18 ديسمبر، 2024 10:20 م

حدث ذلك في شتاء عام 1994, عندما نجلس في البارحة الخارجية من المنزل, مبكرين حتى نذهب إلى المدرسة وكانت حديقة قد حلت فيها شتلات البطاطا والبصل الأخضر محل شتلات زهور الجوري, وينتصب في الزاوية تنور طيني˛ كانت الأفواه جائعة والأمال واسعة, كنا بالكاد نجلس على البساط المصنوع من خرق قديمة بالية, تم تقطيعها على هيئة خيوط وبعدها تغزل لدى الحائك˛ كانت تلك من المهن أيام الحصار الأقتصادي.
كانت أمي تخبز لنا الخبر بالتنور الطيني لعدم قدرتنا على شراء أسطوانات غاز الطبخ بسبب شدة وطأة الحصار الأقتصادي حينذاك فقد كانت وجبتنا المفضلة صباحاً, الخبز الحار مع عسل التمر (الدبس) مع القليل من السمن, وبينما كنا نتاول وجبة الفطور الصباحي وأذا الباب يطرق, وكان الزائر غريباً تماماً وليس متوقعاً على الأطلاق, سيدة تحمل جنسية أجنبية, تعمل مع فرق التفتيش التي كانت تعمل في العراق, فبدا الدم يغلي في عروقي حقداً عليهم.
فقد كنت ومازلت أرى فيهم أداة طيعة بيد المخابرات الأمريكية حيث ذكر( ديفيد كي) ذلك لصحيفة (ليبراسبون) الفرنسية قائلآ : ̋إنهم عملاء لوكالة المخابرات الأمريكية˛ ويعملون لصالحها أكثر مما يعملون لصالح الأمم المتحدة ̏ كما كان رأيي في الحصار أنه جريمة أبادة جماعية, فبوجب (ميثاق عقوبة جريمة إبادة العنصر أو الأبادة الجماعية) التي عرفت تلك الجريمة بالنص الأتي: ̋…وأجبارهم على أتباع طريقة معيشة تؤدي إلى أنقراضهم كلياً أو جزئياً..̏ وحسب أحصائيات وكالة الأمم المتحدة للأمومة والطفولة (اليونيسيف) يموت كل يوم (250) طفل بسبب نقص حليب الأطفال وغياب الرعاية الصحية.
ومع مرور الأيام وجدت أن رؤيتي هي رؤية عالمية, طرحها د.دنيس هاليداي ممثل الأمم المتحدة السابق ومنسق الشؤون الأنسانية السابق في العراق والمسكرتير المساعد للأمين العام للأمم المتحدة, في المؤتمر الدولي الذ عقد في مدريد عام 1999 قائلآ : ̋..العقوبات الأقتصادية التي فرضتها الأمم المتحدة على شعب العراق بإعتبارها حالة من حالات الإبادة الجماعية وجريمة ضد الأنسانية̏ مع كل ذلك عندما رأت أمي أنهم ضيوف أخرجت أخر أرغفة الخبر من التنور بسرعة, ولم تلحظ أنها خلعت كيس القماش الذي تستعمله كقفاز, مما أدى إلى أحتراق نهايات أصبعها, وركضت إليهم تحيهيم, وقد أبعدتني عن الباب محاولة منها التغطية على نظرات الكراهية, التي كنت أنظر بها إلى تلك السيدة.
وعندها طلبت الظيفة رغيف خبز ساخن, فأسرعت لاأرادياً وجئت برغيف خبز قد أحترق جزء منه, عندئذ قالت : قدم رغيفاً جيداً فهم ضيوفنا, وبعد أن رحلت تلك الزائرة عاتبت أمي وقلت لها: يجب أن ترى بعض معاناتنا كما أنهم جزء من مأستنا سارداً لها حججي وفق المنظور الأنسانية وكيف يجب أن تكون وسائل الأمم المتحدة في التعامل مع القضايا الدولية فقالت لي : بني أني لا أستطيع مجارتك في تمتلك من معلومات, لكني أريد أن يأخذوا أنطباعاً حسنناً عنا يرونه في المحافل الدولية, وعند أسرهم أصدقائهم وأن كانت ساسية بلدانهم تجوعنا وتهلكنا.
ثم أردفت قائلة: أتريد أن تكون أكذوبة (الحضانات) لصيقة بالعراق, فأذا كانت أمي والتي هي لم تحصل على شهادة الأبتدائية (وأنا هنا لا أعيبها فانا صناعتها) تفكر بسمعة بلدها وتحاول أزلة كل زيف يسيئ بها – كيف بقنصل والذي هو واجهة بلده أن يقدم على التحرش بموظفات البلد المظيف ولا يفكر بسمعت العراق ويجعل من مقر القنصلية وكراً للمارسة الرذيلة؟!