. مقدمة
في البدء نحن أمام مفردات تقف كأصطفاف فرقة الأنشاد – من المحتمل نفشل في قرائتها بشكل جيد وهذا بالتأكيد يحرمنا من نشوة المتعة – قبل أن نكون أمام قصائد إيقاعية , تجسّد صورآ متفاوتة في الأدراك والحس وتتجاوز المعاني الظاهرة . فالشاعر عبد الله حسين جلاب مهتم بالمفردة التي تعيده كما تعيد المتلقي الى حياة العامة في الريف ولم تختف من أفقه . ربما يعتقد أن لا حياة بلا ماض وأن تطور الأنسان يقاس بأصالة ذلك المنبع , لكن دونما أقرار به كنوع آخر من الحنين الى الماضي كما فعل الرومانسيون , إنما تجاوز ذلك الى النظر نحو الآفق لينشيء من أجواء الريف فلسفة أكثر صلة بالواقع الذي يعيشه , وهذا ديدن الأنسان , يدخل في كينونة ويخرج من أخرى فيتطور وعيه رويدآ رويدآ ليكون معلمآ , وهذا مانراه في نخبة من قصائد الشاعر :
ذاكرتك طينتك الأولى ص 81
2. البنية والأيقاع جوهر القصيدة
” خربشات بمخالب الغراب ” تثير الاحساس بالتشاؤم , إذ أن الغراب نذير شؤم في الموروث الشعبي العراقي , وكذلك المفردات كالبوم , الحية , سن الذيب . فهي دلالات رمزية وإحالات ثقافية تعمل كمرادفات بنائية في النص الشعري تكرّس الرؤى لهذا الموروث وهي مع إيقاعاتها تمثل دم القصيدة التي أرادها الشاعر . إضافة الى أن توكيد أسلوب بناء القصيدة يتمركز في التشكيلات المادية : الزهور , الأشجار , الطيور والشبابيك التي تؤلف أنموذجآ متفردآ من بين كتّاب القصيدة الحديثة , وتشكّل هيمنة واضحة في قصيدته , تختفي في قصائد أخرى إلا من الدلالات الرمزية التي أشرنا كونها مرجعية الشاعر , يستمر بالتعامل معها بسبب وعيه الجمالي وأنجذابه وأفتتانه بها وحساسيته إزاءها , وهذا مايشكل علاقة بأن النصّ لاينهض إلا بهذا النوع من الوعي وهو بالنتيجة يشكّل مساره الأنساني لتحقيق تجربته الأيقاعية .
إذن هو يخاطبنا على أننا أبناء الماضي , فيطلب منّا أن ننظر بعين على التراث وأخرى على الحياة المعاصرة . أمّا مفردات التشاؤم فقد التقطها من الذاكرة وأستخدمها ربما لأنجذابه لها كونها أثّرت في مطلع حياته وهاهو يصوغها بصدق وألم وحسرة , أو لأنها مرادفات بنائية متنوعة كما قلنا .
تنقسم المجموعة على فصلين : الأول ( الهبوط الى أرضين ) وهي سبع قصائد بعدد الأرضين السبع , قصيدتها الأولى : ( تشكيلات الماء ) وهي بحث في التكوين , إذ أنّ
كنه البحر هو الماء والمحار , وما الشبابيك إلا دعوة للنظر من خلالها لتنشيء عالمآ سريع الزوال متمثلآ بالورد والأشجار والطيور المختلفة كما وردت . إن هذا التناظر لايفيد معنى التنوع فحسب , إنما يفيد بأن الأنسان في أفتتانه بها إنما هو أمر يظلّ مكرورآ من خلل نظرته الى الأفق حتى أنتهاء القصيدة , إذ أن الأنساق الأيقاعية تفرض نفسها على المتلقي كسلطة تدعو الى تأسيس قاعدة جديدة لقراءة هذا النوع من الكتابة .
ينبغي هنا أن نلقي المزيد من الضوء على مبدأ تأسيس قاعدة جديدة يدعونا من خللها الشاعر الى قراءة ( قصيدة الأيقاع ) أو النثر الحديث إذا أردنا مجابهة ما يتطور منه لخلق رؤيا جديدة تفرز قيمآ جديدة وأطرآ لجذب أهتمام منّ هم على خلاف ذلك :
عند ساقية التمر
أقتعد سعفتك الخضراء
تغريدك على المسحاة
نابته في الجتّ ص30
ففي هذه القطعة تتجلى مفردات الريف : الساقية , التمر , السعف , المسحاة ثم الجتّ. وينظمها بإيقاعية السكون وتكرار لفظ التاء لتنتهي بالسكون , تبدأ من عنوانها المجتزأ ,حيث يدعونا الشاعر بأستخدامه الفعل ( أقتعد ) الى الإمعان في دلالات القول في التراث الشعبي وأرتباطه بالأنسان المعاصر على الرغم من أنّ بعضها يحتاج الى تفكير عميق في سبر غور علاقاتها من ناحية الأنتماء الى مفردات القصيدة السابقة وبنيتها الأيقاعية :
تلطّخن القمصان
فعبيء بالحجر المقاليع ص 32
يستمر الشاعر ببناء قصائده الأيقاعية , من ناحية المعنى , بالتقنية ذاتها . فتارة حوارية تتمثل ب ” أنا ” الشاعر ص28 , ص30 , ص 33 وتارة أخرى يختار فيها تراكيب لغوية شائعة في بيئته ص 36 كأنه يريد الأستفادة من فلسفة الماضي لكن من دون تقويضها , وهذه إشارة الى أرتباط وعي الشاعر بنشأته , في بيئة وعي بدائي ولاضير في أن يظلّ مخلصآ له . وفي هذا الجانب سبقه الكثير من الشعراء العرب مثل أمل دنقل في الأفادة من المأثورات الشعبية : ياشمس ياشموسة خذي سنة الجاموسة وهاتي سنة العروسة .., حيث يقول أنه من المفيد تربية الوجدان لدى المتلقي المحلي وذلك بألتقاط مثل هذه العناصر من الماضي وألقاء الضوء عليها :
أرمها في عين الشمس
تعوضك عنها بسنّ الغزال ص36
أما في الفصل الثاني ” وجه البوم ” المؤلف من أربع عشرة قصيدة , لم يخصّص
أيآ منها للغراب المتصدر عنوان المجموعة , لتعزيزه بل ورد في قصيدة ” لسان البوم ” بشكل عابر . المهم أن رؤية الشاعر هي ذاتها , ففي قصيدة ” لأوراقها عين زرقاء ” نقرأ أشارات الى العنقاء وأرتباط هذه الاسطوره في ذاكرة الشاعر , وألعاب فولكلورية وتمائم أراد الشاعر أن يبوح بها من ذاكرته القديمة ليوضّح أنه سليل تلك المشاهدات , ولد ونشأ في تلك البيئة وهذا أكثر الأشياء دلالة في القصيدة . ومن ناحية أخرى , فهو يطرح إشارات كأنّه في محنة اللآمعقول, فهو يرى الأنسان قضية يمكن أن يعبّر عنها بلغة التحليل والتميّز :
من رماد أعشاشها
وهي تطلع
سقت فمها أمّي بدمع القلب
……………
……………
أصابعها صفر في القشّ
شدّ على قلبها صخرة الدرب
تتصايح في ذاكرتها الأشباح ص 48
في قصيدة ” لسان البوم ” التي ذكر فيها الغراب للمرة الأولى , تطرح الأنموذج ذاته : تقنية لايمكن أن تفهم إلا من الجوهر بوساطة الوعي المشترك وماله من صلة بمخزون كينونته الأنسانية على الرغم من أنها تصوير لإرادته فيما الأشياء من حوله محض مواد خام بغايات تشكل دواعي صراع لم يألفه :
ثور يناطح بقرنيه السماوات :
يشكّل منها ساعة
عقاربها من الثلج
نخلة اللؤلؤ
في جرفها العالي
ترى جيفة الخنزير
عليها الغراب ص51
3. الخاتمة
وأخلص مما تقدم أن فن اللغة – حسب تدفقها في الحيّز المكاني وإيقاعها الفني – ضمن مايدعو اليه الشاعر في الخطاب المتمثل في مجموعته وتقنية النصّ الشعري لايحتاجان تعريفات فلسفية أكثر من تركيزنا على مايطرحانه لنكشف عمّا يقرّه هو . فالقلق والخوف وأنحسار المثل العليا والأرادة , من بين هذه الحقائق , منفّذة بتقنية عالية تتلائم وطيبة الأنسان المعاصر الذي أدمن قراءة نصوص شعرية مكرورة الأسلوب بقوالب
وتراكيب لغوية محشّوة حشوآ كأن من لم يكتب على شاكلتها لامكان له في عالم الشعر .
إنّ دعوة الشاعر لنا الى تأمل وتعلم فنّ اللغة وتفكيك المفردات , إنما في جوانبها إدراك تقنية الخطاب الشعري لسبر غور الحقيقة كي ينقلنا بعد هذا الى أزمته ليحقّق ( مشروعه الأيقاعي ) متماهيآ بمشاريع الحداثة . ولأن المفردة هي الجوهر الذي يحدد الفكرة والمعنى عبر إيقاعها وبنائها الفني والجمالي , فهي ذات تأثير كبير على أسلوب القصيدة فنيآ , لذلك أرتأى الشاعر أن يكون خطابه الأيقاعي لايقل شأنآ عن خطابه الشعري في طرح كينونته كأنسان .
* صدرت المجموعتة الشعرية عن دار الينابيع – دمشق – 2009 .