23 ديسمبر، 2024 2:42 م

قتلة … رواية للكاتب العراقي ضياء الخالدي تدميرُ الوطن المُقدَّس

قتلة … رواية للكاتب العراقي ضياء الخالدي تدميرُ الوطن المُقدَّس

الطبعة الاولى 2012
الناشر:التنوير للطباعة والنشر والتوزيع
في حيثيات بنيته الفنية يشير النص الروائي المعنون (قتلة) للكاتب ضياء الخالدي،إلى مستوى النضج الذي باتت عليه نماذج عديدة من الرواية العراقية التي صدرت خلال الاعوام العشرة الاخيرة،منذ العام 2004 .
تعود اسباب هذا المتغير النوعي في المستوى التقني،الى طبيعة التحولات التي شهدها مستوى الوعي لدى جيل جديد من كتاب الرواية في إطار رؤيتهم لمفهوم السرد واجراءاته الفنية داخل المشغل الابداعي .
من هنا وجدنا انفسنا أمام نماذج عديدة من الرواية العراقية وقد تحرر معمارها السردي من معطيات القوالب والاعراف المألوفة مُتّجها نحو فضاءات سردية تنحاز في خياراتها بشكل واضح الى ذاتية المبدع     وخصوصية تجربتة،وبذلك ابتعدت عن النمط(الفلوبيري:نسبة الى فلوبير) واقتربت من النمط(البروستي:نسبة الى مارسيل بروست)مثلما اصطلح عليها الناقد بشير حاجم في سعيه النقدي الدؤوب لتشخيص هذه التحولات. هذا التحول اضفى أوجُهَاً جديدة للمشغل السردي العراقي،سابغا عليه سمة الحيوية والتجديد.

مخزونات الألم
في كتابه المعنون(فن الرواية )للناقد ب.لوبوك يقول:”الروائي فنان،وعلى الناقد أن يفهَمه من داخل عمله”..وهذه الاشارة من ناقد كبير تعني في جانب من تشظيات مدلولاتها  على أننا في عالم  الرواية ازاء تجربة فنية تنهض بحضورها الشكلاني من خلال وجهة نظر شخصية واحدة ــ كما هو الحال في رواية قتلةــ أو عدة شخصيات يعتمد عليها الروائي لتمرير خطابه السردي.
الخالدي في رواية (قتلة)قد أمسك في مسار بنيته السردية بمهارة واضحة،لمْلَمَ فيها شظايا حياة متناثرة لمدينة بغداد، بوصفها بؤرة مكانية موضوعية،وبنفس الوقت شكلت ذاكرة للذات الساردة.
ومع ذلك لابد من الاشارة إلى أن المكان في نص القتلة لم يكن مرتبطاً بالتفاصيل الجغرافية،بقدر ماجاءت دلالة المكان علامة على مخزونات الالم والخوف،سواء في الذاكرة الفردية أوالجمعية داخل احداث الرواية. 
إستند الخالدي على صوت واحد ليكشف من خلاله عالما مرعبا يَنسجُ تفاصيل حكاياته الدموية مجموعة من القتلة الممسوخين،كانوا في يوم ما ينتمون الى الحركة اليسارية،وبعد سنين طويلة قضوها في المنافي تحولوا إلى محترفي قتل لايعرفون الرأفة.
عودتهم الى الوطن كانت بمثابة قَدَر أعمى سقط على رؤوس الناس،ليفرض الموت حضوره في لعبة عبثية بين احياء العاصمة العراقية بغداد. ” كل رصاصة تنطلق،بعبثية أو بقصد،في سماء حي من احياء بغداد يعني قتلاً لملامحها. تشويه متعمد يبعث على تغيير صورة قديمة الى صورة أكثر بشاعة “.
اختار الخالدي موظفا متقاعدا مصابا بالعقم تجاوز العقد السادس من عمره   وعمل طيلة مشواره المهني موظفا حكوميا في قسم الارشيف،إختاره ليكون الشخصية المحورية الساردة للأحداث،ولينفرد(عماد الغريب) ولوحده في أن يكون محركاًوموجها لمسار احداث الرواية.
بهذه القيمة الاجراءية تم تغييبُ السارد الكلّي العِلم،لصالح السارد الضمني. “الحزن تاريخ ممتد لاينقطع.إننا مثل الارانب الخائفة التي ترفع اذنيها وتحدق بشتى الاتجاهات.هناك خطر محدق.ينبغي الاختباء والسّير بحذر ،وحين نسمع صوت اطلاقة نفرّراكضين صوب مخابئنا ” .
عماد الغريب ــ الشخصية المحورية/الساردة ــ تم رسمها لتكتسب حضورها النفسي والاجتماعي من كونها تنتمي الى الطبقة الوسطى،فحمَّلها هذا الانتماءتركيبة قلقة،كشف ترددها وتأرجحها مابين ثوريتها وانتهازيتها. فبدا لنا نموذجاً للمثقف البرجوازي بالمعنى الايدولوجي وليس بالمعنى الطبقي،الذي عادة مايتحصن بالأفكار حول تغيير العالم،لكنه لايملك استعداداً للمغامرة دفاعا عنها،بل يتراجع الى الوراء متخليا عن رغبته في إسعاد الناس حالما يشعر أن الاذى يوشك أن يصل الى جسده،لينتقل الى قناعات اخرى بكل سهولة.”أخشى أن تكون جلساتناهذه،أشبه بالجلسات التي كنت اشارك فيها في زمن الاخوين عارف،واخشى ايضا ان تشبه جلسات فرقة الحمزة في زمن الوحدة والحرية والاشتراكية،واخشى ان تكون مثل حلقات العقيدة في الشهور الاولى بعد السقوط “.
ثنائية الدين والسياسة
احداث الرواية التي اتسمت بتنوع التفاصيل،تنمو وتتطورمن خلال الشخصية المحورية،وقد إستحوذت بحضورها على المسار العام للحكاية، فكشف المؤلف من خلالها عن خفايا مدينة بغداد بعد أن سقطت تحت الاحتلال الاميركي عام 2003.وليسقط سكانها أسرى عصابات اجرامية منظَّمة يقودها رجال دين ــ الشيخ مؤيد نموذجا ــ ومناضلون سياسيون سابقون ـ ديار وعبود ــ قضوا اكثر من ثلاثين عاما في المنافي ليعودوا بعدها الى بلدهم وهم يحملون مشاريع غامضة أحالت شوارع العاصمة واحيائها الى مساحات من الخوف والوشاية والقتل على الهوية الطائفية. “هكذا أدوّن ماتختزنه ذاكرتي من مدَّخرات عن محلات العاصمة،التي أغلقت الآن بأسوار الخوف والنهايات.بغداد التي مدّت رأسها لكي تتجمّل من غبار سنواتها العجاف،تعود اليوم مصابة بمس من الجنون،لاتعرف مايُدبَّر لها..تسير بين عواصم العالم وهي تستنجد بتاريخها وحضارتها “.
في هذا النص الروائي نجد الدّين والسياسة يتقاسمان الادوار في لعبة الموت بين احياء مدينة مات ليلُ العشاق فيها “وتحول شعراؤها إلى كتابة مدونات الرثاء..جدران كونكريتية عالية أغلقت المدن ورُصفت أمام واجهات الدكاكين “.
يتورط عماد في لعبة قتل عبثية يقف خلفها أناس لم يبخلوا على أنفسهم أيّة وسيلة إلاّ واستثمروها لأجل ذلك،بما فيها استثمار الجن والشعوذة،كما في  شخصية شكرية المرأة العجوز التي تجاوزت العقد الثامن من عمرها والتي كانت تعمل عاهرة فيما سبق من الايام قبل أن تتقاعد من هذه المهنة لتصبح قارئة للغيب.
حينما تفقد الحياة اليومية صفائها وتتهشم تلقائيتها لم يعدالهروب ممكنا أمام شخصية عماد الغريب،خاصة بعدأن يصَّل إلى نتيجة مؤلمة يدين بها نفسه:” أنا قاتل ضمن مجموعة،توقعتُ أنها لاتنتمي لأي حزب أو عقيدة سوى عقيدة الوطن والدفاع عنه.فكانت العقيدة هي المال والنزعة إلى تدمير الوطن المقدس.نزواتنا تحكُم،والعقيدة قشرة أو غلاف يخفي ذلك السواد القابع في داخلنا.نعم كل المولعين باليوتوبيا والجنَّات الخضر على الورق،يتحولون إلى وحوش عند استلامهم السلطة”.
عندما يصبح  أمر العودة الى الوراء مستحيلا يجد عماد نفسه وقد امسى هو الآخر مطاردا من قبل رفاق الامس/القتلة. فما كان منه إلاّ أن يهرب منهم،متنقلا مابين احياء بغداد،لينتهي به الحال جالسا في العراء في منتصف الطريق مابين بغداد وكركوك منتظراً أن يتحرك الرتل الطويل لأليات مدرعة محملة بالجيش الاميركي،فما كان منه إلاّ أن يحتسي الخمر مستجيبا لدعوة سائق التاكسي الذي استأجره ليعود به الى بغداد. “جسدي أنهكه الإعياء.أرض جرداء موحشة تطبق علينا،فنبدو ضئيلين وسطها. كحجارة مرمية،أو كفئران مذعورة تبحث عن مخبأ “.
ومابين قرار العودة إلى بغداد أواستمرار الهروب منها نحو كركوك تقتله الحيرة.بينما القتلة يربضون داخل سيارة اخرى  تقف خلف الرتل الاميركي من الجهة الاخرى،وهُم ينتظرون تحركه  لملاقاته وتصفية الحساب معه.
تنتهي الرواية عند جملة مفتوحة على احتمالات شتى،مشحونة بكل الغموض المترشح من زمن قاتم يهيمن على سماء بلاد يخيم الظلام عليها. “أنهينا قنينة العرق والاميركان لم يتحركوا.تمددنا على حصيرة القش وغرقتُ في نوم لم أذق مثله منذ زمن طويل “.
تأتي هذه الجملة التي أختُتمت بها أحداث الرواية لتضيء عبارة  بليغة إختارها الخالدي من الفيلسوف نيتشه،وضعها في اولى صفحات الرواية لتكون عتبة اولى تواجه القارىء بمحمولاتها وتأويلاتها،أضاءت بدلالتها قلق وهواجس المؤلف  ازاء مايجري من عنف وقتل في بلده،ومن خلالها رسم المناخ العام لخطابه السردي قبل الدخول  الى تفاصيله :” من ينازع وحوشاً يجب أن ينتبه جيداً ألاّ يتحول إلى وحش.فحين تطيل النظر إلى الهاوية،تنظر الهاوية إليك .. “