23 ديسمبر، 2024 5:55 ص

قدسية الدين ومهنية الفقيه

قدسية الدين ومهنية الفقيه

هناك خلط متراكم في المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بموضوعات الدين، والتفقه فيه، ومرجعيته، مثل: الدين، الشريعة، العلم الديني، عالم الدين، الحاكم الشرعي، الفقيه، المفتي، المرجع الديني، ولي الأمر وغيرها، وصولاً إلى مفاهيم النظام الاجتماعي الديني الشيعي. ومنطلقات الخلط هو الجهل حيناً أو اللبس حيناً آخر أو التعمد حيناً ثالثاً.
وكمدخل للموضوع؛ ينبغي توضيح المراد من بعض هذه المصطلحات والمفاهيم؛ لرفع اللبس وتوجيه الحديث نحو مقاصده المعرفية في فرز المقدس عن اللامقدس، والثابت عن المتغير، والملزِم عن غير الملزم؛ لأنّ خطورة الخلط لا تكمن في الجدل النظري في المفردات؛ بل في مخرجاته العملية تحديداً، والتي تقود إلى تقديس اللامقدس وتصنيم المتغير والدعوة إلى الالتزام بغير الملزِم.
باختصار شديد: «الدين» هو المصادر المقدسة أو الأُصول الإلهية الثابتة، والمتمثلة في القرآن الكريم والصحيح من سنة رسول الله وآل بيته. أي أنّ أحكام الدين وقواعده العقدية والتشريعية القطعية اليقينية؛ هي الدين وخطابه حصراً. وهذه المصادر والأُصول هي الثابت والمقدس، وقدسيتها تعني أنّها ملزِمة للمسلم نظرياً وعملياً (1).
أمّا «علوم الدين» فهي أدوات معرفية للوصول إلى قراءة للدين والكشف عن موقفه العقدي وتكليفه العملي. ومخرجات هذا الفهم ليست مقدسة، وإلزامها ليس مطلقاً؛ إلّا بمقدار ما تحتويه من أُصول تشريعية توقيفية. وما عدا هذه الأُصول؛ فإنّ ما تبقى هي مخرجات تعبر عن فهم بشري؛ كونها أحكاماً ظنية لا نصّ فيها، وتعتمد على الاجتهاد، وتستند إلى مدارك ليست قطعية الصدور أو ليست قطعية الدلالة. وبالتالي؛ فالعلم الديني أو العلم الشرعي هو كأيّ علم آخر في مخرجاته. ولكن هناك قدسية نسبية أو مكتسبة تتعلق بالإلزام؛ كإلزام فتوى الفقيه بالنسبة لمن يقلده، وإلزام الحكم الثانوي والحكم الولائي للحاكم الشرعي لمن يخضع له زماناً ومكاناً (2).
و«عالم الدين» هو المتخصص في العلم الديني أو معارف الدين، ومقتضى التخصص أن لا يُطلق مصطلح عالم الدين على كل من يرتدي الزي الديني؛ بل يطلق ـ حصراً ـ على الفقيه المتكلم المحدِّث، أي الذي يجمع بين الاجتهاد والتخصص في علم العقيدة والإجازة الروائية؛ لأنّ مفهوم «العالِم» مفهوم مركب وعميق في دلالاته الاصطلاحية.
و«التفقه» في الدين ورواية الحديث وطلب العلم الديني ليس مهنة بالأساس؛ بل هو واجب كفائي على المسلمين؛ لأنّ المهنة هدفها التكسّب وطلب الرزق، وهذا الهدف غير منظور في مهمة التفقّه وطلب العلم. كما لا يوجد في الإسلام رجال دين معنيون وظيفياً، ولا كهنوت ولا «إكليروس» ولا حراس معبد؛ بل يؤكد الإسلام ـ كما جاء في النصوص القرآنية والحديثية ـ على أنّ المتخصصين في علومه هم فقهاء وعلماء ومجتهدون ومحدِّثون. وحتى لو كان تطور الحياة ومتطلبات العصر وتوسع العلوم الدينية وثقل اختصاصات عالم الدين الموزعة بين الدراسة والتدريس والتبليغ والخطابة والإفتاء والتأليف والتحقيق ورعاية النظام العام؛ قد فرضت بمجموعها تحوّل طلب العلم والتفقّه في الدين إلى سلك مهني بحاجة إلى تفرغ كامل؛ لكنها لا تحوِّل طالب العلم وعالم الدين إلى كاهن أو رجل دين؛ بل يبقى عنوانه طالباً أو أُستاذاً أو عالماً أو فقيهاً أو مجتهداً.
والفرق بين عالِم الدين الإسلامي والعالِم في العلوم الوضعية، بكل فروعها، هو أنّ عالم الدين يجمع بين التخصص العلمي والعمل الديني، وما يترتب على العمل الديني من مهام تبليغية وتحكيمية وحِسبية، ومرجعية اجتماعية وسياسية. في حين أنّ عالم القانون أو عالم الاجتماع أو عالم الفيزياء هو متخصص لا أكثر، ولا يترتب على مهنته وظائف اجتماعية ووظائف عامة أُخر.
أمّا الفرق بين عالم الدين الإسلامي والكهنة والرهبان والقساوسة في الأديان الأُخر؛ فهو في المهام أيضاً؛ إذ تقتصر مهمة رجل الدين المسيحي أو اليهودي أو البوذي أو الهندوسي على الجانب الديني المحض. بينما تجمع مهمة عالم الدين الإسلامي بين الجانبين الديني والدنيوي. وهذا الجمع يختص به العلماء الشيعة دون السنة أيضاً؛ لأنّ علماء الدين السنة هم ـ عادة ـ موظفون في الدولة، ويعيشون على رواتبهم الوظيفية، وأن كبيرهم هو مفتي الدولة أو شيخ الإسلام التابع لرئيس الدولة. فضلاً عن أنّ المنظومة الدينية السنية هي جزء لا يتجزأ من النظام السياسي للدولة، سواء كان هذا النظام إسلامياً أو علمانياً. على عكس علماء الشيعة، المستقلون بمنظومتهم الدينية الاجتماعية ومواردهم المالية وإدارة حوزاتهم. بل حتى لو كانت الدولة إسلامية ونظامها ديني ويرأسها فقيه ومرجع ديني، كما هو الحال مع إيران بعد العام 1979؛ فإنّ المنظومة الدينية الشيعية بقيت محتفظة باستقلاليتها الإدارية والمالية والعلمية.
كما يمارس علماء الدين الشيعة واجبات الحِسبة ورعاية النظام العام للمجتمع أو الدولة؛ انطلاقاً من مهامهم الدينية الأصلية، وليس بصفتهم الشخصية. أمّا رجال الأديان الأُخر أو العلماء من أهل السنة الذين يمارسون عملاً عاماً أو سياسياً؛ فإنّما هي ممارسة شخصية مدنية لا علاقة لها بمهامهم الدينية الأصلية. وهذا هو الفرق البنيوي الأساس بين النظام الاجتماعي الديني الشيعي والمنظومات الدينية الاجتماعية الأُخر في جميع الأديان والمذاهب.
وحيال هذا الفرق البنيوي بين عالم الدين الشيعي ورجل الدين في المذاهب والأديان الأُخر؛ يكمن خطأ دعاة العلمانية الشيعة الذين يطالبون بعدم تدخل الدين في الشأن العام، وعدم تدخل عالم الدين الشيعي في قضايا السياسة والدولة؛ إذ يقيس العلمانيون المنظومة الدينية الشيعية وفقهاءها بباقي المنظومات الدينية والمذهبية الأُخر ورجالها؛ فيقعون في أخطاء معرفية فادحة؛ بسبب عدم معرفتهم بخصوصية عمل الفقيه الشيعي ومهام المنظومة الدينية الشيعية المستندة إلى أُصول تشريعية ثابتة، ويتخيلون أنّ بالإمكان تحويل هذه المنظومة إلى منظومة شبيهة بالفاتيكان أو مشيخة الإسلام أو دار الإفتاء، وأن يكون الفقيه الشيعي كأيّ عالم دين سني أو قس مسيحي أو كاهن بوذي.
وحيال دعوات العلمانيين إلى أن يكتفي عالم الدين الشيعي بالعمل داخل المسجد فقط؛ لأنّه مكانه الطبيعي الوحيد؛ أُسوة بالقس الذي يحصر عمله في الكنيسة؛ فهناك دعوات شيعية دينية متطرفة مضادة تقابلها، تضع كل من يرتدي الزي الديني الشيعي في مقام وهمي غير مقامه الحقيقي. وهنا يقع الواقع الشيعي بين الإفراط والتفريط في موضوع صلاحيات عالم الدين. لذلك؛ ينبغي التأكيد على أنّ المعني بصلاحيات الحاكم الشرعي والولي على الفتوى والقضاء ورعاية الشأن العام؛ إنّما هو المجتهد العادل الكفء حصراً، وليس كل علماء الدين أو كل من وضع العمامة على رأسه. وقد خلق تفريط الخصوم وإفراط الموالين، رؤى وهمية متعصبة بعيدة عن الأُصول الشرعية، كرّستها الظروف الاجتماعية التراكمية القاسية التي عاشها الشيعة قرون طويلة، وفي مقدّمها وهْمُ قدسية الزي الديني وقدسية من يرتديه، وأنّ من يرتديه هو ـ بالضرورة ـ مشروع زعيم ديني وقائد اجتماعي، وأنّه الوحيد المخوّل بممارسة العمل التبليغي والتربوي الديني، وأنّ الزي الديني مدعاة للتمايز الديني والاجتماعي.
والحال أنّ الزي الديني لا يخلق عالماً دينياً، ولا يخلق إنساناً عادلاً ومتقياً وزاهداً ومستقيماً وواعياً؛ فهناك منحرفون فكراً وسلوكاً يرتدون الزي الديني؛ بل يدّعي بعضهم الاجتهاد والمرجعية. وليس الزي الديني أكثر من زي اختصاص؛ كأيّ اختصاص آخر، وهو ما يفرض احترام هذا الاختصاص من قبل غير المتخصص. وكما يجب احترام اختصاص الطبيب والمهندس وعالم الاقتصاد، والاستماع إلى توجيهاتهم والالتزام بها في حدود اختصاصهم؛ فإنّ الزي الديني كذلك؛ يفرض احترام تخصص من يرتديه، والالتزام بتوجيهاته في حدود اختصاصه.
وكما أنّ من يرتدي الزي الديني ليس بالضرورة أن يكون عالم دين؛ فليس بالضرورة أيضاً أن يكون كل عالم دين عادلاً ومتّقياً وكفءً؛ بل يمكن لأيّ غير متدين وأيّ علماني وأيّ غير مسلم أن يكون مجتهداً وعالماً متخصصاً في الدين الإسلامي، أي يمتلك القدرة على استنباط الحكم الشرعي من مصادره. وهناك مجتهدون ظلوا يرتدون الكوفية أو البدلة الحديثة؛ لأنّ الاجتهاد مرتبة علمية وليس مرتبة دينية، مثلها مثل درجة الدكتوراه والأُستاذية. لكن مرتبة الاجتهاد تتحول إلى رتبة دينية تؤهل حاملها لممارسة القيادة الاجتماعية الدينية، إذا توافرت فيه الشروط والمعايير المتعارفة، كالعدالة والتقوى وطهارة المولد والذكورة والإيمان(3) وغيرها.
ومهما بلغ الفقيه من العلمية والتقوى والكفاءة؛ فإنّه لا يكون وكيلاً عن الله وممثلاً للدين ومعصوماً، أو يكون خطابه وسلوكه هو الدين ذاته؛ بل إنّه يمثل امتداداً موضوعياً لمنصب إمامة المعصوم، وإنه معين تعييناً نوعياً من الإمام، ولا يمتلك أية صلاحيات إلّا في حدود ما شرعه له المعصوم، كما في حديث «التحكيم» وحديث «التقليد» وحديث «الرجوع» وحديث «ورثة الأنبياء» (4)، وهو ما يجعله ـ على المستوى الشخصي ـ ليس مقدساً. ولذلك؛ إذا أخطأ عالم الدين أو أخطأت مجموعة من علماء الدين؛ فإنّما هي أخطاء بشرية، وليس خطأ الدين أو خطأ المنظومة الدينية. وفي هذا المجال يلعب نوعان من الناس تزييفاً خطيراً:
الأول: يرتدي زي علماء الدين، ويوحي للناس بأنّه يمثل الدين وأنّ كلامه هو كلام الدين؛ من أجل أن يغشهم ويبتزهم.
والثاني: خصم للدين، ويوحي أيضاً بأنّ كل من يرتدي زي علماء الدين يمثل الدين، وأنّ ما يفعله هو تعبير عن فعل ديني؛ ليحقق الخصم من خلال ذلك هدف تشويه قدسية الدين وضرب النظام الاجتماعي الديني الشيعي.
وينعكس هذا الأمر على موضوع الطاعة لعالم الدين، وهي طاعة نسبية خاصة بالفقيه العادل الجامع لشرائط التقليد، والمرجع الأعلى المتصدّي، والولي الفقيه الحاكم، وهي مناصب تجب طاعتها في حدود مساحة الولاية التي شرّع الرسول والإمام المعصوم صلاحياتها ووظائفها.
النتيجة؛ إنّ الزي الديني وطلب العلم وبلوغ درجة الاجتهاد لا تمنح بمجموعها القدسية لصاحبها، ولا التميّز الديني والاجتماعي، ولا المرجعية الدينية، ولا الطاعة؛ بل إنّ القدسية هي للفتوى والحكم الشرعي وفق شروطهما الموضوعية. كما لا يستطيع أي مخلوق أن يدّعي أنّه يمثل الدين؛ بل إنّ من يمثل الدين هي المصادر والأُصول التشريعية المقدسة، وإنّ تمثيل مرجع الدين للدين وللشريعة إنّما هو تمثيل نسبي، ينحصر في الكشف عن موقف المكلف تجاه الدين، وإنّ العدالة والتقوى والكفاءة هي شروط أساسية لكي يكون المجتهد مرجعاً دينياً، وإنّ شرط التصدّي يضاف إلى الشروط الآنفة؛ لكي تمنح بمجموعها من يتمتع بها صلاحيات الولاية على الشأن العام، وهي التي تفرض على المؤمنين طاعته بقوة الفتوى والحكم الشرعي، أو بقوة القانون في حالة الولي الفقيه الحاكم. وبكلمة أُخرى؛ فإنّ الطاعة والقدسية في النظام الاجتماعي الديني الشيعي، هما عمليتان معقدتان وصعبتا المنال، ولا يستطيع أي عالم دين أن يتمتع بهما؛ سوى فقيه واحد أو اثنين في زمان واحد، هما المرجع الأعلى المتصدّي للشأن العام، والولي الفقيه الحاكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحالات
(1) أُنظر: علي المؤمن، الإسلام والتجديد، ص14 ـ 32.
(2) المصدر السابق.
(3) الإيمان بمعناه الخاص، أي التشيع
(4) راجع الفصل الثالث من هذا کتاب “الاجتماع الديني الشيعي” للكاتب نفسه؛ للتعرف على مصادر الأحاديث ودلالاتها.