23 ديسمبر، 2024 9:04 م

قراءةٌ نقديةٌ لقصة القاص أياد خضير (الرجلُ الغريب) – اندماجُ الوعي في تكاملية البناء القصصي

قراءةٌ نقديةٌ لقصة القاص أياد خضير (الرجلُ الغريب) – اندماجُ الوعي في تكاملية البناء القصصي

لغةٌ سرديةٌ تنساب إلى وعينا وتندمج فيه بألفة ؛لتشكّل في خيالنا تفاصيل المكان الذي رسم بدقة متناهية ،ويتداخل فيها وصف الكاتب المبدع أياد خضير مع منلوج الشخصية الغريبة التي تضيء لنا نفثات الكاتب ثيمة مهّمة لهذه الشخصية بما تملكه من ارتباط بالغيب من خلال الهواجس التي تتفجّر في ذاتها وتكون رسائلاً من عالم الغيب إلى عالم الواقع ،ويبقى الهاجس يدور ويزيل الحاجز البرزخي بين الواقع والغيب هي ثلاثية الكاتب المبدع أياد خضير وإن تباعد الزمن بين هذه الثلاثية القصصية والتي كان أولها (الحاجز) والتي هي أول قصّة منشورةٍ للكاتب في جريدة الراصد في عام 1973 تليها قصة (الحدس) هذه الثلاثية القصصية ترتبط فيما بينها بثيمة غاية في الأهمية ألا وهي تماهي الحجب بين  الواقع والخيال وإن اختلف اتّجاه الحدث في سيره نحو الأغوار الغيبية أم على العكس .
في قصة الرجل الغريب كان للحوار الداخلي دور بارز في تكثيف النسيج القصصي ،لأنّه يكشف إرهاصات وأغوار الشخصية المركزية ،كما كان للحوار في هذه القصة بين الشخصيات مساحة أكبر لأنّ الحوار يمنح عنصر (الصراع) وهذا العنصر المهم في البناء القصصي يكسب الأحداث تأثيراً ويسحب القارئ بقوة إلى أعماق النص وتتحقق من خلاله القصدية في الكتابة لأن القارئ سيكون مشاركاً فاعلاً ويصبح من دون وعي جزءاً من القصة وقد يتدخل في فعله الخيالي في بعض التفاصيل بل قد يذهب إلى أبعد من ذلك حينما يتماهى مع العمل القصصي لينتج منه عملاً آخر كوجود ملموس وينتقل الأمر به من الفعلية إلى الفاعلية حينما يتحول فعل النص القصصي من إثارة خيال ووعي القارئ إلى كون القارئ فاعلاً في النص من خلال اختلاط مشاعر وأحاسيس القارئ في النص القصصي فحوار القصة قد سبك بعناية وكان مرآة عاكسة للصراع البشري وحوار الشخصية مع ذاتها كان يعكس صراع الإنسان المتبصر مع أعماق اللاوعي المرتبطة بخيوط عرفانية مع عالم الغيب .
إنّ قصة الرجل الغريب من الناحية الشكلية قصة قصيرة توفّرت بها عوامل البناء القصصي المتماسك فكل عناصر العمل القصصي كانت متجسدة بهذا العمل الإبداعي فالسردية الوصفية المقتضبة ترفد بناء اللوحة الصورية للقصة (في طرقات الحي الآمن كان كل شيء هادئا ، يتجول في شوارع الحي الى ساعة متأخرة من الليل ، يحس بأنه سوف يحدث شيء ما لهذا الحي ، شعر بالدوار ، بالتعب يمسك بأكتافه ويحاول إسقاطه أرضاً. . الدروب خاوية ولا أمل ان يلقي أحدا يخبره بالهاجس الذي يراوده ، يتقدم خطوة خطوات في الطرقات الصامتة ، يشاهد أمامه المزيد من الأسئلة المحيرة ،)  والحوار الداخلي (المنلوج) كان يمنح القرئ تشريحاً دقيقاً لشخصية البطل “الرجل الغريب ” في هذه القصة (يشاهد أمامه المزيد من الأسئلة المحيرة ، يخيل إليه انه يسمع نداءاً خارقاً يخطف بين أفكاره المتشابكة ، وقبل ان يعي الحقيقة باغتته صرخة هزته هزاً عنيفاً ، تواردت الى ذهنه شتى الاحتمالات واختلطت في رأسه صور الموت والهلاك ، لابد ان اخبر أهل الحي .
لكن كيف ؟
وهل يصدقونني ؟
هكذا كان يخاطب نفسه بين فترة وأخرى .) وكان هذا الحوار(المنلوج) يتطوّر مع تنامي الحدث الدرامي للقصة ففي منتصف القصة كان مقتضباً  (قــال :ـــ هل أقف وسطهم واصرخ بالحقيقة ؟
ومن سيصدقني ؟
لابد إني قد حفظت كلام الرجل الذي جاءني بالمنام واخبرني الحقيقة .
سأخرج من هذا الحي ، اهرب بعيداً قالها بحرقة وأعصاب متوترة .. لا يستطيع فهو عاجز عن الرحيل .) لكن هذا الحوار يصبح عند نهاية القصة أكثر عمقا ومكثّفاً (ظل يخاطب نفسه نادما لماذا طرحت عليهم هذه الفكرة ؟
من المحتمل ان يحترق بيتي ، او يتهمونني بأنني حرقت ممتلكاتهم ، الأشياء العزيزة لديهم ، ربما يريد المخبر ان يختبرني .. لابد ان أتحمل غدا اليوم العاشر وهو اليوم الأخير .) ليكون ممهّداً لنهاية الحدث القصصي الذي جمل الكثير من الإدهاش وما يعرف (بكسر التوقع ) فكانت (الضربة ) في القصة خارج نطاق وعي القارئ المندمج بالنص والتي هي ثيمة مهمة في أسلوب المبدع أياد خضير والتي يخرج من خلاها عن التقليدية وتكون (الضربة ) لديه إعادة تشكيل لوعي القارئ ( في اليوم العاشر وفي ساعة متأخرة من الليل التهمت بيته النار وهو يصرخ ويستغيث وأهل الحي نيام لا يسمعون صراخه فتح عينيه وإذا الشمس طالعة ، الجو جميل جدا ، تناول قدحاً من الماء موجوداً على الطاولة ، نظر من الشباك الى المارة لا يوجد اثر للحريق .. تنفس بعمق قائلاً ياله من كابوس مخيف .)
 ومما يجب عدم إغفاله في هذه القصة هو عنصر (الحوار) الذي كان يدور بين نماذج شخصيات لم يسمها الكاتب فقد منحت النسيج القصصي تماسكاً وقادتنا إلى ذروة القصة بتناغم متوازي مع العناصر القصصية الأخرى (قال احد رجال القرية :ــ ان الأرض التي شيدنا عليها بيوتنا بعد ان هاجرنا من مناطقنا وأصبحنا شتاتاً من مختلف المناطق ، هذه الأرض مسكونة فيها جن وعلى الجميع مغادرتها .
قال آخر :ــ ربما بفعل حرارة الجو تحترق البيوت ؟
ظل الرجال يتجادلون فيما بينهم .
ــــ لماذا يحترق كل يوم بيت وليس كل البيوت ؟
ــــ ربما بفعل فاعل ، علينا مراقبة البيوت ، نقوم بواجب الخفارة الليلية لمعرفة السبب.
ــــ بيننا إنسان شرير ملعون.
ـــ ربما هذا الرجل الذي اخبرنا الأمر، الرجل الغريب .
لماذا لم يحترق بيته أسوة ً بباقي البيوت ؟! هو الفاعل لامحالة .
أجابهم :ــ كلكم غرباء وانا واحد منكم ، فأنتم شتات من مختلف المناطق شيدتم بيوتكم وسكنتم ، وانا واحد من الذين بني بيته وسكن ، لكن الفرق بيني وبينكم أنا وحيد فقدت كل عائلتي في احد الانفجارات .)
لقد كانت قصّة الرجل الغريب نموذجاً يستحق القراءة النقدية المتبصرة لما حملته من مضمونٍ تجسد في شكل نسج بأسلوبية إبداعية لتجعل من الحدث اليومي البسيط حدثاً قصصياً يتفاعل معه القارئ ويعيش في خضمّ تفاصيله وبدون وعي ينسحب القارئ ليكون جزءاً من النصّ .