في هذه المقالة نستمر في عرض بقية أمثلة المنهج:
ب) مثالا عن المنهج رقم 2 هناك كلمة بسيطة عجز المفسرون شرقا وغربا عن شرحها حتى الآن وردت في سورة المدّثر الآية 51 وهي (قسورة) ، ومفهومها من نص الآيات 49 – 51:
( ما لهم عن التذكرة معرضين / كأنهم حمر مستنفرة / فرت من قسورة ).
أجمع المفسرون العرب على أن هذه الكلمة حبشية الأصل لبعدها عن العربية وقدّروا بأنه لابد أن المقصود منها ألأسد لفرار الحمر (اي الحمير) منه ، بعد أن تبين لأحد المفسرين بأن ألأسد يقال له بألسريانية (أريا) ، مما يدل على أن بعضهم كان له إلمام بألسريانية. ثم جاء المفسرون الغربيون فبحثوا في أصل هذا التعبير ولم يجدوا له إشتقاقا من ألحبشية ، فاستنتجوا بأن معنى ألأسد أقرب ما يمكن إشتقاقه من اصل قسر العربي الذي يعني أرغم وأجبر ، وأن المعنى الحقيقي لهذا التعبير ما زال غامضا.
إلّا أن الرسم القرآني يشير إلى إسم فاعل سرياني على وزن (فعولا) (بقراءة فاعولا) المشتق من الوزن العربي فعول وفاعول. والكلمة هي في الواقع سريانية ألأصل ويمكن إشتقاقها من أصل قسر وقصر كما تثبته لنا القواميس السريانية ، فنجد هذا التعبير بقلب السين والواو بكتابة ( قوسرا).
و (قوصرا) وهي كتابة سريانية لا تختلف لفظا عن كتابة (قوسره) و (قوصرة) في غيرها من اللهجات الآرامية. ويذكر لسان العرب بأن أهل البصرة يقولون للمرذول إبن قوصرة.
(والأصح قوصرة او قوصرا لفظا والقاصر او الفاشل معنى) ناسبا إلى إبن دريد قوله: لا أحسبه عربيا ولو نطقوا به قديما ، مما يثبت مجددا إختلاط اللغتين العربية والسريانية سابقا.
والرسم القرآني قسورة أصح سريانيا ويلفظ قاسورا ( بلفظ الواو بالإمالة نحو الواو) وليس قسورة بتشكيل مصحف القاهرة. أما المعنى بشهادة المراجع السريانية فهو ( ألحمار الهرم الذي لا يستطيع الحمل) والمراد بالتعبير القرآني أن هناك احتمالين لفرار الحمر المستنفرة:
1) إما الهرب من شيء مرعب كألأسد ، وهذا امر بديهي يبرر الهرب منه.
2) وإما الهرب من شيء غير مفزع. كقولك عن أحد يهرب من خياله ! وهذا هو المقصود في النص القرآني الذي يشبّه إستنفار الهاربين من تذكرة القرآن بألحمير الهاربين ليس من نظيرهم فحسب ، بل ومن دابة هرمة هالكة ليس فيها ما يدفع إلى الهرب. ويقابل هذا التعبير بألعربية ألقاصر ألمثبت للاصل السرياني لفظا ومعنى ( أنظر كتاب لوكسنبرغ ص 45 – 47).
ج) يشير لوكسنبرغ إلى أن المفسرين العرب فهموا كلمة قسورة بمعنى الأسد بينما المقصود منه الحمار الهرم بالسريانية ، وقرأوا الرسم القرآني (وأنظر إلى حمارك) (سورة البقرة ، ألآية 259) بمعنى ألحمار عربيا ، بينما المقصود منه سريانيا صفة لبني آدم. وتوضيحا لهذا التعبير نأخذ عن لوكسنبرغ (ص 176 – 183) الآية المذكورة كمثال عن المنهج رقم 2 و 4 (وموضوع الآية أن الله أمات إنسانا لا يؤمن بالقيامة ثم بعثه بعد مائة عام فقال له):
( وأنظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وأنظر إلى حمارك ولنجعاك آية للناس وأنظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما).
قبل الوصول إلى كلمة (حمارك) يتساءل لوكسنبرغ عما عساه تعالى يقصده بالإشارة إلى هذا الإنسان الذي بعثه بعد ممات مائة عام إلى طعامه وشرابه ، مع أنه ليس هناك أي صلة بألطعام أو الشراب.
ولما لم يمكن فهم هذين التعبيرين عربيا بغير مفهوم الأكل وألشرب ، يرى الباحث شرحهما بمفهوم سرياني يوافق النص القرآني. ولما كانت الألف الوسطى مضافة غالبا في المصاحف اللاحقة ، يقرأ لوكسنبرغ سريانيا (طعما) بشرح المراجع السريانية التي تعطي :
1) معنى العقل والفهم ومشيرا إلى التعبير (السرياني الأصل) الشائع في الدارجة القائل (حكي بلا طعمه) بمعنى بلا فهم.
2) معنى الحال والشأن وألامر. ولما كان هذا المعنى مطابقا للتعبير السرياني التابع (شربا) (بغير معنى الشراب العربي) ، يرى لوكسنبرغ بأن هذين اللفظين مرادفان بدليل الفعل التابع لهما بصيغة المفرد المذكر (لم يتسنه) ، وناسبا هذا الفعل ايضا إلى أصله السرياني (إشتني) الذي يعني تغيّر طبقا لشرح ألطبري ، فيكون ألمفهوم:
3) (أنظر إلى حالك وأمرك ، لم يتغيّر).
ويشرح لوكسنبرغ بأنه علينا أن نفهم ألرسم (حمارك) بقراءة سريانية (جمارك) أي كمالك ( ومنها بألعربية كلمة ألجمر أي إكتمال ألنار) ، فيقرأ لوكسنبرغ ألآية كألآتي:
(وأنظر إلى كمالك) ، مما يعطي معنى منطقيا إلى ما سبق بخلاف القراءة التي درجت منذ تنقيط القرآن بمعنى (الحمار) الذي ليس له اي مكان في هذا النص. ودليل ذلك أنّ تعالى يردف قائلا:
(ولنجعلك آية للناس) وليس ( لنجعل حمارك آية للناس). ويشير لوكسنبرغ أخيرا إلى أن قراءة (ننشزها) خاطئة والمفروض قراءتها (ننشرها) داعما هذه القراءة العربية بدليل مرادفها السرياني (فشط) الذي يعني عدا ، نشر وبسط: أصلح وعدل ، فيكون معنى ألآية بقراءتها ألعربية وألسريانية :
(أنظر إلى حالك وأمرك لم يتغيّر وأنظر إلى كمالك ولنجعلك آية للناس أنظر إلى ألعظام كيف نصلحها ثم نكسوها لحما).
في المقالة القادمة سنتطرق إلى بقية أمثلة المنهج.