عندما يُستقبح المحذور، ويُستلذ بما هو مباح، يخرج العمل ملبياً كل صباح و مساء( لبيك اللهم لبيك، لبيك إن كل شيء صائر وكائن إليك)، فيستعظم الله في العبد طاعته، ويكرمه بعقل يسلطنه على قلبه، ويمكنه من هواه، فتكون كرامة الإنسان أن يكون كمثل ربه…! خالقاً متحكماً له ما يتمنى، تصديقا لقوله تعالى “عبدي أطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون”..وسأورد في ذلك خبر حملته لنا ارباب السير والكتاب بسند صحيح معتبر..
ذُكر إن إمراءة من نساء المسلمين، جاءت بولد لها لم يَحتلم بعد، وضعته بين يدي قائد المسلمين في أحدى غزواتهم، وقالت : “خذه معك فلقد زهدت به في سبيل الله” فرفض القائد أن يحمله معه للحرب لصغر سنه، وجمال طلته ووجهه، وخوفاً من أن تفتجع به أمه، فألحت عليه كثيرا، وبكى الغلام وهو يريد الذهاب للحرب، فأذن له، وقال القائد: أسرجوا له فرسا تسايرني” خوفا عليه، وكان القائد لا يغفل لحظة عنه، ويتفحص وجوده بين الحين والأخر…
إشتبكت الرجال في الحرب، وتشابكت الأسنة وعلت الغبرة، وما إن انتهى كل شيء من ذلك، أخذ القائد يبحث عن الغلام، فأخبروه بأنه قاتل قتالا لم يعتد عليه حتى الفرسان الأشاوس..! ولكنه قد قتل غدرا في المعركة…! وفارقت روحه الدنيا، بكى القائد بكاءا لم يبكيه حتى على ولده، ولما باشر المسلمين بدفن شهدائهم، أوصاهم القائد بأن يفردوا قبرا لذلك الغلام، ولم انتهوا من دفن الجميع وحضروا لدفن الغلام قذفه القبر خارجه…! وكلما حاولوا ارجاعه للقبر تلفظه الارض خارجاً، حتى تحيروا في آمره، وتركوه على الأرض، ولما ابتعدوا قليلا، نزلت الكواسر والعقبان تنهش جسده.
رجع المسلمين ديارهم واستقبلهم الناس فرحا، وكانت اولى المستقبلين هي والدة الغلام، فنظر لها القائد ونزل من جواده، وأخبرها ببسالة ولدها وشجاعته وإستشهاده، فدمعت عيناها، ثم قال لها القائد: ولكن ولدك لم يدفن، وكلما وضعناه في القبر لفظته الارض خارجا فتركناه، فصرخت مستبشره وهل رأيتم العقبان والكواسر نزلت تلتهم جثته..؟ قال: نعم إي والله رأيناها، فضحكت وأستبشرت فرحا..! وقالت اللهم لك الحمد، فتعجب القائد من فعلها، فسألها عن السبب فقالت ( ان ولدي كان يدعي كل صباح قائلاً” اللهم احشرني يوم تحشرني من حواصل الطيور قتلا في سبيلك)..
كم يذكرني هذا الغلام الذائب في حب الله وعشقه، بالسيد ” محمد باقر الحكيم” عندما كان يردد كل صباح ومساء، اللهم اختر لي موتةً في سبيلك تتقطع بها أوصالي أربا أربا، ولطالما تعلق بأستار الكعبة وهو يصرخ لله بأن يستشهد مقطع الجسد متطاير في السماء، فاستجاب الله دعاءه في الاول من رجب، وراح جسده يتطاير ودماءه ترفع للسماء ،ولم يدرك منها في الارض شيء، الشهادة التي تمناها الحكيم لم تأتي عن صدفة، هو كان في محيطها، وإنما كانت مصداق لدعاءه وطلبه من الله..
محمد باقر الحكيم، أدرك حب الله وعشقه، بمستوى لا نظير له، وإلا لأكتفى بطلب الشهادة، ولكنه اراد ان يبالغ في حب الله لدرجة، النوع والطريقة التي ستقربه منه، وتظهر مكامن حبه له، وهذا مصداق لفعل جده الحسين عندما أخذ يلطخ جسده ووجه من دمه الطاهر، وهو يقول ” هكذا القى ربي وأنا خضيب بدمي” فتحقق القول فيهم العشق يبرر التمني …
وختاما نقول إن “الحكيم” أورد لله كل حياته، وصادر نفسه عن كل نواهيه، فَجل وعظم على الله قدره، فأكرمه ربه بما يريد، وعلى هذا التقارب ما بين العبد وربه لنجعل من يوم استشهاده، مصداق لحديث الله بالطاعة على مستوى الماديات والمعنويات، وليكن احتفائنا بالشهداء منفتح على مصراعيه، نستذكر فيه ذلك الغلام الذي حشر في حواصل واحشاء الطيور حبا بالله، نستذكر فيه معالم العبادة والجهاد والطاعة، والقبول من الله، نستذكر فيه الانفس الزكية التي ارتحلت ملبية لنداء الله والوطن..