تطلق ما كانت تسمى بـ (المقاومة اللبنانية) (وهي حزب الله طبعا) صفة الشهادة على قتلاها الذين يسقطون على الأرض السورية، وليس على أرض لبنان المحتلة ولا فلسطين، وهم يهتفون: الله أكبر.
ويطلق السوريون (الجيش الحر والنصرة) من جانبهم أيضا، صفة الشهادة على من يسقطون منهم قتلى بنيران (المجاهدين) اللبنانيين على أرضهم السورية، وهم يهتفون: الله أكبر، أيضا.
ترى كيف يمكن لمواطن غير متعمق في فقه الدين، مثلي، أن يفرق بين ذاهب إلى جنة الفردوس التي وعد الله بها عباده المخلصين، وبين قاتل معتدٍ مآلـُه جهنم وبئس المصير؟ على أساس أن ﴿من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً﴾، ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق).
يقول نائب رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله اللبناني الشيخ نبيل قاووق خلال إحياء الحزب ذكرى أسبوع أحد عناصره الذي قتل في سوريا (هم شهداء كل الوطن).
فلماذا ومن أين جاء هذا اللبس والاختلال؟ هل هو في عدم وضوح حكم الشريعة فيمن يكون شهيدا هنا ولا يكون هناك، أم هو خلاف فقهي محض بين المفسرين على تأويل النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، أم هو خطأ مقصود بذاته في التفسير نابع من رغبة مبيتة لدى أحد الطرفين في المراوغة والتمويه؟
فجماعة حزب الله وإيران تسرد عليك آيات وأحاديث تبرر هذا النوع من القتل وتجعله جهادا في سبيل الله، منها: (يا أيها الذِّين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأ ولي الأمرَ منكم ) و (من خلع يداً من طاعةٍ لقي اللَّه يَوم القيامة ولا حجة له) و ( من كَرِه من أميره شيئاً فيصبر، فإنه من خرج من عند السلطان شبرًا فمات مات موت الجاهلية).
بالمقابل يقرأ عليك السوريون آيات وأحاديث كثيرة أخرى تدعو الناس إلى عدم طاعة الحاكم الظالم وإلى الثورة عليه، مؤكدين أن الله يمقت الفساد والمفسدين، وقد أعد لهم عذابا أليماً. ( ولا تُطيعوا أمر الُمسرِفين الذِّين يُفْسِدون في الأرضِ و لا يُصْلحِون .) و (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، و ذلك أضعف الإيمان).
إننا في هذه الإشكالية محيرون، ليس الأن فحسب، بل على امتداد تاريخنا الطويل. فقد كان أسلافنا، وخصوصا علماء الفقه المبرزين، في جميع العصور، مختلفين في تفسير أحكام الشريعة، وفي فهم هذه الآية أو تلك، أو هذا الحديث أو ذاك. فكلٌ كان يُجبر كلام الله على أن يطابق فهمه ورأيه، سواء كان عالما بأنه يعرف ويحرف، متعمدا، أو مجتهدا وبحسن نية. وكثرة الفرق والمذاهب والملل في العالم الإسلامي دليل على ذلك الضياع العميم.
والثابت، مع الأسف، أن كل شيء كان عرضة للشبهة والحيرة والضلال. فالذي يعد حقا هنا يكون باطلا هناك، وما هو شجاعة هنا يصبح جبنا هناك، ومن هو إمام وولي من أولياء الله لدى هذه الملة مُبغـَــضٌ وملعون لدى ملة أخرى. وكثير من القتل والظلم والفساد سطره مؤرخون فقهاء في موضع الجهاد والعدل والفضيلة، والعكس أيضا وارد وثابت ولا يحتاج إلى دليل.
وفي أغلب الوقائع المُوثــَّقة المُؤرَّخة في التاريخ العربي والإسلامي كان الحاكم الظالم يجد، بسهولة ويسر وبثمن بخس، رجال دين يُجمِّلون قبحه ويقلبون ظلمه عدلا وفساده صلاحا. وبالمقابل كان معارضوه يجدون كثيرين من الائمة والمفسرين يجيزون قتاله والثورة عليه. وكان كلاهما يعتمد على الآية ذاتها أو على الحديث نفسه في تأييد ما يذهب إليه.
ولكن، وبعد تدقيق جميع المقاييس الدينية والدنيوية، يتأكد لنا أن قتال مسلحي حزب الله إلى جانب شبيحة الأسد ضد أشقائهم السوريين لا يصح، شرعا وقانونا، ولا يمكن اعتباره عملا من أعمال الخير وجهادا في سبيل الله، حتى لو اختلف الحزب معهم في صواب ثورتهم على الظلم والعدوان.
وعذر الحزب أقبح من ذنبه حين يزعم أن تدخله واجب ديني ووطني لحماية شيعة سوريا، والحفاظ على مقام السيدة زينب من المخربين. فشيعة سوريا، بحكم الشرائع السماوية والدنيوية كلها، مواطنون سوريون لا حق لأحد، كائنا من كان، في الوصاية عليهم من خارج الوطن السوري. والأهم من ذلك أن المعارضة السورية لا تقل حرصا على سلامة الطائفة الشيعة السورية وغيرها من الشرائح السورية الأخرى، فإن لها مصلحة أكيدة في كسب أوسع ما يمكن من المواطنين السوريين لمقاومة الحاكم المستبد الذي طاول عبثه وفجوره الجميع، والشيعة السوريون ليسوا أقل من غيرهم وطنية وشهامة وغيرة على الكرامة. ثم إن من المسلحين الذين يقاتلون النظام مواطنين سورين شيعة وسنة ومسيحيين ودروزا وعلويين. أما المواقع المقدسة في السيدة زينب فكما هي عزيزة لدى الشيعة اللبنانيين فهي عزيزة أيضا على السنة المعارضين. ثم لو أجزنا اعتبار حزب الله قيما على شيعة سوريا، لجاز لنا أن نجعل لسنة العراق وسوريا أولياء من خارج العراق وسوريا، ولأصبح مشروعا أن تدخل إسرائيل إلى لبنان وسوريا والعراق ومصر وتونس والمغرب لحماية اليهود فيها. إن هذا المنطق الأعوج لا يمكن أن يكون صادرا عن بشر سوي يتقي الله ويخشى يوما لا ينفع فيه مال ولا بنون، بل هو من صنع مخابرات خبيثة تتقصد أن تخلط الطين بالعجين.
ثم من قال إن مجندي حزب الله في القصير والسيدة زينب وحدها؟ إنهم في كل مدينة وقرية من سوريا، متورطون بحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
ولو سلمنا بحق المقاتلين من حزب الله وإيران في دخول الأراضي السورية لحماية مواطنين سوريين في دمشق والقصير لجاز لنا أن نطلب منهم أيضا دخول حماه ودير الزور والرقة ودرعا لحماية مساجد أشقائهم في الدين ومنازلهم ومدارس أطفالهم من صواريخ الخليفة الظالم الذي أمر الله ورسوله بقتاله والثورة عليه.
إن الظالم ظالم مهما كان دينه وطائفته وعرقه، ولا ينبغي لحزب يتمسح باسم الله أن يعينه على قتل مواطنيه، حتى لو كان ذلك بأمر الولي الفقيه. إذ (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
خصوصا وأن المتابعة الدقيقة المتأنية لممارسات الحكم (الطائفي) المتزمت في إيران، على امتداد أربعة عقود، ترينا العجب العجاب. فهو لم يعمل خيرا، لا مع شعبه ولا مع جيرانه ولا أخوته في الدين، إلى ما ندر وإلا ما كان يتفق وأهدافه البعيدة المُضمرة. فإن له في كل مدينة من مدن العراق ولبنان وفلسطين واليمن والسعودية والبحرين وقطر والإمارات العربية المتحدة وسوريا ومصر والمغرب والسودان وأوربا وأميركا، آثارا دامية من أفعال الظلم والقتل وتدبير المؤامرات والتدخلات العابثة المشاكسة المؤذية في حياة الأبرياء، سالت وتسيل، بها وبسببها، دماءٌ بريئة، وذرُفت وتُذرف دموعٌ غزيرة من أمهات على أبائهن، ومن زوجات على أزواجهن، ومن أطفال على آبائهم أو أمهاتهم، ودُفنت وتُدفن جثثٌ تحت الأنقاض، وتعطلت وتتعطل وتتعقد حياة الناس البسطاء، وتتعثر السياسة، ويموت الاقتصاد، وينتعش الإرهاب، وتزدهر الجريمة.
سؤال مهم: كيف يمكن لرجل دين، تعتلي رأسه عمامة السيادة والانتماء لرسول الله وحفيده الحسين، كخامنئي وحسن نصر الله وطاووق، أن يضع رأسه ليلا على مخدة وينام ويداه تقطران دما من دماء مسلمين آمنين وأبرياء؟
ولعل آخر وأكبر الكبائر التي يقترفها الولي الفقيه، وذراعُه اللبناني، هو العطف على حاكم انتهازي فاسد ومختل لم يوفر خطيئة بحق الله ورسوله وعباده إلا وارتكبها علنا وعلى رؤوس الأشهاد. فهل يجهل أحد، خصوصا من السوريين واللبنانيين والعراقيين والفلسطينيين، مسلسل تصرفات النظام الدموي الحاكم في سوريا، منذ هيمنة حافظ الأسد على السلطة في عام 1970 وإلى اليوم؟.
حسنا، لبيان أهم وقائع حياة القائد المؤسس ندرج ما يلي:
* في عام 1946 انضم إلى أول خلية بعثية في اللاذقية. ولابد أن يكون الولي الفقيه أعلم من غيره بأن حزب البعث، بجناحيه السوري والعراقي، كان حزبا قوميا متشددا، مرفوضا بموجب الفكر الخميني، قبل أن يتحول إلى جهاز أمني مخابراتي بيد صدام في العراق، وحافظ أسد في سوريا، يلاحق رجال الدين وينكل بهم بأشد ما عرفناه من همجية وظلم فقط إذا عارضوه ولو بأقل القليل.
* عندما حل حزب البعث نفسَه، نزولا عند شرط جمال عبدالناصر لقبول الوحدة، عارض حافظ الأسد وبعضُ رفاقه الضباط البعثيين الموجودين في مصر قرار الحل، وشكلوا ما سمي بـ “اللجنة العسكرية” التي شاركت في الانفصال، وقادت جميع الانقلابات التي حدثت في سوريا بعد ذلك.
* وبسبب معارضته للانفصال طرد حافظ الأسد من الجيش ونقل إلى إحدى الوزارات.
* بعد شهر واحد من انقلاب بعث العراق في 8 شباط/فبراير 1963، قام البعث السوري في 8 آذار/مارس 1963 بانقلاب مماثل في سوريا، فأعاده رفيقه الزعيم صلاح جديد إلى الجيش.
* في 1964 رقاه من رائد إلى لواء وعينه قائدا للقوة الجوية.
* وعندما نجح انقلاب صلاح جديد على رفاقه ميشيل عفلق وصلاح البيطار وأمين الحافظ عين حافظ الأسد وزيرا للدفاع.
* في عام 1967 وقع خلاف بين الصديقين، فقد اتهمه صلاح بأنه سحب الجيش من الجولان وأعلن سقوط القنيطرة قبل حدوث ذلك على الأرض، وأصدر أمرا بإقالته من وزارة الدفاع.
* رفض الأسد أمر الإقالة وقام بانقلاب في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1970، تولى فيه الأسد رئاسة الوزراء ووزارة الدفاع، ورمى برفاقه صلاح جديد ورئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي ويوسف زعين وغيرهم في السجن دون محاكمة.
* أصبح رئيسا للجمهورية في 12 آذار 1971 في استفتاء شعبي عام. ومن ذلك اليوم ظل السوريون يُجددون له البيعة في استفتاءات متتابعة تديرها المخابرات، إلى أن مات في عام 2000.
* ساهم بفاعلية في إشعال الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، حيث كان داعما قويا لـ “اليساريين” اللبنانيين بقيادة كمال جنبلاط، والفلسطينيين بقيادة ياسر عرفات، ومحرضا لهم على مقاتلة الموارنة “اليمينيين”.
* أكد لبنانيون يساريون وفلسطينيون كثيرون أنهم كانوا، طيلة الحرب الأهلية، يستنجدون بالسوريين لإطفاء الحرائق في الفنادق الكبرى في بيروت الغربية، ولكنهم اكتشفوا أن المطافيء العائدة للجيش السوري كانت تأتي مُحملة بالديزل بدل الماء، لتزيد النار اشتعالا.
* في أعقاب مذبحة تل الزعتر التي قام بها حزب الكتائب اللبناني بإشراف شارون، أدخل حافظ الأسد قطعات عديدة من الجيش السوري إلى لبنان لإنقاذ الكتائب والجبهة المارونية التي كان إعلامُه يصفهم بأنهم عملاء للصهيونية ولأميركا من سقوط محقق كان وشيكا على أيدي حلفائه اللبنانيين والفلسطينيين، بحجة أن الفلسطينيين قصفوا قطعات الجيش السوري.
* تحولت قواته في لبنان إلى قوات ردع بتفويض عربي ودولي، بحجة إنهاء الحرب الأهلية، ولكنها أصبحت قوات احتلال، بكل ما تحمله كلمة “احتلال” من معنى.
* قامت مخابراته في لبنان باغتيال الحليف القديم كمال جنبلاط.
* وقامت باختطاف الصحفي سليم اللوزي صاحب مجلة الحوادث، لأنه كان يهاجم الأسد ويطالب بخروج الجيش السوري المحتل، وأذاب الخاطفون يده اليمنى التي كتب بها هجومه على الرئيس الأسد بالأسيد، ثم رموه في أحد شوارع بيروت جثة ممزقة، عبرة لمن يعتبر من الإعلاميين والسياسيين.
* أذاقت قوات الردع السورية جميع اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، أمرَّ عذاب، وتحكمت بحياتهم بلا رحمة، وكانت حواجز الجيش السوري في لبنان تصادر وتعتقل وتقتل وتغتصب، دون حسيب ولا رقيب.
* في عام 1979 تولى صنوُه البعثي الشرس صدام حسين رئاسة العراق، فدشن عهده بحفلة إعدام أعوان حافظ الأسد من أعضاء القيادة البعثية في العراق، في مجزرة قاعة الخُلد الشهيرة.-
* واندلع الصراع بين الشريرين القوييْن الدموييْن، صدام وحافظ، ودفع الشعبان، العراقي والسوري، ثمنا باهضا لذلك الصراع.
* أقام الأسد سدا على الفرات، واحتبس 70 بالمئة من مياه النهر، وأمات الزرع والضرع في جميع المدن العراقية الواقعة على الفرات، بهدف إضعاف نظام صدام.
* أغلق الأسد خط الأنابيب الذي ينقل النفط العراقي إلى بانياس على البحر المتوسط، وحرم الخزانة السورية والأردنية من العوائد المجزية التي كان العراق يدفعها مقابل مرور النفط عبر أراضي الدولتين، ناهيك عن تعطيل مئات الموظفين والعمال الأردنيين والسوريين الذين كانوا يعملون في خدمة الأنبوب. كما حَمَّل الخزانة العراقية تكاليف باهضة لتمديد خط أنابيب جديد عبر تركيا وآخر عبر السعودية.
* لم تتوقف الغارات الانتقامية الدامية بين مخابرات البعثيْن، السوري والعراقي، من عام 1979 ولغاية سقوط نظام البعث في العراق في 2003، وراح ضحيتها المئات من الأبرياء، كان آخرَها تفجيرُ السفارة العراقية في بيروت عام 1983 والذي قتلت فيه بلقيس الراوي زوجة الشاعر نزار قباني.
* وانتهز الأسد فرصة حماقة صدام باحتلال الكويت فوقف بشدة وإصرار إلى جانب قوات التحالف التي قادتها أميركا لإخراج قوات الغزو من الكويت وتدمير العراق.
* أجاد فن المناورة والمحاورة واللعب بالأوراق، وعاش على مصائب الآخرين.
* جعل نفسه قيما على العروبة الصمود والتصدي، واحتضن الفصائل الفلسطينية للمقايضة بها واسثمارها عند الضرورة. لكنه لم يسمح لأي فلسطيني ولا عربي بأن يطلق من الحدود السورية ولو رصاصة واحدة على إسرائيل.
* فتح أبواب سوريا على مصاريعها لرفاقه البعثيين العراقيين بعد سقوط نظام صدام، ودربهم وجهزهم وأعادهم إلى العراق، مع قتلة القاعدة، لذبح العراقيين في الحسينيات والمدارس والأسواق والمستشفيات، وكان أغلب ضحاياه من العراقيين الشيعة في محافظات الجنوب.
ومن يوم وفاة الأسد الأب، والابن على خطى والده، وزيادة. جزار بامتياز. مراوغ بحنكة واقتدار. يقتل الطفل الرضيع والشيخ الضرير والمرأة الحامل، ويبقر بطن أسيره الجريح. أحابيله العجيبة لم تخطرحتى على بال الشياطين. فهل سبقه شرير غيره في رمي البراميل المتفجرة من الجو على منازل الآمنين؟
فهل، بعد كل الذي أدرجناه من مناقب هذا النظام (المقاوم) و(الممانع) يبقى لحسن نصر الله عذرٌ في نجدته وإنقاذه من حكم الله ورسوله وعباده المؤمنين؟ أمان يا ربي أمان.