23 ديسمبر، 2024 7:04 ص

قراءة أولية في سيرة عبد الكريم قاسم

قراءة أولية في سيرة عبد الكريم قاسم

يعد الزعيم عبد الكريم قاسم من أهم قادة العرب في العصر الحديث بعامة ورجل العراق بخاصة ، اذ انه شكل مفصلاً في تاريخه ، أنهى الملكية وأقام النظام الجمهوري . وفي فترة قصيرة جداً حقق انجازات كبيرة … رفع مستوى التعليم بقوة ، ونمى الثروة الوطنية بإشراف القطاعات الشعبية ، أمم الثروات الوطنية التي كان ينهبها الاستعماريون ، واستعان على ذلك بتحريك فاعلية قوى الشعب الكبيرة التي كانت شبه مهمشة ، اضافة الى أمور أخرى كثيرة .
ويكفي للتدليل على أهمية ما جاء به قاسم ، تذكر سلوك أعتى امبرياليتين (أمريكا وبريطانيا) إزاء المهام التي نهض لها ، اذ أنزلتا جيوشهما عام 1958 في الأردن ولبنان تمهيداً لغزو العراق ، وكادت تنشب حرباً عالمية . وقد وصل الأمر حد تهديد وزير خارجية بريطانيا آيدن باستعمال القنابل الذرية . وما كان ليحدث كل هذا الصخب لو لم تكن طموحات قاسم الوطنية تشكل خطراً حقيقياً على الاحتكارات والمصالح الاستعمارية .
 وعلى الرغم من مرور اكثر من  نصف قرن على تراجيديا مقتله ما يزال كثير من العراقيين ومنهم أعداؤه يعيدون التقييم ويراجعون المواقف حوله .ويأتي الكتاب الذي نحن بصدد عرضه ليقدم قراءة موضوعية تحليلية في سيرة هذه الشخصية المثيرة .
لقد علمتنا الوقائع ، أن القادة العظام في التاريخ لا يظهرون عضوياً بل طبقاً للضرورة التاريخية ذاتها ، وعندما تنضج الظروف الموضوعية والذاتية الملائمة ، أي في مراحل الانعطاف الجذري وضمن كون موهبتهم هي ضرورة للتاريخ . وكما كانت سجاياهم الشخصية تستجيب للضرورة كان دورهم في التاريخ أكبر شأناً وبروزاً خاصة اذا كانوا بل بالضرورة أن يكونوا مدركين للمجرى الموضوعي للتاريخ وتستنبط قوة شخصية القائد من قوة الحركة الاجتماعية التي يعبر عنها ويتولى تحقيقها عملياً .
لذا نرى أن سجاياهم الذاتية والفكرية ليست قليلة الأهمية بالنسبة لمضمون التغيير ذاته . فالرجل المتسم بالذكاء وقوة المبادرة والطاقة الكبيرة والحزم وسعة فهم الأبعاد الاجتماعية والتاريخية لبلده يستطيع أن يفي أكثر فأكثر بالمهام التي يلقيها عليه التاريخ . وكلما كانت سجاياه تتواءم وتتزامن مع متطلبات واقع التغيير المنشود كان دوره مهماً وضرورياً . فليس القائد كما تقول السير الشخصية نتاج نفسه وليس نتاجاً عرضياً لمرحلته ، أنه نتاج تفاعل حيوي بين النشأة الشخصية والنشأة الاجتماعية وتتداخل السيرتان معاً .
ان الشعوب الحية تلجأ الى تخليد واحياء رموزها وقادتها في مختلف شؤون الحياة السياسية والعلمية ، الاجتماعية والدينية ، وتسلط الأضواء على كل أبعادها المضيئة ، وتتناقل تراثها وتسكنها في ضمائرها وأفئدتها .
كما تنسج حولها العديد من الحكايات التي تبلغ حد الاسطورة والخروج عن المألوف الاجتماعي وتعطيها أبعاداً ربما خارج تخوم زمانها المحسوس حتى انعكست هذه الرموز في الحس والوجدان الشعبي وبرزت في إبداعهم ونتاجهم المعرفي بغية التقارب والتماثل معها وبما تحمله من صفات وطبائع من سلوكيات وممارسات من منظومة مفاهيم وقيم معرفية وحياتية وقد تصل في بعض الأحيان حد التأليه الاجتماعي بعد ترسخها في أعماق الذاكرة الحية للشعوب .
 وعن استقرائنا لتاريخ العراق منذ بدء حضارات القرى الأولى مروراً بحضارات المدن الشاهقة بل حتى في كبوات احتلاله وتخلفه يرصد الباحث استقرار العديد من الرموز في الوعي الاجتماعي للفرد العراقي حيث انطبعوا في ذاته الفردية والجمعيّة في أرثه المعرفي والسوسيولوجي وأصبحوا بحق رموزاً يشار اليها دوماً .
كان الزعيم عبد الكريم قاسم أحد هؤلاء الرموز الذي تناول المؤلف في كتابه بعض من محطات سيرته الذاتية والمهنية ومن ثم استنبط العديد من مقوماته الفكرية والمبادئ الأساسية لنظراته الى الحكم ، كما تناول شيء من اخفاقاته ونقاط ضعفه بروح من العلمية والموضوعية ليساهم بالتالي في فهم موقعه في تاريخ العراق المعاصر .
تعتبر شخصية الزعيم قاسم من أكثر الشخصيات أثاره للجدل في تاريخ العراق المعاصر، اذ أثير حولها الكثير من الجدل والمساجلات بين مختلف القوى الاجتماعية والتيارات السياسية في العراق والمنطقة أثناء حكمه أو بعده . وفي الوقت نفسه كانت من أكثر الشخصيات التي شوهت وطمست حقيقتها وماهيتها .
لقد ضربت (مؤامرة صمت) –التعبير للمؤلف- على حقيقة وكينونة وشخصية الزعيم قاسم من قبل (حكومات الاستلاب والاغتراب القومية) –التعبير للمؤلف- التي جاءت من بعده وحتى من قبل العديد من القوى السياسية المضطهدة ، اذ ساهم جميعهم في تثبيت مؤامرة الصمت هذه .
كما شارك الكثير من أنصاره في هذه العملية عندما أخفوا الوقائع والحقائق طول المرحلة السابقة ولم يتصدوا اليها بالعلنية ، وهم كانوا من الصناع الحقيقيين لملحمة تموز وشهودها الأقربين ، فالضرورة الاخلاقية والموضوعية تتوسم فيهم قول الحقيقة ورواية ما شاهدوه الآن وليس غداً ولكن ليس بعده .انها الأمانة التي استودعها التاريخ لديهم . فمن حق التاريخ أن يكتب كما وقع ، ومن حق هذا الجيل والأجيال اللاحقة معرفة ما حدث .
في الوقت نفسه تفرض الضرورة التاريخية لفهم العراق لما بعد تموز /1958 ، دراسة شخصية الزعيم قاسم بروح أكثر موضوعية ضمن تطور صيرورتها التاريخية المقترنة بالمنطقة العلمية لأجل إعادة الفهم الصحيح للظاهرة (التموزية/القاسمية) –التعبير للمؤلف- والرقي بها دراية وتحليلاً بغية إعادة تركيبها ووضعها في مسارها الإرتقائي السليم وإغلاق منافذ تدمير الذات الفردية والجمعيّة للعراق الجيوسياسي/ الاجتماعي ووقف نزيف الدم الجاري منذ رحيلهما وسيادة روح التسامح وقيمه الحضارية طالما هي تجربة تحررية عبّرت عن طموح مُعَبر عنه شعبياً . كما كانت تنحو في دخول العصر ومستلزماته ضمن الظرف المتاح .
ان دراسة شخصية الزعيم قاسم لا يمكن أن تنفصل عن دراسة واقع العراق الاجتماعي/ الاقتصادي/ السياسي الذي عاشه وتبلورت سمات شخصيته في تفاعلها الجدلي مع ذلك الواقع وأحداثه والصراعات الاجتماعية/ الطبقية/ السياسية التي شهدها .
الكتاب هو قراءة أولية لسيرة الزعيم قاسم الذاتية . وهو في الواقع خطوط عريضة لمشروع أكبر على حد قول المؤلف الذي جمع مادته ولايزال لقراءة واعية ومدركة لماهيات حقيقة قاسم وسيرته الذاتية بأغلب أبعاد مضامينها الحياتية بغية إعادة انتاجها معرفياً وتفهمها سلوكياً ومن ثم تقييمها على عدة مناح … منها –النطاق الشخصي والمهني ودراسة الظروف الاجتماعية والسياسية التي خلقت منه وبلورت فيه شخصية سياسية قيادية من طراز جديد .
ان الهدف الأوضح لمادة الكتاب كما يشير المؤلف ينصب على تبيان حقيقة الزعيم قاسم بعيداً عما عُلق عليه قسراً بصورة مخالفة للحقيقة التاريخية والمنطقية بحيث غيبت مضامينه التي كمن جوهرها في مساهمته الأساسية في تحقيق صيرورة التغيير الأكبر الذي حدث في عراق القرن المنصرم … ثورة 14/تموز ، وما تضمنه من منهجية وبرنامجية لتطوير العراق وفقاً لروح العصر ومتطلباته . هذا الفعل الناجح –كما يقول المؤلف- سواء ما يتعلق بالتغيير أو البناء المتطابق مع الضرورة التاريخية أكسب المشروع القاسمي المسار التاريخي للعراق المعاصر رغم أنه كذات لم يكسب شيئاً سوى حب الأغلبية الشعبية له .
كما للكتاب غاية أخرى سعى المؤلف لها تهدف إيصال الحقائق الصحيحة عن قاسم للجيل الجديد الذي مسخت معرفته وذاكرته كل حكومات القمع السلطوية التي سطت على الحكم من بعده بالفكرة الانقلابية وبمساندة المعونة الخارجية لتحقيق مصالح رغبوية جزئوية لا تشمل التركيبة الاجتماعية ذات الأطياف المتعددة للعراق ولا مستقبله القادم رغم رنين شعاراتها الكبيرة .
يأمل المؤلف من خلال دراسة ما يطلق عليها بـ(الظاهرة القاسمية) من مختلف أبعادها الحقيقية لأنها وفق تصوراته ظاهرة عراقية تربط هوية الانسان ببيئته ومحيطه الاجتماعي والثقافي وانتمائه القومي ، كما تفسر لنا بعضاً من ملامح الحاضر لنتوغل في البعد المستقبلي للعراق المتمنى بجماليته وانسانيته .
ويلفت نظرنا المؤلف الى أن دراسته هذه لا تستهدف مطلقاً إعادة انتاج القاسمية بكل أبعادها … انه الاغتراب الزماني . بقدر ما تطمح  الى فهم هذه الظاهرة والاستفادة منها قدر الإمكان في الوقت الحاضر وبالتالي إعادة المكانة اللائقة لهذه الشخصية السياسية التي أحبت العراق كذات وكينونة اجتماعية جيوسياسية ، وانطلق منه في امتداده نحو امته .
قسم المؤلف كتابه الى جزأين – تناول الأول ماله علاقة بالزعيم قاسم بصورة مركزة ومكثفة سواء ماله علاقة بنشأته وتكوينه والمؤثرات الفكرية التي تأثر بها أو عن حياته العسكرية ونشاطه المهني والسياسي فيها وسلوكيته الحياتية وكذلك مساهمته في تكوين حركة الضباط الأحرار وقيادته فعل التغيير الجذري في تموز /1958 .
كما تناول هذا الجزء تحليلاً وملامسة لمنطلقاته الفكرية الأساسية وممارسته العملية ليسلط الضوء على مبادئ الحكم عند قاسم ومن ثم محاولة إجراء تقييم أولي لماهية قاسم والتي اكتملت –كما يؤكد المؤلف- عند نقده له ضمن الأبعاد التاريخية المعاشة آنذاك . وقد ترك المؤلف لنا المفاضلة والمقارنة النسبية والمطلقة بين قاسم وحكام العراق السابقين أو اللاحقين له بغية تمكينه من الوصول ما أمكن الى تكوين رأي جديد في ماهية حقيقة هذه الشخصية بصورة موضوعية مدركة بعيدة عن التأليه والتنزيه والعبادة الفردية وتقديس الشخصية .
هذا الرأي –يقول المؤلف- سوف يستنبطه القارئ بذاته وستتعزز أركان قناعته الخاصة به بعد الإحاطة بحقيقة تاريخ العراق آنذاك ، ومن خلال مساهمة المؤلف في إيراد آراء متباينة من حيث المنطلق والدافع ومن زاوية الرؤية قيلت بحق قاسم من شخصيات سياسية وأكاديمية ، حزبية ومستقلة ، والمتناقضة في المواقف ، اذ بعضها مؤيدة له والأحرى  مناهضة ، وهذا ما انصب عليه الكتاب في جزئه الثاني والذي أطلق عليه عنوان –دلالات ومغازي- بغية تكوين لوحة خلفية تنور القارئ ما أمكن عن حقيقة هذه الشخصية التي جاء بها العراق في القرن العشرين .
كانت القاسمية ان جاز التعبير واحدة من المشاريع النهضوية في عراق القرن العشرين التي عبرت عن مطمح الفقراء والمعوزين وجسدته عملياً قدر ما تمكنت نسبياً . اذ لم يطعم المشروع القاسمي هذه الجمهرة الشعبية الواسعة وعوداً دنيوية بعيدة المنال أو آخروية غير ملموسة .. بل مشاريع مادية ومنجزات عملية رفعت من مستويات حياتها المادية والروحية بكل أبعادهما وأشبعت جزءاً كبيراً من ضرورتها الملحة وحررتها نسبياً من عقدة الاستلاب والاغتراب المزمنين ومن انتهاك الكرامة والذات الانسانية .
الكتاب:-
قراءة أولية في سيرة عبد الكريم قاسم ، تأليف ــ عقيل الناصري ،  ط1 ، دار الحصاد ، دمشق ، 2003 ،221 صفحة.
[email protected]