18 ديسمبر، 2024 11:13 م

قتل المتظاهرين العزّل وتجربة ستانلي ميلجرام

قتل المتظاهرين العزّل وتجربة ستانلي ميلجرام

عندما أتحدث هنا عن موضوع كهذا, إنما أريد أن أبحث وأحرك ذهنية القارئ إلى ابعد من الجمود الفكري ألانتمائي إلى دراسة أحوال المجتمعات وسلوكهم بما هم بشر, ولذا عندما نستعرض هذه النماذج فهو كمثال يمكن أن يشمل الجميع ماضياً وحاضراً, ولهذا يمكن أن يكون السؤال كيف يتحول أداء الواجب الذي يفترض أن يكون قد أعد لحماية المواطن إلى جريمة تسفك فيها الدماء بشكل مرّوع؟
للنظر إلى تجربة عالم النفس “ستانلي ميلجرام” والتي قادته إلى القاعدة التي تقول بتفاهة الشر وإن الإنسان ليس قاسيا بفطرته لكن القانون والسلطة هي التي تجعله قاسياً. فكيف يحصل ذلك؟
لقد تأثر ميلجرام بالجرائم التي أرتكبها القادة النازيون الألمان تحت عنوان طاعة الأوامر, فتم عمل تجربة قامت بها جامعة ييل عام 1961 ـ 1962 لمعرفة كيف يتحول الإنسان المسالم إلى فرد سلطوي قاتل, فأُقيمت بالتجربة التالية:
دُفع لمتطوعين مبالغ مالية بسيطة على أنها تجربة لتقوية الذاكرة وكان كل أثنين من المتطوعين يمثل أحدهما دور المدرّس والآخر دور المتعلم يُشرف عليهما شخص بلباس ابيض يدير التجربة, فيُوصل سلك كهربائي بالمتعلم ويبدأ الأستاذ بتوجيه الأسئلة للطالب وكل سؤال لا يجيب عليه الطالب يقوم الأستاذ بضغط الزر الكهربائي ليصدم الطالب, يبدأ أولاً بتيار خفيف وكلما زاد خطأ المتعلم زادت شدة التيار الكهربائي وكان المدرس يُجبر على مشاهدة المتعلم وهو يصرخ من شدة التيار.. وفي التجربة تم الاتفاق مع الطالب على الصراخ أمام المدرس دون علم الأخير بأنه لم يكن هناك تيار وصعقة شديدة, وكانت هذه التجربة من أشهر التجارب التي أجريت في علم النفس.
لقد أجرى ستانلي ميلجرام قبل التجربة استطلاعاً حول ردود أفعال من يقومون بدور المدرّس, فكانت النتيجة أن شعر معظم الذين طُلب منهم أن يقوموا بدور الأستاذ بضغط شديد, وإنهم قالوا أنهم سيتوقفون عن فعل التجربة في حال سمعوا صراخ الطلاّب وسوف لن يقدموا مزيداً من الصدمات.
لكن كانت المفاجئة أن الواقع أثبت العكس أن الأغلبية من المدرّسين استمروا بإعطاء الصعقات الكهربائية رغم تصورهم للألم الشديد الذي يعانيه الطالب وتوسله بأن يخرج من التجربة, وكان ذلك طاعة لأوامر الشخص المشرف على التجربة,
ثم أجريت هذه التجربة في أنحاء مختلفة من العالم فكانت لها نفس النتائج.
أفضت دراسة ميلجرام إلى أن ذلك يعود إلى عدة أسباب يمكن وضعت في النقاط التالية وكما ذُكر:
أولا: الجانب الفني في العمل ووجود رغبة لدى الإنسان أن يؤدي عمله بشكل مميز وضمن اختصاصه.
ثانيا: تحويل المسؤولية الأخلاقية عن أي عمل إلى المسؤول الأعلى أو المشرف عليها وهذا الأمر اعتادت محاكم الجرائم سماعه وهو قول: أنا أنفذ الأوامر.
ثالثا: اعتبار هذا السلوك من قبل المشاركين هو كجزء من قضية أهم, فمثلاً الوصول إلى نتائج التجربة كان يعتبر لدى المدرّسين أهم من صراخ الطلبة وآلامهم .. وهكذا نرى عندما تُخلق مبررات دينية وعقائدية أو قومية فأن هذه المفاهيم تكبر في ذهن من يؤدي المهمة ويصغر أمامه حجم معاناة الآخرين فلا يبالي بعد ذلك بما يحل بهم.
رابعا: التقليل من إنسانية متلقي الصدمة أو الذي يقع عليه العقاب المجحف أو الجريمة وكما في التجربة بالقول انه لو لم يكن غبياً لأجاب وتخلّص من العقوبة. وهذا الذي أيضاً تستخدمه الحكومات الفاسدة والحكومات ذات النظام الجائر والغير العادل بتقليل قيمة وإنسانية الإنسان بجعله مواطن من الدرجة الثانية فتهضم حقوقه وتشدد العقوبة عليه لأدنى مخالفة, بل يتطور الأمر إلى هدر دمه.
وهنا أقول: لقد مارست المؤسسات الدينية هذا السلوك في تعظيم قدسية السلاطين والحكومات ورجال السلطة وقوانينها وغلّفتها بالغلاف الديني لتقضي على قيمة الإنسان واستحقاقه للحياة الكريمة منذ البداية, وهنا اذكر بالخصوص وكمثال الدولة الحديثة في العراق وأذكر بالتحديد خط مرجعية السيد محسن الحكيم ومن تلاها فكان براني هذا المرجع كوزارة خارجية للملوك وسياسيي الإقطاع في حال أنه عندما جاءت حكومة عبد الكريم قاسم الجماهيرية أغلق الباب بوجهها ليقلل من قيمة هذه الثورة ولذلك تم وأدها في وقت مبكّر, وسلك السيد الخوئي من بعده عين المنهج في عزل نفسه عن السياسية بشكل كبير, تاركاً المجال للحكومة لتفعل ما تشاء وتعدم من تريد. ولم يكن مطلوبا من السيد الخوئي أن يشارك في صنع القرار الحكومي, لكن كان من المفترض أن يكون مرجعية جماهيرية ضاغطة على صناعة القرار الذي يؤدي إلى احترام النفس الإنسانية.. أما مرجعية السستاني التي جاءت خلفاً للخوئي فكان تصرفها الأسوأ على الإطلاق فهي لم تعتزل السياسة فتكون على الحياد بين المواطن وصانع القرار إنما منحت القدسية للحكومة وحجبت نفسها عن الجمهور بل حتى خطابها في المواقف الصعبة كان موجه لرجال السلطة لتضفي شرعية كاملة على ما يقومون به, فأصبح البلد بكل مقدراته لا قيمة له أمام أيدلوجية التي صاغتها هذه المرجعية في صناعة القادة والرموز وإضفاء العنوان المذهبي عليهم. حتى أصبحت كل الأفعال التي تنتهك حقوق الإنسان هي أداء للواجب وتطبيق القانون وحماية للمذهب, ولقد رأينا معممين وكلاء لهذه المرجعية يصرحون أن هذه دولتهم ودولة آل البيت عليهم السلام .. علما أن الأئمة عليهم السلام يرفضون أن تسمى لهم دولة قبل قيام دولة العدل بحسب المعتقد الإمامي, ولكن بفعل هؤلاء أصبحت دولة الفساد ذات قدسية وصغرت قيمة الإنسان فيها.
إن تجربة ميلجرام يمكن تطبيقها على حكومات أخرى أُعطيت الشرعية من قبل بعض رجال دين في مجتمعاتنا الشرقية, وهي أيضا لا تحترم للإنسان حقاً.. لكن ليس بالصورة التي يُصبح فيها الفساد الحكومي مقدساً
وعليه علينا أن لا نتوقع أبدا أن تأتي حكومة عادلة منصفة من هذا الخط, لأن عقليته لا تعبأ بقيمة الإنسان ولا تريد للفرد أن يتقدم فكرياً, فيربوا فوق فكرة القدسية وتقبيل الأيادي وأصحاب الفخامة والسعادة والدولة. فهم يعملون بعكس مهمة رجل الدين في نشر السلام والعدل وإحقاق واحترام حقوق الإنسان. ولهذا بمجرد خروج التظاهرات التي تطالب بإقامة عدالة اجتماعية ظهر هؤلاء على حقيقتهم وصرح البعض منهم أنهم سيقفون بوجه التظاهرات إلى جانب سلطات الفساد.
وكي لا ننسى أيضاً, فإن ما مارسه الفكر التكفيري بعنوان دولة التوحيد والجهاد كان لنفس فكرة التجربة فعُظّم هذا المقام أي مقام الجهاد والثواب وأعطيت شرعية لقتل الأبرياء العزل بتكفير الإنسان وتقليل قيمته علماً أن الإسلام جعل القيمة العليا للإنسان.
فإذن أن ما نحتاجه هو قيام دولة تؤمن بحق الإنسان في العيش الكريم كمبدأ أساس مهيمن على كل تشريعاتها وناقض لكل القوانين التي تخالف هذا المبدأ.