بعد تظاهرة الاربعين التي تميزت هذا العام بحالة فريدة اقل ما يقال انها اعجاز حقيقي ونقلة نوعية في الاحتفاء الديني , فهي سجلت اراقاما ضخمة في كل شيء , حتى إن صحيفة مثل الاندبندت الانكليزية كتبت لاحد الكاتبت مقالا ختمته بالقول من اراد الاسلام الحقيقي فليرز الحسين عليه السلام وهذه النتيجة التي وصلتها الكاتبة هي ثمار القيم الحسينية التي تتلقفها الضمائر النقية مهما كانت عقائدها لان الاحرار من كل ملة تجمعهم قيم الحرية وقيم الانسانية الراقية غير المشوبة بما يلوث نقاءها من قيم مزيفة . وتلعب الشعائر الحسينية دورها في ايصال تلك المعاني الحيوية الى تلك العقول الواعية والضمائر النقية .
فجميع أنماط وأشكال الشعائر الحسينيّة التي يبرز فيها شيعة أهل البيت ولاءهم ومحبتهم ومودتهم لأهل بيت النبوّة عليهم أفضل الصلاة والسلام وجميع العادات الأصيلة التي توارثها الأبناء عن الأجداد لو نظرنا اليها بإمعان لوجدنا أنّ جميعها تحتضن لها معطيات جليلة ، ولها مقاصد تهدف لغايات نبيلة ومثاليْْة ،ولها مكاسب عظيمة تثري المجتمع بعطاءاتها وإضاءاتها ،و تنتشل الإنسان من أسر الشهوات والعبوديات الزائفة المصطنعة وحياة الضعة والتخلف والضياع .
البعد الحضاري
(ما خرجت أشراً ولا بطراً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدى أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي)
هذا االحديث المروي عن لسان الحسين عليه السلام لا يعني بالأمر بالمعروف تأسيس المدنيّة الفاضلة والحياة الكريمة المثالية لان هذه طوباوية متعذرة تتعارض والحالة المجتمعية وتخالف الطبيعة الانسانية الميالة الى الاختلاف والاستحواذ انما تعني إن يكون الانسان واعيا لمسؤوليته في الاستخلاف على الارض والتحرر من قيود العبودية والخنوع واعلاء قيمة التوحيد لله وعدم الخضوع لغيرة واقامة المجتمع التي تسوده العدالة بالمفهوم المحمدي القائم على اساس لا اكراه في الدين وعلى قيم حضارية عالية تمنح الانسان حريته بما لا يتعارض مع ثوابت الدين في موازنة حقيقية وواقعية بين ماهو حق وما هو واجب ومحاربة الظلم والجور بكل اشكاله وفي مقدمتها ظلم الانسان لنفسه .
وتعني من النهي عن المنكر محاربة الفساد بكل أشكاله وصوره ،والجهل التخلف وحياة الضعة ومنع الاستبداد بجميع صوره ، وهذه الأمور بلا شك تعتبر عماد أي نهضة حضاريّة وحركة تصحيحيّة للفرد منّا ولمجتمعاتنا .
البعد السياسي
قال المهاتما غاندي موضحا سر انتصار ثورته ضد الإستعمار البريطاني في الهند : (لقد تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر)
هنا يمكن القول إن من اهم القيم والمبادئ والتي جاءت بها الثورة الحسينية هي الثورة على فساد وطغيان الحاكم وحل التبعيّة والعبوديّة لغير اللّه تعالى ، وكذا تصحيح مسار الخلافة الراشدة و تمكين القيادة الشرعية من الأخذ بزمام الأمور وتطبيق الشريعة الحقة والعودة اليها نقية من التلوث الاموي الذي هيمن على الاسلام حتى غدا الاسام المحمدي غريبا ، فكانت الثورة دعوة صريحة لاقامة دولة عادلة تستلهم قيمها من الاسلام الحنيف وتعزز قيمه القائمة على التسامح واحترام الاخر وحفظ حقوقه , دون اكراه ودون تمييز بين المواطنين على اساس الدين فكانت ممارسة الحسينية وان اختصت بطائفة لكن ابوابها ظلت مشرعة امام الجميع من مختلف الطوائف فكانت مشاركة ابناء الطوائف المختلفة ممارسة فريدة تعزز وحدة المجتمع وتعزيز فكرة المواطنة والمشاركة بطريقة يعجز أي فكر سياسي عن ايجاد ارضية مماثلة للتاخي بين ابناء المجتمع وشرعت الشعائر الحسينية ابواها للتالف بين شعوب دول متعددة في اجتماع عالمي كما حصل ويحصل في الزيارة الاربعينية التي تمثل مؤتمرا اسلاميا عالميا موازيا لموسم الحج ويتفوق عليه من حيث ضخامة عدد المشاركين .
البعد الاقتصادي
الوجبات التي توزع في أيام عشرة محرم الحرام وبقيّة المناسبات التي تليها في أيام شهري محرّم وصفر تؤمن معيشة الطبقات الفقيرة من المأكل في فترات الوجبات الرئيسيّة على امتداد الفترة الزمنيّة لتلك المراسم والشعائر، وهذا الأمر بدوره بلا شك وبأدنى ملاحظة ينعكس ايجاباً على الوضع الإقتصادي العام ، ويخفف حدة مظاهر الفقر والحرمان في المجتمع ويتسبب في دورة اقتصادية نشطة تسبب انتعاشا للسوق وتفتح موارد كبيرة للدولة العراقية من خلال رسوم تاشيرات الدخول وتنشيط القطاع الفندقي وقطاع النقل وتؤشر ضرورة ايجاد بنى تحتية تسهم في توفير بيئة جاذبة يمكن استثمارها طلية ايام السنة .
البعد الاجتماعي
الشعائر الحسينيّة كلّها تنعقد بصورة جماعية سواء كانت على هيئة مجلس خطابي أو موكب عزائي أو مأتم تأبيني أو بقصد تأدية خدمات للمشاركين في جميع الشعائر بصورها المختلفة ، ولا يخفى ما في ذلك من تربيّة إجتماعيّة متعددة الأبعاد والأطر والأهداف ترتقي بالمجتمع من حالة التشتت والتفرق الى تحقيق التآلف والوحدة وتعزيز أواصرالتعاون على البر والخير وتعميق وشائج التآخي والمحبّة بين أفراده خصوصاً في الشدائد والمحن وعند فقد الأرحام و الأحبة والأعزة ،وتحقيق التكافل من خلال جمع التبرعات العينيّة والنقديّة من أجل دعم الفعاليات والأنشطة والمراسيم والشعائر المختلفة والتبرّع بالجهد والمعونة للقائمين على تنظيم فعالياتها ، وإسعاف ونجدة المحتاجين .
وكل هذه أمور بلا شك تؤصل في المجتمع روح التكاتف والتآلف والمزيد من التآزر والتعاضد والتآخي وتحمل هموم الآخر ونجدته .
البعد الأخلاقي
عصمة صاحب الذكرى تستدعي وتسترعي ضرورة عصمة توجهات أتباعه ومحبيه وشيعته لأنّه القدوة والأسوة والمثل الأعلى الذي يجب أن يحتدى به ، وما القصد من تجديد ذكراه إلا الاحتفاء والإقتداء به وتجديد العهد معه على الأكيد على السير على خطاه وهديه ومنهاج دعوته التي بذل الغالي والنفيس من أجل أهدافه المقدسة ،ومن أجل تحرير الإنسان من أسر الشهوات وقيود إغراءات اللذات المهلكة ،وترك جميع ذمائم الأخلاق ومساوئ السلوكيات الشاذة والتحلي بالأخلاق الفاضلة .
ولو لاحظنا الطريقة المثلى التي تعامل بها عليه السلام مع ألد أعدائه وأشرار أمته ،وكيف كان مشفقاً رؤوفاً رحيماً بهم يريد لهم النجاة والسعادة ، في الوقت الذي كانوا يجاهرون فيه بمعاداته ويريدون له الموت وسفك دمه ، وفي هذا درس كبير للدعوة الى الترفع عن أسباب الفرقة والشقاق وضرورة استنفاد كل الوسائل الممكنة لدعوة المنحرفين والخارجين عن الشرع والقانون الى العودة الى الاستقامة
البعد السلوكي
رفض السلوكيات الشاذّة والمنحرفة على مستوى السلوك الفردي في اضيق دائرة السلوك وإنتهاءاً الى اوسعها المتمثل بالقيادة بشتى صورها في دائرة التوجيه ومركز صنع القرار،ومروراً بالرموز المجتمعيّة من أجل تحرير المجتمعات من التبعيّة للقيادات المنحرفة والرموز الشريرة التي تهدم أكثر مما تبني وتفرق أكثر مما تجمع وتضيع أكثر مما ترشد وتصلح أي انها تمنح الذات الانسانية فرصة التصحيح واختيار السلوك الامثل بعيدا عن كل ما يشوبه من انحرافات .
البعد الروحي
لا شك إن ممارسة الشعائر لا يمكن ربطة دائما برباط التراث المجرد عن الابعاد الروحية والنفسية فاستحضار الواقعة المؤلمة واجواءها المشحونة بمنظر التضحية والدم والتسابق على ذهاب الانفس من اجل اهداف سامية
يهدم الإنغماس بالملذات الدنيويّة ويحرر الإرادة من الوقوع في أسرها ، ويمنح النفس فرصة التامل و الشوق للشهادة والإستبسال والتضحيّة الأمر الذي تسمو معه الروح وتترفع عن الماديّات مهما كان بريقها ساحراً ،كما أن استذكار مواقف سيّد الشهداء عليه السلام ومواقف أنصاره والمخلصين من شيعته الذين بذلوا مهجهم دون الحسين وباعوا الدنيا بالآخرة وطلقوا الدنيا وزينتها وزخرفها وزبارجها يسرع الخطى بالمرء يبعث بنفس الانسان الحر فسحة التسامي عن المظاهر الدنيويّة والفناء في القيم الروحيّة العالية.
البعد القيمي
طرحت ثورة الإمام الحسين عليه السلام كمّاً هائلاً من القيم السامية ووجّه دعوة لا لمناوئيّه فحسب بل خاطب كل أتباع الشهوات والنزوات والإنحرافات دون تقييد بالزمان أو المكان ، كما توجه بالمقابل الى مخاطبة شيعته ومن خلالهم الأحرار في العالم ،وقد سطّر الكثير من تلك الخطابات بدرجاتها المختلفة من خلال مواقفه المتعددة في صراعه مع الباطل والبغي والفساد بشتى مظاهره وصوره .
وقد حفلت الشعائر الحسينيّة بالكثير من الإشارات المختلفة الى مواقفه الخالدة فكانت فرصة لبثها وشرحها وتوصيلها الى جميع الاحرار .
البعد النفسي
إيقاظ مشاعر النفس لتحسس مصائب الآخرين وابراز الحرقة واللوعة في النفوس لا يمكن لأي مصيبة أن تستثير مكامنها لكل أبناء الجنس البشري كما هو الدور الذي إضطلعت به مأساة الطف واستذكار ما حل على أهل بيت النبوّة عليهم الصلاة والسلام .
كما أن الاثار التي تتركها ممارسة الشعائر مثل لطم الصدور وإيلام البدن عند المشاركة في المواكب العزائيّة الحزينة يجعل كل نفس تعيش آلام مصاب فلذة كبد رسول اللّه ومشاركتة ولو بنسبة ضئيلة الالم وتعبر عن الأسى والحزن والمواساة وهي من المصاديق العملية للمودة التي هي اجر الرسول الأعظم
البعد الايحائي العاطفي
الشعائر الحسينيّة تصقل العاطفة من خلال التصوير الدرامي في مخيلة المعزين لمجريات الأحداث المؤلمة التي حلّت على أشرف خلق اللّه تعالى وأقربهم عنده منزلة فتشتعل جذوة الوجد والأسى والحزن و تستثير العواطف.وتستنهض الضمير وتعود به الى فطرته السليمة لتبعد عنه كل عوامل الوهن التي اصابته أو قد تصيبه فتكون ممارسة الشعر وسيلة ايحاء للضمير تجعله يقظا حساسا لواقعه ومرتبطا بائمته ورموز دينه وبالتالي التواصل العاطفي مع الامة والامها والاستنارة بتاريخها المنير والابتعاد عن اسباب الانحطاط وعن مغريات الفتن والتسلح بكل عناصر القوة الكامنة في ضمير الامة الواعي .
وهذا بحد ذاته من الأمور التي جهدت كل شرائع الأديان الإلهيّة في مقاصدها العليا لهداية العالمين إليها لكنها لم تتحق في صورتها المثالية المتكاملة إلا على يد خاتم الرسالات النبي المصطفى وأهل بيته السادات عليهم أفضل الصلوات والتحيات والتي تتلخص ثمراتها في تحقيق إنسانية الإنسان ،وتطبيق مبادئه المثالية السامية ،وتنمية قيم الخير فيه ، التأكيد على نزاهة دوافعه ، وتفعيل الرقابة الإلهيّة على وجدانه ووجوده وحركاته وسكناته ،وتربي في الإنسان كيف يتحسس هموم الآخرين .
البعد الادبي
يعتبر التراث المأثور من أدب الرثاء والندب بقسميه المنظوم والمنثور الخاص بسرد واقعة كربلاء وبيان ما حل على أهل بيت النبوّة من مآسي ومصائب وتجاوزات وهتك لحرمتهم أعظم تراث أدبي أفرزته عواطف الإنسان العربي وكل أصحاب لغة أخرى دان أهلها بالولاء والمحبّة لأهل البيت عليهم السلام ، كما هو مألوف ومتعارف ومتسالم عليه في الأدب الفارسي والهندي والتركي والألباني وغيرها .
وقد أكد هذه الحقيقة وصححها جمع من أساطين الأدباء وفطاحل البلغاء والشعراء ، بشهادة الكثير من المصنفات المعقودة في ذلك ودواوين الشعر وكتب المنثور .
البعد التوعوي
إن عظمة الحسين وثورته لا يعني إن ناخذ الوقائع التاريخية التي طرحت وتطرح دون تمحيص لان الواقع يؤكد إن الكثير من الروايات التي رسخت في الاذهان على أنها حقيقة ما جرى في واقعة الطف , إن هي الا مفتريات سوقها لنا قصور في الرؤيا وصدقناها لكثرة نقلها حتى بدت متواترة لا يجوز التشكيك بها , فيما اثبت المحققون زيفها وعدم حقيقتها فهنا على المختصين إن يتصدوا لتصحيح تلك الروايات لان عظمة الاهداف الحسينية والشجاعة النادرة والقيم الخالدة التي قدمها الحسين عليه السلام واصحابه الاخيار لا تحتاج الى الافتراء فالشمس لا تحتاج لبراهين او روايات لاثبات وجودها ونورها . فلو لم يقتل الحسين فردا واحدا لا يقلل من شجاعته ولا نحتاج لاثبات شجاعته بان ناتي برواية تقول إن الحسين عليه السلام قتل منهم اربعة الاف فارس, ولو يمنع الامويون الماء عن الحسين وعياله لا يغير من وضعهم كقتلة لابناء النبي لا يملكون ذرة من القيم الانسانية والاخلاق . وستبقى عاشوراء الحسين دعوة لحرية الانسان وعنوانا بارزا لكرامة النسان