23 ديسمبر، 2024 10:51 ص

قراءة انطباعية في قصيدة الشاعر محمد جلال الصائغ ( بين الجسد و الروح )

قراءة انطباعية في قصيدة الشاعر محمد جلال الصائغ ( بين الجسد و الروح )

يوما بعد آخر .. يزداد عدد الراكسين في وحل الانحراف الثقافي والخيانة الثقافية العظمى .. ويبدو إن الكثير من الشعراء المهمين سقطوا في فخ الاحتفاء بالتفاهات لأسباب مختلفة …
ويبدو إن الكثير من النقاد والدارسين والشعراء اللذين يكتبون عن التجارب الشعرية المعاصرة قد أمعنوا في الإساءة إلى النقد والشعر وهم يمجدون نصوصا بالغة السخافة لأسماء مختلفة مستخدمين حيلة النقد الأكاديمي الذي يتناول النص كما يتناول الأستاذ مبرهنة رياضيات أو سؤال فيزياء !…
لن تجد مثقفا محترما يلومك وأنت تلقي في مزبلة التاريخ الثقافي نصف ما ينشر في المطبوعات الورقية وثلاثة أرباع ما ينشر في الصحف ومواقع الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي .. ولن يختلف على جرأتك عاقلان وأنت تقول في علنك : ها هم النثريون قد افسدوا في الشعر وقتلوا المعنى بغير وجه حق .. اللهم ارزقنا ربيعا عموديا !…
المثير في الأمر إن العمود الحديث الذي جرد نفسه من الصور الشعرية قد تنكر للمعنى أيضا مقلدا قصيدة النثر وصار الشعراء يكتبون بطريقة التراكيب اللغوية معتمدين على خبرتهم في استنزاف اللغة …
وبالرغم من وجود الكثير من النصوص النثرية الرائعة التي يكتبها شعراء مبدعون ومنهم شباب سيكون لهم مستقبل شعري كبير .. لكن من الصعب نسيان خطيئة قصيدة النثر المتمثلة بتفريخ المئات من (الشعراء) اللذين لوثوا المشهد الثقافي …
وفي عالم ثقافي (فيسبوكي) تحكمه العصابات الأدبية التي تصدر وتستورد الاعجابات والتعليقات بطرق غير شرعية .. وفي عالم ثقافي حقيقي متخم بالمخالفات والأخطاء والخطايا .. تأتي إلينا بين الحين والآخر قصائد مهمة تبشر بربيع شعري .. وتولد نصوص تغرد خارج سرب العشوائيات ..
(بين الجسد والروح) .. قصيدة الشاعر المميز محمد جلال الصائغ .. قصيدة صغيرة تتألف من احد عشر بيتا .. أجمل ما في القصيدة هو إنها غير قابلة للقراءة بالهمس .. أنت تحتاج لقراءتها بصوت عال لتشبع حواسك السبع .. لتستمتع بها .. لتشعر وأنت تقرأها بان الحياة جديرة بان نحياها …
اردد أبياتها ذات النكهة النزارية .. وابعث برقية موجوعة إلى حبي الأول .. وقصيدتي الأولى .. وحماقاتي المبكرة .. مخترقا كل المسافات الزمانية والمكانية .. وربما ذلك يحدث كلما قرأت قصيدة تحتفي بوجه الحبيبة الحزين …
دائما ما تكون هناك تهمة جاهزة لهذا النوع من القصائد بأنها قصائد نزارية وان الشاعر مقلد لا أكثر .. ويبدو لي إن هذا الرأي لا يمكن تعميمه أبدا لان الاحتفاء بحزن الحبيبة ووجهها وشفتيها وصدرها وجسدها ليس شأنا نزاريا وحسب .. وما دام الشاعر يكتب بأسلوبه مستخدما مفرداته الشعرية وبصمة روحه فليس لأحد أن يتهمه بالتقليد .. كما إننا يجب ألا نغفل موضوع التأثر الايجابي في الأدب عموما حيث يتم خزن طاقة ما نقراه يوميا في اللا وعي ، وبعد ذلك بأشهر أو سنوات أو عقود سنكتب  بلغتنا الخاصة متأثرين بما قرأنا  في الماضي مستثمرين طاقة اللا وعي …

مُذْ  جاءَ  صَدْرُكِ غيثاً  في ظما جسدي
أبْدَلْتِ   بي  شهوتي   للنومِ   بالسَهَدِ
وَكُنْتُ    قَبْلَكِ   مَزهواً   إذا   عَبَرَتْ
تحتي  النساءُ   وكم   فاخرتُ   بالعدد
كَمْ   قبلةٍ    قَبْلَها  قَبَّلْتُ  دونَ  هوىً
لَكنَّ    قُبْلَتَها    قَدْ    أَشْعَلَتْ   كبدي

تبدأ القصيدة الأنيقة بحرمان اللغة من جميع امتيازاتها الشعرية وتسخيرها لخدمة فكرة البساطة المدهشة .. ويبدو إن الإيقاع الراقص يعلن عن نفسه منذ البداية كأحد عوامل التميز والجمال للقصيدة ..
ولاحظوا كيف يتم ترويض اللغة كي لا يسقط المعنى سهوا أو عمدا ..

في  خصرها  دارَتِ   الأكوانُ   دورَتَها
وَنَهْدُها    قطةٌ   بيضاءُ   وسط   يدي
لما دنوتُ  دَنَتْ  ما  كنتُ  غيرَ  لظىً
و لم   تكن   غيرَ   بُركاني    وَمُتَّقدي
عيونُها    غابةٌ    خضراءُ     تسكنني
وَجسْمُها  عنفوانُ   الريحِ  في   بلدي

الصور الشعرية تسيطر على مسرح القصيدة بنفس القدر من الحشد اللغوي وبذات الإيقاع الذي يراقص الذائقة ويسكب الفرح الشاحب على ملامح القارئ .. ففي خصر الحبيبة تدور الأكوان بمجراتها وكواكبها وشموسها ، ونهدها يشبه قطة بيضاء وهو يستسلم لمحبة اليد وشغفها .. يقترب منها ، فتقترب ، يلتقيان كما تلتقي النار ببركان ثائر .. وعيون الحبيبة الخضراء جعلت كل شيء يبدو اخضرا في عيون الحبيب ، وجعلته محبا للسلام والخير وجعلت قلبه نقيا .. أما جسم الحبيبة فقد عصف طقسه المدمر بمشاعره …

والله  إن  الذي  قَدْ  قُلْتُ  عَنْ  جَسَدٍ
ما  مرَّ  يوماً    ببالي   أو   بمعتقدي
إني   لأكذبُ  ما  أَحْبَبْتُ  لا  جسداً
ولا   نهوداً   ولا   ثغراً   وَلَمْ    أكَدِ

هنا نقطة الانقلاب في القصيدة .. الشاعر يقسم إن ما قاله عن هذا الجسد وطيباته ليس من طبعه ، وانه لم يعشق حبيبته لجسدها ، ويبدو إن أبياته الأولى كتبت في لحظة ضعف بايلوجية تقاطعت مع لحظة قوة شعرية …

أحْبَبْتُ فيها جمالَ الروحِ …. بَهْجَتَها
أحْبَبْتُ  فيها   حديثاً   رائعاً   وَنَدي
أحْبَبْتُ ضِحْكَتَها …. أفراحَها… وَلَقَدْ
أحْبَبْتُ    نَزْعَتَها    لِلْحُزْنِ     والنَكَدِ
أحْبَبْتُ  غيرَتَها  وهي  التي   عَلِمَتْ
إني  سأبقى  لها   عبداً  إلى    الأبَد

الأبيات الثلاثة الأخيرة من القصيدة .. قصيدة مصغرة وسط القصيدة الأصل .. شهادة مؤثرة مفعمة بمشاعر الصدق .. وبوح جميل يقوده إيقاع تعشقه الأذن .. ولغة متحضرة رشيقة واضحة تمنح معناها لكل قارئ …
إن الاحتفاء بقصائد كقصيدة الشاعر الصائغ هنا .. رسالة موجهة إلى أولئك اللذين قتلوا المعنى أو ضيعوه وهم يلعبون لعبتهم اللغوية ، أو غدروا به وهم يؤسسون لقصيدة كونية ..
ويبقى السؤال الأبرز : أيهما أجمل .. هذه القصيدة .. أم .. بعض القصائد الكونية الخالية من المعنى واليتيمة الموضوع .. وبعض قصائد النثر المعجونة من الفلسفة المائعة والتحشيد اللغوي الأخرق ؟…
ولعل آخر ما قرأت من شعر النثر قول احدهم :
حيض حامض ..
قط يتبول في آخر الزقاق !!!