في صباح يوم الخامس من نيسان 1939 ، نقل جثمان الملك من قصر الزهور إلى البلاط الملكي الواقع في منطقة الكسرة ، وشيعت جنازته في أحتفال مهيب بتوجيه من السيد تحسين قدري رئيس التشريفات الملكية، ثم نقل الى المقبرة الملكية في الأعظمية في الساعة الثامنة صباحاً، محمولا على عربة مدفع ، حيث دفن الى جانب والده الملك فيصل الأول، وكان الطريق محاطاً من الجانبين بآلاف الناس وهم مذهولون من هول المفاجأة ثم خرج الشعب برمته الى الشارع معلنين اتهامهم البريطانيين ونوري السعيد بقتله.
ويصف القائم بأعمال السفيرالبريطاني (هوستن بازويل) مراسيم التشييع في بغداد”كانت الساحات والطرقات الرئيسة للمدينة مزدحمة بالمعزين يندبون ويضربون على صدورهم وينفشون شعورهم مبدين غيظهم وحزنهم مرددين الخطابات الحماسية والأشعار( نوري نوري لازم تدفع دمه لغازي ) ، وكنت مرافقا للكابتن هولت قائد القوة الجوية، وكان يحيطنا صفان من الضباط، وكان بعض المشيعين ينظرون الينا بصمت والدمع ينهمر من العيون وكان بينهم نساء قد أسلمن أنفسهن للحزن الهستيري يمزقن أثوابهن ويغطين رؤوسهن بالطين من السواقي”.
ولم يكد خبرمقتل الملك غازي يصل الى أسماع الشعب حتى هبت الجماهير الغاضبة في مظاهرات صاخبة أتجهت نحو السفارة البريطانية هاتفة ومنددة بالأمبريالية البريطانية وعميلها نوري السعيد وأمتدت المظاهرات الغاضبة الى سائر مدن العراق من أقصاه الى أقصاه، وهم يهزجون : ( الله أكبر يا عرب غازي أنفكد من داره … وأهتزت أركان السما من صدمة السيارة ) ، ووزعت الجماهير منشورات تقول أن الملك غازي لم يصطدم بالسيارة كما تدعي حكومة نوري السعيد وإنما قتل بعملية إغتيال دبرتها بريطانيا وعملاؤها، ولذلك خرج نوري السعيد مسرعاً بعد إتمام مراسيم دفن الملك غازي في المقبرة الملكية، مستقلاً زورقاً بخارياً من المقبرة الى داره في الكرخ.
وقام نوري السعيد بنشر أعداد كثيفة من الشرطة لقمع المظاهرات، وأعلنت الأحكام العرفية في الموصل واعتقلوا الكثير من الشباب الذين كانوا يوزعون المناشير، وأحيل المتهمون بقتل القنصل الى المحاكم العسكرية.
حاول الإنكليز إبعاد التهمة عنهم، وادعوا أن الدعاية الألمانية هي التي تروج مثل هذه الدعاية ضد بريطانيا، كما ادعوا أن موظفي السفارة الألمانية، والأساتذة الجامعيين هم الذين يحرضون جماهير الشعب ضد بريطانيا، وضد حكومة نوري السعيد.
كان رد فعل الجماهير الشعبية في الموصل شديداً جداً، حيث خرجت مظاهرة ضخمة، وتوجهت نحو القنصلية البريطانية وهاجمتها، وقتلت القنصل البريطاني في الموصل، المستر [مونك ميسن]، وكانت الجماهير تهتف بسقوط الاستعمار البريطاني، وحكومة نوري السعيد العميلة، وكانت الجماهير بحالة من الغضب الشديد بحيث أنها لو ظفرت بنوري السعيد لمزقته إرباً.
لكن ما يؤسف له هو مهاجمة الحي اليهودي في بغداد، و وقوع عمليات النهب وحرق مساكن اليهود. وقد استغل نوري السعيد الأحكام العرفية التي كانت قد أعلنت في البلاد قبل شهر من مقتل الملك، وقام بنشر أعداد كثيفة من قوات الشرطة لقمع المظاهرات، وجرى اعتقال الكثير من المتظاهرين.
ولتغطية جريمة الاغتيال سارعت حكومة نوري السعيد إلى إصدار بيان رسمي يتضمن تقرير طبي صادر عن هيئة من الأطباء عن سبب وفاة الملك غازي، وجاء في البيان ما يلي:
( ننعي بمزيد من الأسف وفاة صاحب الجلالة الملك غازي الأول في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الأربعين من ليلة 3- 4 نيسان 1939، متأثراً من كسر شديد للغاية في عظام الجمجمة، وتمزق واسع في المخ، وقد حصلت هذه الجروح نتيجة أصطدام سيارة صاحب الجلالة، عندما كان يسوقها بنفسه، بعمود كهرباء بالقرب من قصر الزهور، في الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً، وفقد الملك شعوره مباشرة بعد الاصطدام، ولم يسترجع وعيه حتى اللحظة الأخيرة
التواقيع:
د. جلال حمدي
د. صبيح وهبي
د. صائب شوكت
د.أبراهام
د.سندرسن
3 – 4 نيسان 1939).(الحسني ، عبد الرزاق ، تأريخ الوزارات العراقية ، ج 5، ص 76).
يقول الفريق نور الدين محمود، الذي شغل منصب رئيس أركان الجيش، ثم رئيساً للوزراء عام 1952، حول حقيقة مقتل الملك غازي ما يلي:
(أنه اصطدام غامض وعويص، لا يسع الإنسان مهما كان بسيطاً في ملاحظته إلا أن يكذّب زعم الحكومة، وهو يقارنه بالأدلة التي يراها في مكان الحادث).(الحسني ، عبد الرزاق ، تأريخ الوزارات العراقية ، ج 5، ص 87).
أما العقيد صلاح الدين الصباغ فيقول في مذكراته:
(قضت المصالح البريطانية اغتيال الملك غازي، فتم في ليلة 3 / 4 نيسان 1939 وهو في السابعة والعشرين من عمره). (الصباغ ، صلاح الدين ، فرسان العروبة ، ص 87)
ويقول الأستاذ (جان ولف) في كتابه (يقظة العالم العربي):
(مات الملك غازي على أثر حادث غريب، فقد اصطدمت سيارته دون ما سبب وجيه، بينما كان يقودها بسرعة معقولة، فتعالى الهمس في بغداد متهماً بعض الجهات بتدبير الحادث) (وولف ،جان، يقظة العالم العربي ، ص 120)
وقال الأستاذ (كارتاكوز) في كتابه ( ثورة العراق) ما يلي:
{ لعل مأثرته الرئيسية ـ يقصد الملك غازي ـ انه قد لاقى حتفه بشكل عنيف في حادث سيارة يعتقد أن البريطانيين وأعوانهم من العراقيين هم الذين فعلوه). (كارتاكوز، ثورة العراق ، ص32)
وجاء الدليل القاطع بعد سنوات طويلة، عندما التقى الأستاذ عبد الرزاق الحسني، مؤلف تاريخ الوزارات العراقية، في 8 نيسان 1975 بالدكتور (صائب شوكت) طبيب الملك غازي الخاص، وأول من قام بفحصه قبل وفاته، وسأله عن حقيقة مقتله فأجابه بما يلي:
( كنت أول من فحص الملك غازي بناء على طلب السيدين نوري السعيد و رستم حيدر لمعرفة درجة الخطر الذي يحيق بحياته، وأن نوري السعيد طلب إليّ أن أقول في تقريري أن الحادث كان نتيجة اصطدام سيارة الملك بعمود الكهرباء، وأنا أعتقد أنه قد قتل نتيجة ضربة على أم رأسه بقضيب حديدي بشدة، وربما استُخدم شقيق الخادم الذي قُتل في القصر، والذي كان معه في السيارة لتنفيذ عملية الاغتيال، فقد جيء بالخادم فور وقوع العملية إليّ وكان مصاباً بخلع في ذراعه، وقمت بإعادة الذراع إلى وضعه الطبيعي، ثم اختفي الخادم، ومعه عامل اللاسلكي منذ ذلك اليوم وإلى الأبد، ولا أحد يعرف عن مصيرهما حتى يومنا هذا).
كما التقى السيد عبد الرزاق الحسني بالسيد ناجي شوكت الذي كان وزيراً للداخلية آنذاك وسأله عن حقيقة مقتل الملك غازي ما يلي:
( لقد احتفظت بسر دفين لسنين طويلة، وها قد جاء الآن الوقت لإفشائه، كانت آثار البشر والمسرة طافحة على وجوه نوري السعيد، ورستم حيدر، ورشيد عالي الكيلاني، وطه الهاشمي، بعد أن تأكدوا من وفاة الملك، وكان هؤلاء الأربعة قد تضرروا من انقلاب بكر صدقي، واتهموا الملك غازي بأنه كان على علم بالانقلاب، وأنا أعتقد أن لعبد الإله ونوري السعيد مساهمة فعلية في فاجعة الملك غازي). (الحسني ، عبد الرزاق ، تأريخ الوزارات العراقية ، ج 5، ص 81).
وهكذا أسدل الستار على مقتل الملك غازي وانهمك المتآمرون بعد دفنه بترتيب الأمور لتنصيب عبد الإله وصياً على العرش.