22 ديسمبر، 2024 2:24 م

قراءات نفسية في قصائد سردية تعبيرية

قراءات نفسية في قصائد سردية تعبيرية

أولاً : قصيدة : داخل الصندوق للشاعر: كَامِل عبد الحُسين الكَعْبِي .

 

داخل الصندوق

في أزمنةِ الملحِ تتصحّرُ جيناتُ الجفافِ تميلُ إلىٰ التكاسلِ تنتابها أفكارٌ تالفةٌ وتصطدم بانسدادٍ معرفيّ هناكَ تتآكلُ العيونُ في استرخاءِ السوادِ بعيداً عن الأنظارِ ركني مخفيّ في الزوايا مدادهُ المرّ يسحقُني كرغيفٍ مهشّمٍ يحاكي هشاشةَ الجذرِ بينَ ذاكرتي ونبضي أرى ومضاً يتدلّى من ثقبٍ مردومٍ يحصي شكوكَ الكاهنِ ويقينَ الحجرِ يباركهُ ويتبركُ بهِ يغوي قطعانَ الماشيّةِ إذْ لا هَمّ لها سوىٰ العلف المجانيّ في ظلِّ غيابِ الفكرةِ والتراخي في مضمارِ السباق !! أنا لا أهدي عطراً لمزكومٍ فحينَ أشيرُ إلى القمرِ لا ينظرُ الأحمقُ إلاّ إلىٰ إصبعي !! لا تقلْ إني علىٰ قيدِ الحياةِ فكُلّ العيونِ ستغتالكَ وتسلمكَ إلىٰ مَنْ يلعبُ بالبيضةِ والحجرِ تكريساً للهيمنة وإلى مَنْ يجترّ السوادَ إلىٰ بياضهِ إحكاماً لقبضةِ الاستبداد

فهلْ من استفاقةٍ ؟ وهلْ من نجاة ؟

كَامِل عبد الحُسين الكَعْبِي

العِراقُ _ بَغْدادُ

 

قصيدة عميقة ومليئة بالرمزية والتعبير عن حالة من اليأس والتشاؤم. تتناول مشاعر الإحباط والانغلاق في عالم يشوبه الجفاف والتراجع، حيث تصبح الأفكار تالفة والعقول مغلقة، والعالم يبدو وكأنه غارق في السواد.

 

المشاهد التي تصفها القصيدة توحي بمساحات من العزلة والضعف، وتنتقد الواقع الذي يعيش فيه الناس وكأنهم يعيشون في ظلّ غياب الفكرة والحركة. وتشير أيضاً إلى الشعور باللاجدوى من الإشارة إلى الأمل أو التغيير في ظلّ حالة من الاستسلام والرضا بالواقع الفاسد.

 

قراءة من الناحية النفسية

من الناحية النفسية، تعكس القصيدة حالة من الاغتراب والضياع العميق، وتقدم صورة دقيقة للقلق والاضطراب الداخلي الذي يعاني منه الشاعر. هناك عدة جوانب نفسية يمكن تحليلها في هذا النص:

 

الإحساس بالعزلة والجمود: الشاعر يصف نفسه بأنه محاصر في “صندوق” أو “ركن مخفي”، وهذا يشير إلى شعور عميق بالانفصال عن العالم الخارجي. استخدام تعبيرات مثل “تتصحّرُ جيناتُ الجفافِ” و”تآكلُ العيونُ في استرخاءِ السوادِ” يوضح حالة من الجمود والتعطيل الذهني والروحي. هذا يمكن أن يعكس تجربة نفسية من العزلة أو الاكتئاب، حيث يشعر الشخص أنه محاصر في مكان ضيق ومظلم، بعيداً عن النشاط والإلهام.

 

الضغوط والمعاناة النفسية: تعبيرات مثل “مدادهُ المرّ يسحقُني كرغيفٍ مهشّمٍ” تعكس المعاناة النفسية الشديدة والإرهاق. فيبدو أن الشاعر يشعر بأن تجاربه وعواطفه تتعرض للضغط المستمر، مما يؤدي إلى الشعور بالهشاشة وعدم القدرة على التحمل.

 

تآكل الثقة والتشاؤم: هناك إشارات إلى فقدان الثقة في الآخرين وفي النظام الاجتماعي، كما يتضح من النقد الموجه للمجتمع وفكرة “العلف المجاني” واللامبالاة الفكرية. يمكن تفسير هذا على أنه تعبير عن فقدان الأمل في التغيير أو في القدرة على مواجهة التحديات، مما يعزز مشاعر التشاؤم وفقدان الثقة في الآخرين.

 

الاستفهام والتوق إلى الخلاص: الأسئلة الختامية “فهلْ من استفاقةٍ ؟ وهلْ من نجاة؟” تعكس حالة من التوق إلى الخلاص والتغيير. هذا يمكن أن يكون تعبيراً عن رغبة عميقة في التحرر من الوضع الراهن والبحث عن الأمل والتجديد. إن وضع هذه الأسئلة يشير إلى أن الشاعر لا يزال يحتفظ ببصيص من الأمل أو الرغبة في التغيير، حتى في ظل الأوقات الصعبة.

 

النقد الاجتماعي والوجودي: القصيدة تعبر أيضاً عن نقد اجتماعي ووجودي عميق، حيث تعبر عن استياء من الوضع الاجتماعي والسياسي وتشير إلى التسلط والاستبداد. هذا يمكن أن يكون تعبيراً عن صراع داخلي مع القيم والمعايير المجتمعية، والشعور بالعجز أمام القوى الاجتماعية التي لا يمكن تغييرها.

 

وبالنظر إلى القصيدة من منظور نفسي أكثر عمقاً، يمكننا استكشاف الجوانب النفسية والفلسفية التي يعبر عنها بشكل مفصل. القصيدة تعكس حالة من الصراع الداخلي والمعاناة التي يمكن تحليلها من عدة زوايا:

 

1. مفهوم الصراع الداخلي

القصيدة تعكس صراعاً داخلياً حاداً بين الشاعر وواقعه. هذا الصراع يمكن تفسيره من خلال النظريات النفسية حول الصراع الداخلي بين الذات الحقيقية والذات المثالية:

 

الذات الحقيقية مقابل الذات المثالية: الشاعر يبدو منزعجاً من الفجوة بين الواقع كما هو عليه (الذي يتميز بالجمود والتسلط) وبين ما يطمح إليه أو يتخيله. هذا الصراع بين الذات الحقيقية، المليئة بالمعاناة وعدم الرضا، والذات المثالية، التي تبحث عن الأمل والتحرر، يسبب ضغطاً نفسياً عميقاً.

2. شعور بالاختناق العاطفي والمعرفي

الألم والاختناق: الشاعر يصف معاناته بعبارات قوية مثل “مدادهُ المرّ يسحقُني” و”رغيفٍ مهشّمٍ”، وهو يعبر عن شعور بالاختناق العاطفي والمعرفي. هذا يمكن أن يكون تعبيراً عن الاكتئاب أو الإحباط العميق، حيث يكون الشخص محاصراً في حلقة من الألم المستمر والضغط النفسي.

 

الانسداد المعرفي: الإشارة إلى “انسدادٍ معرفيّ” تدل على حالة من الجمود الفكري، حيث يصبح من الصعب على الفرد التفكير بوضوح أو إيجاد حلول للمشاكل. هذه الحالة من الركود العقلي قد تكون نتيجة للضغوط النفسية المستمرة أو الشعور بالإرهاق.

 

3. فقدان المعنى وإدراك العدم

الإدراك العدم: القصيدة تعبر عن شعور بالفراغ وفقدان المعنى، وهو جانب مركزي في بعض النظريات الوجودية. الشاعر يتساءل عن جدوى الحياة ويدعو إلى استفاقة أو نجاة، مما يعكس تجربة الوجودية حيث يكون الشخص في حالة من الشك والبحث عن معنى أو غرض في الحياة.

 

التشاؤم ورفض الواقع: استخدام تعبيرات مثل “السواد” و”الجمود” يوضح حالة من التشاؤم العميق، حيث يبدو أن الشاعر يرفض الواقع الحالي ويشعر بعدم جدوى المحاولة لتغييره. هذه الحالة من الرفض والتشاؤم يمكن أن تكون ناتجة عن شعور بالعجز أو الإحباط.

 

4. الضغوط الاجتماعية والوجودية

النقد الاجتماعي: الشاعر ينتقد المجتمع والوضع السياسي، مما يعكس شعوراً بالاستياء تجاه القوى الاجتماعية والهيمنة. هذا النقد يمكن أن يكون تعبيراً عن الضغط الاجتماعي الذي يؤثر على الفرد، مما يزيد من معاناته الشخصية.

 

الاستبداد والتسلط: الإشارة إلى “الهيمنة” و”استبداد” تعكس تجربة الفرد تحت نير السلطة والرقابة. هذا يمكن أن يكون له تأثير نفسي عميق، حيث يعاني الشخص من فقدان السيطرة والشعور بالتعرض للقمع أو التسلط.

 

5. الوعي بالتناقضات الوجودية

الوعي بالوضع الراهن: الشاعر يظهر وعياً عميقاً بالتناقضات الوجودية والضغوط التي يواجهها، مما يشير إلى مستوى عالٍ من الوعي الذاتي. هذا الوعي قد يكون مصدراً للمعاناة ولكنه أيضاً يمكن أن يكون خطوة نحو الفهم والبحث عن حلول.

 

الإحساس بالتهميش: وصف الشاعر لنفسه على أنه “ركن مخفي” يعكس إحساساً بالتهميش والعزلة. هذا يمكن أن يرتبط بتجربة نفسية من الشعور بالانفصال عن المجتمع أو العالم، مما يعزز الشعور بالضعف والعجز.

 

خلاصة :

من الناحية النفسية، تعبر القصيدة عن حالة عميقة من الصراع الداخلي والاختناق العاطفي، مدفوعاً بتشاؤم وجودي ونقد اجتماعي. الشاعر يعبر عن معاناته من خلال شعور بالجمود الفكري والضغط النفسي، مع استفسارات حول معنى الحياة والنجاة. فهي تعكس تجربة شاملة من الألم، والفقدان، والبحث عن معنى في عالم يبدو غير مبالٍ أو متسلط.