23 ديسمبر، 2024 1:07 ص

قراءات في نصوص قرآنية

قراءات في نصوص قرآنية

قوله تعالى
(وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ )
تمهيد
هذه الآية هي الآية ( 45 ) من سورة الزخرف .و الآية التي جاءت في سياق مع آيات أخرهي الآيات التالية :

(( أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) الزخرف ( 40-47))

من الظاهر ان الآية مستقلة في معناها ، الا من حيث بيان باقي الآيات ان المخاطب هو النبي محمد صلى الله عليه و اله . و ربما يكون الأمر بالسؤال مناسبا لأمر الاستمساك بالوحي في الآية (43) .

القراءة الظاهرية للآية .

القراءة الظاهرية هي قراءة النص مستقلا عن كل ما هو خارجه ، و في النصوص المنفردة كالأدب تكون هذه القراءة صحيحة ، الا انها في النصوص المرتبطة باختصاص و معارف و دستور و نظام كما في النص الشرعي ، فان القراءة الظاهرية تكون قراءة ابتدائية لا تقر الا بموافقتها ما هو ثابت من النظام أي المعارف الشرعية الثابتة في نظام الشرع . و اذا لم تكن هناك معارضة في القراءة الظاهرية للثابت من الدين فانها تكون متعينة لا الأصل هو الظاهر . اذن القراءة الظاهرية قد تطابق القراءة الواقعية و قد تخالفها و ذلك بحسب قواعد و قرائن لغوية و لفظية معتبرة و الأصل في القراءة هي الظاهرية كما عليه سلوك العقلاء .

ظاهر الآية انها خطاب صريح للنبي صلى الله عليه و اله تأمره ان يسأل من ارسالهم الله تعالى من قبله من الرسل . و لأجل استقلال الآية معنويا عن سياقها فان مفرداتها تكون ظاهرة في معانيها الحقيقية الا بدليل . فلا بد من بيان المعاني الشاملة و التفصيلية لتلك المفردات .

و قبل بيان معنى و دلالة فعل الأمر ( اسأل) لا بد من بيان المأمور و الأمر بهذا الامر .

المأمور هو النبي محمد صلى الله عليه و آله بقرينة ما تقدم من آيات التي فيها اختصاص به صلى الله عليه و اله كقوله تعالى (لَكَ وَلِقَوْمِكَ) ، و ( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ ) و الضمير يرد الى اقرب مفسّر . كما ان القرينة العامة بان يكون الاصل في المخاطب المفرد في القران هو النبي صلى الله عليه و اله . و الآمر هنا هو الله تعالى بقرينة داخلية هي قوله تعالى ( أَجَعَلْنَا ) و الجعل مختص به تعالى و بقرينة الحال والأصل بان الامر للنبي يكون بالأصل و العادة من الله تعالى .

و بعد ان تبين ان هذا الامر متوجه من الله تعالى الى نبيه صلى الله عليه و اله ، فان الاصل فيه الوجوب . وكلمة ( اسأل ) لها معان متعددة ففي المعاجم ( سأل فلانا حاسبه ، و سأل المحتاج و سأله الله السلامة و سأل مسألة و سؤالا ) و من الظاهر ان المراد في الآية هو المعنى الاخير ، كما انا لو نظرنا الى المشترك المعنوي الذي ينتزع من هذه المعاني لوجدنا الطلب هو المشترك الا انه قد يكون معرفيا بالسؤال و المحاسبة و ماديا بسؤال المحتاج و طالب السلامة ) .

وفق ظاهر الآية فان المسؤول هم (مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا ) ، و الوحدة المركزية هنا هي كلمة (رسل) . قال في الصحاح ( أرْسَلَهُ في رِسَالة فهو مُرْسِلٌ و رَسُولٌ والجمع رُسْلٌ و رُسُلٌ و المُرْسَلاتُ الرياح وقيل الملائكة و الرَّسُولُ أيضا الرسالة وقوله تعالى { إنا رسول رب العالمين } ولم يقولا رسولا رب العالمين . و في المعجم الرائد (رسول – ج ، رسل ورسلاء ورسل وأرسل 1 – رسول : مرسل ، مبعوث ، للمذكر والمؤنث والمفرد والجمع . 2 – رسول : رسالة . 3 – رسول : نبي . 4 – رسول الواحد من « تلاميذ » المسيح ، أي الحواريين . 5 – رسول : موافق لك في النضال أو نحوه

و في الحقيقة ان الرسل وان كان معناها لغة ما تقدم الا انها كمصطلح قرآني منصرف الى الانبياء المرسلين عليهم السلام ، بل ان ظاهر القران ان هذا مصطلح شرعي خاص بهم يدل عليه قوله تعالى (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) و من الظاهر ان الفترة مختصة بالانبياء و لا تشمل الملائكة و لا غيرهم . كما ان قوله تعالى ( من قبلك ) تشير الى ارادة من هم رسل على الارض . اذن فالمسؤول هنا هم الانبياء الرسل الذين ارسلهم الله تعلى وسواء اريد المعنى العام بمعنى النبي او الخاص منهم فان المهم ان المسؤول هم انبياء .

الاشكال الذي وجّه الى القراءة الظاهرية للآية

الاشكال الذي وجّه للقراءة الظاهرية للآية امتناع سؤال النبي صلى لله عليه و آله للانبياء على الحقيقة لعدم معاصرته صلى لله عليه و أله لنبي . قال الطنطاوي في الوسيط (قال صاحب الكشاف ما ملخصه : ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال لاستحالته ، ولكنه مجاز عن النظر فى أديانهم ، وأنهم ما جاءوا قط بعبادة الأوثان ، وإنما جاءوا بالأمر بعبادة الله – تعالى – وحده . .) و قال السيد المرتضى (ألا ترى أنهم لما سمعوا قوله في السورة التي يذكر فيها الزخرف مخاطبا للنبي صلى الله عليه وآله: (وأسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدن – 45)، وعلموا أن النبي صلى الله عليه وآله لا يمكنه مسألة من تقدم من الرسل، وقد عمهم الله برضوانه ونقلهم إلى جنانه – تأولوا ذلك على ما يسوغ أن يكون مرادا .) و قال النسفي ( ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء . و قال ابن جزي في التسهيل ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ) إن قيل كيف أمر النبي صلى الله عليه وسلم .. أن يسأل الرسل المتقدمين وهو لم يدركهم فالجواب من ثلاثة أوجه- الى آخر كلامه)

و يبدو ان هذا السؤال لم يكن متأخرا فلقد وردت رواية تصل الى زمن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام ، ففي روى في كشف اليقين عن كتاب محمد بن العباس بسنده عن الحضرمي عن أبي عبدالله عليه السلام قال : أتى رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام وهو في مسجد الكوفة وقد احتبى بحمائل سيفه ، فقال : يا أمير المؤمنين إن في القرآن آية قد أفسدت علي ديني وشككتني في ديني ، قال : وما ذلك؟ قال : قول الله عزوجل « واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ) فهل كان في ذلك الزمان نبي غير محمد (صلى الله عليه و اله ) فيسأله عنه؟ الخبر .

جواب الاشكال

لا يبدو ان المنع من حمل السؤال على حقيقته هنا تام ، اذ ان مثل ذلك لا يمتنع على بشر اعرج به الى السماء و بلغ سدرة المنتهى و رأى من آيات ربه الكبرى و يلقّى الوحي و تحققت على يده المعجزة . فلا وجه واضح للمنع . و لقد جاءت الروايات في رد هذا الاشكال و لقد كان هذا قولا من اقوال المفسرين المنقولة . قال ابن جزي في التسهيل ( واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ) إن قيل كيف أمر النبي صلى الله عليه وسلم .. أن يسأل الرسل المتقدمين وهو لم يدركهم فالجواب من ثلاثة أوجه الأول أنه رآهم ليلة الإسراء ، الثاني أن المعنى اسأل أمة من أرسلنا قبلك ، الثالث أنه لم يرد سؤالهم حقيقة وإنما المعنى أن شرائعهم متفقة على توحيد الله بحيث لو سئلوا أهل مع الله آلهة يعبدون لأنكروا ذلك ودانوا بالتوحيد ) . و قال السيد المرتضى (وقد قال بعضهم في ذلك: إن المراد به واسأل الانبياء الذين في السماء، ويحتمل أن يكون ذلك قبل اجتماعه (عليه السلام ) معهم في ليلة المعراج، على ما جاءت به الاخبار ).

اقول لقد روى اهل الحديث رواية تفسر الآية بالمتون التالية .

رواية كشف اليقين المتقدمة عن كتاب محمد بن العباس عن أحمد بن إدريس ، عن ابن عيسى ، عن الاهوازي عن فضالة ، عن الحضرمي عن أبي عبدالله عليه السلام قال : أتى رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام وهو في مسجد الكوفة وقد احتبى بحمائل سيفه ، فقال : يا أمير المؤمنين إن في القرآن آية قد أفسدت علي ديني وشككتني في ديني ، قال : وما ذلك؟ قال : قول الله عزوجل « واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمان آلهة يعبدون ) فهل كان في ذلك الزمان نبي غير محمد (صلى الله عليه و اله ) فيسأله عنه؟ فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام : اجلس اخبرك به إن شاء الله. إن الله عزوجل يقول في كتابه : « سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا » فكان من آيات الله التي أراها محمدا أنه انتهى به جبرئيل إلى البيت المعمور وهو المسجد الاقصى ، فلما دنا منه أتى جبرئيل عينا فتوضأ منها ، ثم قال : يا محمد توضأ ، ثم قام جبرئيل فأذن ، ثم قال للنبي : تقدم فصل واجهر بالقراءة فإن خلفك افقا من الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله عزوجل ، وفي الصف الاول آدم ونوح وإبراهيم وهود وموسى وعيسى وكل نبي بعث الله تبارك وتعالى منذ خلق السماوات والارض إلى أن بعث محمدا فتقدم رسول الله صلى الله عليه و اله فصلى بهم غير هائب ولا محتشم. فلما انصرف أوحى إليه كلمح البصر : سل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون ، فالتفت إليهم رسول الله صلى الله عليه و اله بجميعه فقال : بم تشهدون؟ قالوا : نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنك رسول الله ، وأن عليا أمير المؤمنين وصيك ، وأنك رسول الله سيد النبيين ، وأن عليا سيد الوصيين اخذت على ذلك مواثيقنا لكما بالشهادة فقال الرجل : أحييت قلبي وفرجت عني يا أمير المؤمنين .

و قال الثعلبي في الكشف والبيان ( اختلف العلماء في هؤلاء المسؤولين. فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي وعطاء بن أبي رياح والحسن والمقاتلان : هم المؤمنون أهل الكتابين، وقالوا : هي في قراءة عبد الله وأبي (وأسئل الّذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا)، وقال ابن جبير وابن زيد : هم الأنبياء الّذين جمعوا له ليلة أُسري به ببيت المقدس. أخبرنا ابن فنجويه حدثنا موسى بن محمد، حدثنا الحسن بن علوية، حدثنا إسماعيل بن عيسى، حدثنا المسيب، قال : قال : أبو جعفر الدمشقي : سمعت الزهري يقول : لما أسري بالنبي {صلى الله عليه وسلم} صلى خلفه تلك الليلة كلّ نبي كان أُرسل فقيل للنبي (عليه السلام) : {وَسَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ} . أخبرنا الحسين بن محمد الدينوري، حدثنا أبو الفتح محمد بن الحسين بن محمد بن الحسين الأزدي الموصلي، حدثنا عبد الله بن محمد بن غزوان البغدادي. حدثنا علي بن جابر، حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله ومحمد بن إسماعيل، قالا : حدثنا محمد بن فضل، عن محمد بن سوقة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال : قال رسول الله : {صلى الله عليه وسلم} «أتاني ملك فقال : يامحمد {وَسَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} على ما بعثوا، قال : قلت : على ما بعثوا، قال : على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب».

و لقد جاء في الكافي بسند متصل ان نافع مولى عمر بن الخطاب سأل ابا جعفر محمد بن جعفر الباقر عليه السلام عن هذه الآية : فقال: اخبرني كم بين، عيسى وبين محمد (صلى الله عليه وآله) من سنة قال: اخبرك بقولي أو بقولك؟ قال: أخبرني بالقولين جميعا، قال: أما في قولي فخمسمائة سنة وأما في قولك فستمائة سنة قال: فأخبرني عنه قول الله عزوجل لنبية: ” واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون من الذي سأل محمد (صلى الله عليه

وآله) وكان بينه وبين عيسى خمسمائة سنة فقال: فتلا أبوجعفر (عليه السلام ) هذه الآية: ” سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الاقصى الذي باركنا حوله لنرية من آياتنا ” فكان من الآيات التي أراها الله تبارك وتعالى محمدا (صلى الله عليه وآله) حيث أسرى به إلى بيت المقدس أن حشر الله عز ذكره الاولين والآخرين من النبيين والمرسلين ثم أمر جبرئيل (عليه السلام) فأذن شفعا وأقام شفعا وقال في أذانه: حي على خير العمل، ثم تقدم محمد (صلى الله عليه وآله) فصلى بالقوم فلما انصرف قال لهم: على ما تشهدون وما كنتم تعبدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسول الله، أخذ على ذلك عهودنا ومواثيقنا . الخبر .

و الخبر رواه في الكافي عن ابي الربيع بسند متصل قال عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد، عن الحسن بن محبوب، عن أبى حمزة ثابت بن دينار الثمالي وأبومنصور، عن أبي الربيع و رجال الحديث ثقات عدول الى ابي الربيع اما ابو الربيع ، فالمذكور في الرجال من اصحاب الباقر سليمان بن خالد بن دهقان: أبو الربيع الأقطع، و كان قارئا، فقهيا، وجها خالد بن أوفى فالرجل مشترك .

و قال في الدر المنثور ( أخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، عن سعيد بن جبير في قوله { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } قال : ليلة اسري به لقي الرسل . وأخرج ابن المنذر ، عن ابن جريج في قوله : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } قال : بلغنا أنه ليلة أسري به أري الأنبياء ، فأري آدم ، فسلم عليه وأري مالكاً خازن النار ، وأري الكذاب الدجال . و قال في موضع أخر : وأخرج ابن جرير ، عن ابن زيد في قوله : { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } قال : جمعوا له ليلة أسري به ببيت المقدس .

و المنهج الروائي الذي يجمع المناهج و المشارب المختلفة ، هو ما سطرناها في ابحاثنا ( اسلام لا مذهبي ) اذ – وكما بينا في مبحث القطعي و الظني من الاخبار – (من المعلوم ان الموضوعية كلها انما تكون لوثاقة الصدور ، و لا موضوعية ابدا لغير ذلك من اعتبارات ، فكل ما يبحث في جوانب وجهات اخرى كصحة السند انما تكون لاجل تلك الغاية و لا موضوعية في تلك الابحاث اصلا انما هي طريق للاطمئنان بالصدور ، وهذا من الواضحات ، فلا موضوعية في درجة السند من حيث هي و لا في راو معين من حيث هو ، و انما يلتفت الى ذلك لاجل كونه قرينة لزيادة الاطمئنان بالصدور .و من الجلي جدا و الذي لا يصح المناقشة فيه انه لا يمكن اعتماد كل نقل مسند الى المصادر المعصومة ، فهذا القول ليس فقط مفتقر للعلمية بل و خلاف الوجدانيات و الفطرة ) . و من هنا ( و كما بينا في مبحث التقييم النقلي في (اسلام بلا مذاهب ) ( فالموضوعية و المحورية هي لما يحقق الاطئمنان بالصدور وهو مختص بشكلين من النقل الاول القطعي المتمثل بالقران و السنة الثابتة القطعية ، و الشكل الثاني النقل الظني المصدق ، اي الذي يصدقه النقل القطعي ، وهذا باجماله وبهذه الصورة يصح ان يخرج شاهدا ، و لو توفرت فيه قوة سندية فانه يكون جائزا العمل به و اعتماده . و باختصار شديد التصديق يكون بموافقة الثابت من الشريعة و قوة السند تكون بمدح او تقوية من قبل أي رجالي منهجي علمي لم تعارض بغيرها ،

فان ذلك يكون جائزا الاعتماد عليه . من هنا ، فاذا كان المتن قويا سليما مصدقا صح الاستشهاد به ، و مع قوة السند بان يكون سندا متصلا بمن صفته ما تقدم يكون داخلا دائرة الاعتبار . و لا مبرر او موجب لذكر ان التوثيق كان هنا او هناك عند هذه الطائفة او المدرسة او تلك .

الروايات قوية متنا بالتصديق بالقران و الثابت من السنة و عدم معارضتها أي ثابت ديني و رواية الحضرمي قوية سندا ايضا ، و لا ريب انه بمجموعها تبلغ حد الاستفاضة فيكون مضمونها معرفة متاخمة للعلم توجب العلم و العمل و يكون الاحتياط في عدم نكرانها . و لذلك يضعف القول المنقول عن مقاتل بان هذه الاية مدنية ، فان هذه الروايات تدل على انها مكية لان المعراج حصل بمكة قال في تفسير البحر المديد (هذه السورة مكية ، وقال مقاتل : إلا قوله : { وأسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } و لقد قال القرطبي ( سورة الزخرف مكية بإجماع. وقال مقاتل: إلا قوله: « واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا » .

اقول لا ريب ان هذه الروايات مهما كانت درجة صحتها و ثبوتها ، فانها تشير الى حقيقة انه لا وجه للمنع من تحقق السؤال على الحقيقة ، بل و لا مانع في امكانه حتى في غير المعراج و على الواقع و في الارض و قد ذكر المرتضى من انه ( قد قيل: إن معنى ذلك واسأل تباع من أرسلنا، فحذف التباع وأقام المرسلين مقامهم، وهذا أيضا مطابق للغرض الذي أردناه. وقد قال بعضهم في ذلك: إن المراد به واسأل الانبياء الذين في السماء، ويحتمل أن يكون ذلك قبل اجتماعه (عليه السلام ) معهم في ليلة المعراج، على ما جاءت به الاخبار، قال: والسؤال واقع بالارواح، وكأنه تعالى قال: واسأل ارواحهم، وقال غيره: السؤال واقع بالاشخاص. وفي هذا الوجه نظر. و لقد اشار في الامثل الى عدم المانع من ذلك حيث قال ( قال في الامثل ( وأضاف البعض: إنّ مثل هذا اللقاء كان ممكناً بالنسبة إلى النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى في غير ليلة المعراج، لأنّ المسافات الزمانية والمكانية ليست مانعاً ولا عائقاً في مسألة اتصال النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بأرواح الأنبياء، وكان بإمكان ذلك العظيم أن يتصل بهم في أية لحظة، وفي أي مكان. طبعاً، ليس على هذه التفاسير أي إشكال عقلي ، لكن لما كان الهدف من الآية نفي مذهب المشركين، لاطمأنة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ إذ أنه(صلى الله عليه وآله وسلم) كان مستغرقاً في مسألة التوحيد، ومشمئزاً من الشرك إلى الحدّ الذي لا يحتاج معه إلى سؤال، ولم يكن التقاء النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) الروحي بأرواح الأنبياء الماضين استدلالاً مقنعاً أمام المشركين .

و الوجه الاخير الذي ناقش فيه صاحب الامثل جوابه ظاهر ، فان حمل السؤال على حقيقته لا يتعارض مع انفتاح العلم للنبي و سعة علمه و اعلميته مقارنة بغيره من الانبياء ، فالسؤال عن الشيء ليس فقط لاجل الجهل بل لاجل اغراض اخرى كثيرة كما في قوله تعالى (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) ) ، اذن ذات سؤال النبي صلى الله عليه و اله غيره من الرسل على ظاهره و حقيقة معناه غير ممتنع ، لا من جهة ملاحظة السائل و المسؤول و لا من جهة عدم معاصرة النبي محمد صلى الله عليه و اله لنبي على الواقع الحياتي .

و لقد ذكر الالوسي ما يؤكد عدم المانعية لهكذا اجتماع من قبل النبي صلى الله عليه و اله بالانبياء عليهم السلام .حيث قال معرض تفسير قوله تعالى ( فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) في جواب له على بعض الاجلة ( ولعمري أن الرجل قد بلغ الغاية من التكلف من غير احتياج إليه ،

ولعله لو استغنى عن ارتكاب التجوز بالتزام كون الاستفتاء من المرسلين المذكورين حيث يجتمع رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم اجتماعاً روحانياً كما يدعيه لنفسه الشيخ محيي الدين قدس سره مع غير واحد من الأنبياء عليهم السلام ويدعي أن الأمر بالسؤال المستدعي للاجتماع أيضاً في قوله تعالى : { وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن ءالِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] على هذا النمط لكان الأمر أهون وإن كان ذلك منزعاً صوفياً . اقول المنزع الصوفي انما يكون بحق غير النبي و اما النبي صلى الله عليه و اله فانه مؤيد و على يديه تجري المعجزة .

و من هنا فتوجيه الامر الى النبي محمد صلى الله عليه و آله في أصله و على ظاهره و حقيقته يشير الى امكانية اتصاله بمن سبقه من الرسل وهذا غير ممتنع حسب الاعجاز ، و على الارض و الواقع . و بدل من اغفال جهة المعجزة و البحث عن تأويل ، كان الاجدر اعتبار الاية من دلائل المعجزات و انه صلى الله عليه و اله بامكانه الاتصال بالانبياء السابقين او اتصل بهم فعلا ، لحقيقة ان النبي لا يعصي لله امرا و التي بالمحصلة تدل على ان النبي قد اتصل بانبياء سابقين في الحياة الدنيا كما انها تضعف الرواية التي تقول ( انه لم يسأل) . و من هنا لا مبرر للبحث عن محامل و تأويلات للامر ، بل ان من الغريب البحث عن تأويل لاجل الحمل الواقع واغفال عنصر الاعجاز و الخصوصية للنبي صلى الله عليه و اله . لذلك فالاصل في الاية و ظاهرها ان النبي يمكنه سؤال من قبله من الرسل بالمعجزة ، و حمل الاية على غير هذا المعنى لا وجه له .

ما قيل من تأويلات خلاف الظاهر

بعد ما بينا لا يكون هناك مبرر لحمل الآية على غير ظاهرها لكنا نورد التأويلا استكمالا للبحث .

قال في النكت و العيون (قوله عز وجل : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ } فيه ثلاثة أقاويل :

أحدها : يعني الأنبياء الذين جمعوا له ليلة الإسراء ، قاله ابن عباس ، وابن زيد ، وكانوا سبعين نبياً منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ، فلم يسألهم لأنه كان أعلم بالله منهم ، قاله ابن عباس .

الثاني : أهل الكتابين التوراة والإنجيل ، قاله قتادة ، والضحاك ، ويكون تقديره سل أمم من أرسلنا من قبلك من رسلنا .

الثالث : جبريل ، ويكون تقديره . واسأل عما أرسلنا من قبلك من رسلنا ، حكاه النقاش . )

قال الطوسي في التبيان (ثم قال لنبيه صلى الله عليه واله (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا) قال قتادة والضحاك: سل من أرسلنا يعني أهل الكتابين التوراة والانجيل، وقال ابن زيد: إنما يريد الانبياء الذين جمعوا ليلة الاسراء. وهو الظاهر، لان من قال بالاول يحتاج ان يقدر فيه محذوفا، وتقديره وإرسال أمم من أرسلنا من قبلك. وقيل: المراد سلهم فانهم وإن كانوا كفارا، فان تواتر خبرهم تقوم به الحجة. وقيل: الخطاب وإن توجه إلى النبي صلى الله عليه واله فالمراد به الامة كأنه قال واسألوا من أرسلنا كما قال (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء)) . و قال الطبرسي في مجمع البيان (« و أسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا » معناه سل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلنا إليهم الرسل هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد و هو قول أكثر المفسرين و التقدير سل أمم من أرسلنا أو أتباع من أرسلنا فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه و قيل إن المراد سل أهل الكتابين التوراة و

الإنجيل و إن كانوا كفارا فإن الحجة تقوم بتواتر خبرهم و الخطاب و إن توجه إلى النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فالمراد به الأمة أي سلوا من ذكرنا .

قال الطنطاوي في الوسيط (والمقصود من الآية الكريمة بيان أن الرسل جميعا ، قد دعوا أقوامهم إلى عبادة الله – تعالى – وحده ، كما قال – سبحانه – : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة } وكما قال – تعالى – : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } قال صاحب الكشاف ما ملخصه : ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال لاستحالته ، ولكنه مجاز عن النظر فى أديانهم ، وأنهم ما جاءوا قط بعبادة الأوثان ، وإنما جاءوا بالأمر بعبادة الله – تعالى – وحده . . وقيل : إن النبى – صلى الله عليه وسلم – جمع الله له الأنبياء ، فى ليلة الإِسراح فى بيت المقدس ، فصلى بهم إماما ، وقيل له سلهم : فلم يتشك ولم يسأل .

وقيل معنا ، سل أمم من أرسلنا من قبلك ، وهم أهل الكتابين : التوارة والإِنجيل فإذا سألهم فكأنما سأل – رسلهم – فالكلام على حذف مضاف . فالآية الكريمة تقرر على كل الوجوب بأبلغ أسلوب ، أن جميع الرسل قد جاءوا بعقيدة واحدة ، وبدين واحد ، هو عبادة الله – تعالى – ونبذ كل معبود سواه .)

قال في الميزان (قوله تعالى: “و اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أ جعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون” قيل: المراد بالسؤال منهم السؤال من أممهم و علماء دينهم كقوله تعالى: “فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك”: يونس: 94، و فائدة هذا المجاز أن المسئول عنه السؤال منهم عين ما جاءت به رسلهم لا ما يجيبونه من تلقاء أنفسهم. ) اقول ليس ظاهرا ارادة الاتباع بعبارة ( يقرؤون الكتاب )بل يمكن ارادة الانبياء ايضا قال القمي في تفسيره (واما الرد على من انكر المعراج والاسراء فقوله ” وهو بالافق الاعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين او ادنى(2) ” وقوله ” وسئل من ارسلنا من قبلك من رسلنا(3) ” وقوله ” فاسئل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك(4) ” يعني الانبياء عليه السلام وانما رآهم في السماء لما اسري به.

قال ابن كثير (وقوله: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } ؟ أي: جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد، كقوله: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل: 36]. قال مجاهد: في قراءة عبد الله بن مسعود: “واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا”. وهكذا حكاه قتادة والضحاك والسدي، عن ابن مسعود. وهذا كأنه تفسير لا تلاوة، والله أعلم.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: واسألهم ليلة الإسراء، فإن الأنبياء جُمِعوا له. واختار ابن جرير الأول، [والله أعلم] (1) . )

و قال ابو السعود

. { وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا } أي واسألْ أممَهم وعلماءَ دينِهم كقولِه تعالى : { فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ } وفائدةُ هَذا المجازِ التنبيهُ على أنَّ المسؤولَ عنه عينُ ما نطقتْ به

ألسنةُ الرسلِ لا ما يقولُه أممُهم وعلماؤُهم من تلقاءِ أنفسِهم . قالَ الفَرَّاءُ : هُم إنما يخبرونَهُ عن كتبِ الرسلِ فإذا سألَهم فكأنَّه سأَل الأنبياءَ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ .

ان النص القرآني نص معرفي تعييني تشخيصي خبر ، و هو غير قابل لتعدد القراءات ، بل ان التحقق القوي و الظاهر لتعدد الدلالات او ما يخالف الثابت هو من المتشابه الذي على المؤمن الايمان به و ليس له اتباعه ، و انما يكون الاتباع للمحكم ، لذلك لا بد من نقل التفسير من مجال تعدد الاقوال الى التعيين و التشخيص بمباني و قواعد قراءاتية متفق عليها .