حسين غلب ، حيث وجدنا الوعي الكتابي فيه مسكون بأهلية الباحث الاجتماعي و المؤرخ و فيوضات الرأي السياسي المصلح أو الهادف إلى الإصلاح . و يمكننا عد هذا الكتاب في كافة موجهاته الأرشيفية و التوثيقية و الخبرية ، بمثابة تلك الصرخة المرسلة دليلا نحو وعي الأجيال الصاعدة التي لم تشهد سوى الحكايات المتناقلة عن هذه المرحلة الزمنية القاهرة من هنا و هناك ، وحول وحشية هذه العلامة المرحلية العصيبة من الوقائع الزمنية الواقعة في البلاد حينذاك . إن عملية قراءة كتاب ( رغيف وكتب ) يمكنها أن تتيح لقارئها فهم و إدراك منطقة الخطر التي تواجهه البلاد و حتى يومنا المعاش هذا .. فالمخطط الأمريكي قد جاءنا اليوم ولكن ليس بأدوات لعبته القديمة .. بل أنه بات يحاربنا بمواقف و آليات قد تبدو أكثر فتكا من الحصار و الضربات الجوية . . و في الختام لا أملك سوى كلمة الحب و التقدير للصديق الأستاذ باسم حسين غلب ، لأنه دائما سباقا في صياغة المفردات و الأفكار الخاصة بالمصلحة العامة ، و التي من شأنها تقديم فعل الانجاز و انجاز فعل التقديم .