23 ديسمبر، 2024 6:21 م

قراءة اتصالية / قراءة منتخبة من (مكاشفات..مابعد الرحيل ) للشاعر مصطفى عبدالله..(1947-1989)

قراءة اتصالية / قراءة منتخبة من (مكاشفات..مابعد الرحيل ) للشاعر مصطفى عبدالله..(1947-1989)

(1)
تحاول هذه الورقة ان تنتخب قصيدة (الجثة /ص43) لتسلط الضوء على الاتصالية الجوانية بين الأنساق الاربعة للقصيدة وعلى الاتصالية البرانية/ الجوانية في القصيدة ذاتها وبين قصائد مماثلة في ..(مكاشفات ماقبل الرحيل)..علما ان ورقتنا هذه منتزعة من أوراق أخر،كنا قد كتبناها منذ سنين وتحديدا قبل صدور المجموعة التي يتوفر لدينا شخصيا القسم الاكبر من قصائد (الاجنبي الجميل) الشاعر مصطفى عبدالله حسين ..الذي لم يؤجل موته بل تقدم به طاعنا أيامه بالأشجار والأحتفالات  (أتقدم  طاعنا  أيامي بالأشجار والأحتفالات /ص101/ قصيدة صورة العاشق )..أليس مصطفى عبدالله هو ذلك الشاعر الصائح فينا (أنا الطالع مثل رمح الى حلبة الليل والنهار /ص63/ أغنية الخط المستقيم)
(2)
الجثة
في ليلة أمس
نشط الطقس
كان ظلام الغرفة مُحترَما، لم يمسسه الضوء
وقد خرج العمال نظيفين .وسدّوا الباب الأسود
والشبّاك الأسود، دون ضجيج ،غير أصابعهم
وحفيف الورد .
كانت في الأعلى قرب الله، الغرفة كانت في الأعلى .
العمال أنيقون بعطرٍ واشٍ وخواتم لاصفة .
والقمصان منشاة والبدلات السوداء مهيّأة يلمسها
الضوءُ فتشمخ دون صرير .
أبيض هذا الوجه النائم بين الورد، نظيف
وأنيق كأمير…أبيض بين الحيطان البيضاء
أبيض هادىء قرب الله…
فتوالى العمال الخمسة كالنقر الهادىء فوق الباب
سدّوا فمه بالقطن الرطب، فلم يتحرك طرفٌ
فيه،حتى ارتفعت جوزته تحت أصابعهم وأنحطّت ،
وتراخى شيءٌ في فمه.
كانت غرفته في أعلى. كان وحيدا قرب الصمت .
وفي ليلة أمس،
فكّر بالشمس…
ورتّب شرشفه الأبيض، أحرق أوراقا، ولعل
رسالته لم يحرقها… خشية ان يمسكها العمال
النشطون الساعون .
الجسد الحافل بالصمت الابيض، والزهرة تذبل ُ
تذبلُ تحت الحاجب مثل الجفنِ، ورائحة الصابون
الناشف تنشف بين اللحم و أصداف الأبهامين .
خرجوا للشارع. كان الفجرُ سخيا فوق شواربهم،
لاشيء تنفّس.تم الفعلُ خفيفا كالغمزة…
كالنملة تحت حذاء كاتم… ترللا تم .
تم، تمتم…تم…تمتم…هز الكتفين.
(3)
تتوزع قصيدة (الجثة) بين لونين أساسيين ..كأن القصيدة شريط سينمي، تعمد المخرج الاكتفاء بتوظيف اللونين فقط ، أقول تعمد ،على وفرة تقنية الألوان ..مثلما تعمد المخرج الروسي لفلم(اغصان الجيجوخري)* الأكتفاء بلوني الأبيض والأسود لتعميق التلقي،لتعميق الاندراج الدلالي ،لما بين اللونين من حد فاصل/ قاطع/ حاد..وتجربة الشاعر مصطفى عبد الله مع الشريط السينمي تبدأ مع طفولته وصباه حيث كان يجمع افراد عائلته ليعرض لهم عبر جهازه السينمي البدائي :ملصقات من لقطات سينمية ،ثم كبر مصطفى والجهاز تعقدت آلياته وشارك مصطفى في أفلام وثائقية
وتسجيلية بكتابة السيناريوهات وهو يأكل خبزه البارد في المنافي*
حين أستيقظ مصطفى من الحياة وجدناه لم يقطف سوى( 43) زهرة، فالزهرة هي وحدة قياس العمر التي تليق بمصطفى عبدالله
فالزهرة هي الاتصالية الشعرية في قصائد الاجنبي الجميل مصطفى عبدالله.
(4)
قصيدة (الجثة) لها اتصالية/ برانية مع قصيدة (اللون الصامت) أولى القصائد في المجموعة وهي مكتوبة في 1968 كما هو مثّبت
من قبل الشاعر..ولاتخلو القصيدة من التأثر لونيا وإيقاعيا بتجربة الشاعر العراقي الكبير بلند الحيدري،والتأثر من سمات البداية لدى كل مبدع..
اللون الصامت
لاأعرفُ ماذا أرسم..؟
أعطوني الألوان وقالوا :
إرسم وجها يبكي،لاندري ماذا نعطيه ، فيسكت
إرسم سيفا يحرثُ فوق الخدين
إرسم صوتا مُتَعب ،
تاه بصحراء المغرب
إرسم عينين بعمقين
إرسم وجها بشريا
أمّد يدي
أعجنُ كل الألوان بأحشائي
أسقطها فوق الطين وأشرب
خذ كأسا يامن صارت أحلامك لصا
ها إني تمتد يدي، منتظرا ان تصف الالوان
قد قالوا لي: إرسم وجها بشريا
يبكي لاندري ماذا نعطيه،فيسكت
أمّدُ يدي
دع قدميك الهاربتين
تأخذ مني مفتاحا ،تقفل حدّ الأثر
دع وجهك يأخذ من ريح الزرع المحتضر
من دبق النهر المكريّ
قدر شهيقين
فرشاتي،صدأت كل الالوان عليها
صارت اوراقي سوداء
والصيف يميت الاشجار العطرية
فمتى تأتي يانوّار
ألواني في بحر أزرق
فمتى تأتي، تصنع لي زورق
قلبي دفقه، عيناي الريح، وأعصابي حبلٌ بشراعه
(قد تحبل بي سحب…!)
يا ألواني،إني جئتُ كي أرسم وجها لن يبكي
وجها يصف الآمال ،يسمّي الاشياء
يا ألواني جئتُ ولن يعبر فصل لاأعرفهُ
لن يعبر ميلاد ، لاأعرفهُ
(4)
 الابيض والأسود في قصيدة (الجثة) لايتداخلان ولايرمي أحدهما بظله على الآخر ………………
(أنت تعرف الظل
    هذا المنافق الكبير
بين الظلام والضوء/ ص76/ قصيدة / هو) والظل هو المنافق بين صحبتين / الضوء والظلام  / ص119/ قصيدة المطر الجميل
(لقد تهيأت بالبحر والخنادق والأشجار
 ضد الظل
 هذا المنافق بين صحبتين : الضوء والظلام )..وللظل وظيفة أخرى تنز وجعا شرسا ،وفي ذات الوقت تضخ شعرية متفردة
:(كان ظل الحصان على الرمل
     سقفا لأهل المكان/ ص36/ الحصان) والظل لايبقى على ما إلفناه ،الظل يتأنسن في قصائد مصطفى عبدالله
(هزتنا ريح
 وأنطفأ المصباح
…فأشتعل الظل
وألتم العمر سريعا حول حناجرهم/ ص42/ ياخلوة التابوت)
وبالتضاد مع اشتعال الظل يكون فتح الفم بمثابة نفح على المصباح
(كلنا أتينا صامتين
وعندما فتحنا أفواهنا
أهتز ثم انطفأ المصباح /ص49/ مكاشفات) وأحيانا يكون الظل صالحا للأستعمال مثل كرسي
(الجلوس على الحافة
   حافة كرسي
   حافة سرير
   حافة ظل أو وطن/ ص50)
 
(5)
بنائيا تتوزع قصيدة (الجثة) في أربعة أنساق وهي كالتالي
في ليلة أمس
نشط الطقس
كان ظلام الغرفة محترما لم يمسسه الضوء
وقد خرج العمال نظيفين ،سدوا الباب الأسود
والشباك الأسود ،دون ضجيج ،غير أصابعهم
وحفيف الورد .
كانت في الأعلى قرب الله ،الغرفة كانت في الأعلى
العمال أنيقون بعطر ٍ واش ٍ وخواتم لاصفة
والقمصان منشاة والبدلات السوداء مهيأة يلمسها
الضوء فتشمخ دون صرير .
نلاحظ ان النسق الأول أشبه مايكون لقطة كبيرة في فضاء مفتوح..
لقطة تومىء الى ان فعلا معينا غير نظيف ،قد حدث للتو.
في النسق الثاني،تدخل الكاميرا الى فضاء مغلق /مفتوح ..فضاء صغير،لتعيد الكاميرا ،سرد ما حدث قبل قليل وبالضبط قبل خروج العمال :
أبيض هذا الوجه النائم بين الورد ،نظيف
وأنيق كأمير… أبيض بين الحيطان البيضاء
أبيض هادىء قرب الله .
فتوالى العمال الخمسة كالنقر الهادىء فوق الباب
سدّوا فمه بالقطن الرطب، فلم يتحرك طرف
فيه،حتى ارتفعت (جوزته) تحت أصابعهم وأنحطت
وتراخى شيء في فمه
كانت غرفته في أعلى، كان وحيدا قرب الصمت.
كلنا يعرف مَن يضطر الى السكن في أعالي العمارات. لكن للعلو هنا وظيفته الاشارية في قصائد مصطفى..ليست الغرفة وحدها في الاعلى،بل الأرض كلها تكون عالية عندما يكون ثمة حضور متميز يثير التساؤل،كما هو الحال في قصيدة (البحث عن الاستقامة):
لماذا يكون السقف بهذا الدنو
عندما يقف العاشق
وتكون الأرض بهذا العلو
عندما يجلس ؟ /ص111

(6)
النسق الثالث : عودة سريعة الى الخلف ،فهو اذن نسق استذكاري
وفي ليلة أمس
فكّر بالشمس
ورتّب شرشفه الأبيض ،أحرق أوراقا (ولعل رسائله لم يحرقها)
…خشية ان يمسكها العمال النشطون الساعون
الجسد الحافل بالصمت الأبيض ،والزهرة تذبل
تذبل تحت الحاجب مثل الجفن ورائحة الصابون
الناشف تنشف بين اللحم وأصداف الصابون
(7)
النسق الرابع : تكرار اتصالي للنسق الاول مع توسيع  الدلالة
خرجوا للشارع ،كان الفجر سخيا فوق شواربهم
لاشيء تنفس،تم الفعل خفيفا كالغمزة
كالنملة فوق حذاء كاتم..ترللا تم
تم تمتم…تم تمتم…هز الكتفين.
(8)
ان هذه الأنساق الأربعة تفعّل مهيمنة القصيدة والمتمثلة بالصراع الدموي بين الواحد/ الكثرة…واحد  هو المتقوس نصرا لعبور مَن
أفتداهم بحياته وعلى الجانب المضاد هناك كثرة ظلامية كقطيع
والأمر كالتالي ضمن فضاء النص
*ظلام الفضاء المغلق/ المأوى الشاق للواحد المطارد
(ظلام الغرفة محترما،لم يمسسه الضوء)
*ظلام باب المدخل والمنفذ
(سدوا الباب الاسود والشباك الاسود)..والظلام سيواجهنا في المنجز الفذّ في شعر مصطفى وفي شعرنا العراقي فهو في قصيدته التي اعتبرها من بين أجمل قصائدنا في المنفى/ص16/ عبد الكريم كاصد).. وسيكون الظلام في هذه القصيدة مخففا وطرفا في اتصالية اشكالوية: (تحّيرت ُ بين قميصي وهذا الظلام
                       الخفيف
                        تطلون منه عليّ فلا تجدوني معه /ص29)
*سيكلوجية الملابس
(البدلات السوداء)…
وهناك الواحد المضاء بفاعليته الناصعة..
*بياض الوجه
(أبيض هذا الوجه النائم)
*بياض المكان
(أبيض بين الحيطان البيضاء)
*بياض العلو
(أبيض هادىء قرب الله)

(والشمس تمد من الباب إلينا منديلا أبيض/ص177/غرفة خارج الوطن)..ربما لأن النهار(أبيض،أبيض كالنهار/ص54/غبار)
وربما لأن الابيض من الاشياء الحية التي رحب بها بيت الشاعر في ذلك اليوم الأستثنائي
(أمس،وليس مثل كل يوم
أتسع بيتي لكل الأشياء الحّية
للورقة التي تمسكت بغصنها
للخبز الابيض
للطين على قامات الاطفال
للأمهات الثابتات/ص53) وثمة حزن بمذاق أبيض في قصائد مصطفى..(أخذتني الأغنية على صهوة حزنها الأبيض /ص64/ قصيدة وراء) وثمة ميزان معلّم بلونه فهو
(الميزان الأبيض
الخفيف،الناعم والقديم كالخطأ/ص 69/ أغنية الميزان)
   
(9)
 القوة الظلامية تستعمل اللون الأبيض (القطن) لتنفيذ فعلها الاسود وهي بهذه الطريقة تمسخ الاستعمال الصحيح المساعد لتضميد الجروح ،ويتحول القطن الى اداة جريمة (سدوا فمه بالقطن الرطب..) ولونيا يمكن للأدوار ان تتبادل (أسيقظت الزهرة / على صدر العاشق بثوب حدادها الابيض/ص110/قصيدة البحث عن الاستقامة)..
(10)
في (الجثة ) تستوقفني هذه الجملة الشعرية( في ليلة أمس /فكّر بالشمس ).. سأعمد الى النظر اليها من داخلها وفق انتاجيتي لها
:في وادي الليل والليل هنا يتجاوز دلالته المعجمية ،باثا دلالته الايحائية ،حيث الوحيد يفكر البياض الذي هو نقيض السواد ومجرد التفكير بالشمس ،يشكل عملية خرق لكتلة السواد اللعين وبداية تهديمه والشمس هي البياض المؤّجل،البياض المنتظر بالنسبة للوحيد،كما جاء في قصيدة (غرفة خارج الوطن )..(والشمس تمد الينا من الباب منديلا أبيض /ص43)..
(11)
ثمة أختلاف بين نظافتين(خرج العمال نظيفين ) هنا يحدث انزياح كبير للمعنى ،ويشحن في الوقت بإيحائية مضادة ،تهكمية :ان العمال بلغوا منتهى قذارتهم بأرتكاب جريمة القتل ..وعلى مستوى ثان : أزالوا آثار الجريمة منهم، بعدها نكون امام نسق ثلاثي للبياض :
*أبيض هذا الوجه النائم بين الورد
*أبيض هادىء قرب الله
*أبيض بين الحيطان البيضاء..
في هذا النسق نكون امام نظافة مغايرة ..نظافة موجعة.. أستفزت الآخر،فأجهز على حاملها..لكنه لم ينتزع سجاياه البيض..
(12)
الواحد المتميز بجمرة الوعي ،يكون دائما محاصرا،بهذه الكثرة المدججة بالمخالب ،بهؤلاء العمال السريين الذين يجعلونه، في حيرة ..فهو مقتول حتى ان غادر الغرفة:
(أقدرأن أخرج في الريح المغبرة،والمطر الفظ ،ولكن
العمال
السرّيين بقدر كراسي الأرض وقدر مقاس القامات
وقدر حواس النبض /ص45/ مكاشفات ما بعد  الرحيل )..
 الوحيد بمقدوره التصدي لتقلبات الطقس، لرداءة الاحوال
الجوية لكن لاقدرة له ولامعين ..في التصدي لهذه الشراسة
المتكاثرة..إذن هو مقتول إن مكث فيها كما هو الحال في قصيدة (الجثة)..وهو مقتول في نزهته كما هو في قصيدة (النزهة)
نعم..القوة الغاشمة ضيعت دم الشهيد ولكن……أضاعته كدبوس
في فراشها هي..فأنتقل الدبوس من فراش السلطة الى جسدها
ثم..أستقر في نخاعها الشوكي…
————————————————————–
*أجريت توسعا على المقالة المنشورة في مجلة فنارات / العدد  فوق الصفر/ تموز – آب/ 2003
*مصطفى عبد الله / مكاشفات ..مابعد الرحيل/ ط1/ 1999/ دار المدى/ دمشق
*مصطفى عبدالله/ الأجنبي الجميل/دار الشؤون الثقافية / بغداد /ط1/ 2004
*أغصان الجيجوخري/ أحد الافلام الروسية، يشتغل على لوني الأبيض والأسود فقط .
*عبد الكريم كاصد / ثمن الشعر/ مقدمة الأجنبي الجميل/ المجموعة الشعرية للشاعر مصطفى عبدالله/ دار الشؤون الثقافية/ بغداد/ ط1/ 2004