18 ديسمبر، 2024 11:39 م

قبل ٢٧ سنة ، أكتبها للمرة الأولى

قبل ٢٧ سنة ، أكتبها للمرة الأولى

حروف وذاكرة – التحقيق

بعد أن بدأتْ الحرب ليلة ١٦-١-١٩٩١، تحولت السماء كلها إلى جهنم ترمي نارها على مَن في الأرض وتحرق دعاء الأمهات التي ملأت السماء قبل ذلك بأربع وعشرين ساعة، كما ملأتها الشكر والحمد من مئات الألاف من الجنود بعد أن إنتهى يوم ١٥-١ وهو يوم المهلة الآخيرة للإنسحاب دون أن نسمع صوت أي غارة ، فكان الشكر على أن الحرب لن تقوم.
لكنها بدأت في تلك الليلة في الثانية إلا ثلثاً تماماً، كانت وستبقى أطول ليلة بالنسبة لي، فالنار التي تحيط بنا من كل الجهات جعلتْ ساعات تلك الليلة تمتد لأبعاد أزلية، نعم الليل تمتد ساعاته بحرارة النار، الأمر ذاته إنْ كانت النار في القلب أو تحيط بك كما كنا في تلك الليلة السرمدية بذكراها.
حين نظرتْ الشمس خجلة من وراء غيمة تسابق نفسها مع طائرة منخفضة الإرتفاع جداً، قررتُ مغادرة الموقع العسكري الذي تحول إلى ميدان رمي للصواريخ والقنابل العملاقة، وضعتُ في جيبي بعضاً من تمر مجفف، وقطعتين من الصمون العسكري ، تلك القطعتين قد تفيد حين يعترضني أحدٌ، حيث أن للصمون العسكري صلابة طابوق بناء أو حجر.
كانت المسافة بعيدة للشارع العام الذي وصلته في الساعة العاشرة والنصف صباحاً والقذائف تتوالى على جانبي الطريق، الفوضى لا وصف لها، سيارات مدنية وعسكرية في الشارع العام متداخلة الإتجاهات، صيحات وأصوات رعب وأوامر عسكرية لا إحترام لها، عند ذاك قررتُ مواصلة المسير نحو الشمال، وكان معي رفاق في تلك الرحلة، كلنا لا نعرف عنواناً ولا مكاناً نتوجه إليه. وسيستمر مسيرنا تحت النار لساعات طويلة، نختبىء فيها على جانبي الطريق وفي بعض البساتين الموزعة كلما إقتربت الطائرات أو سمعنا أصوات سقوط الصواريخ، حتى جاء الليل ونفد ما في الجيب من التمر المجفف وتعبت أسناننا من مضغ صمون الجيش، ولم تكن في تلك الأيام قناني الماء المعبأة، فسيطر العطش علينا، وكنا قد وصلنا في مواجهة منشأة حساسة جداً. قررنا أن نبتعد من تلك المنطقة سريعاً، فالطائرات قادمة، وكان قرارنا إعتراض طريق بعض السيارات لتقلنا معها في إتجاهها نحو الشمال، وكان ذلك، فقد نجحنا في الصعود في سيارة حمل زراعية، وصرنا بين برد صقيع حوض تلك السيارة، وبرد شتاء كانون، ونيران تتساقط علينا من جهنم لا حدود لها، حتى وصلنا لمفترق طريق والليل إشتدت خيمته، فأصبحت النيران تصبغ تلك الخيمة بلونها البرتقالي والأحمر والأصفر، فطلبنا من السائق أن ننزل، فتوقف ثم دلّنا على طريق لنسلكه.
بدأنا رحلة أخرى، ودخلنا عميقاً بين البساتين الطينية، حتى بعد مضي ساعات من الليل، صرنا قرب موقع مهم جداً، ولمحنا على أطراف الموقع كرافاناً، فأتفقنا جميعاً أن نمضي الليلة في ذلك الكرافان. شجعنا ضوء فانوس خافت بالدخول فوجدنا إثنين يلبسان ملابس جهة أمنية ( الملابس الزيتونية )، فتعجبا من دخولنا عليهما بملابسنا العسكرية، فقال أحدهما ” شنو أنتم هاربين من الحرب ومواجهة العدو؟ ما تستحون، مو عيب أولاد ال…..” وكان ذلك بداية تحقيق معنا عن سبب هروبنا من الحرب ! ولمحتُ قربهما كلاشنكوف هجومي ( نص أخمس ) كان مخصصاً لجهة أمنية خاصة مقربة من القيادة، فعرفتُ أن نتيجة التحقيق واضحة وأن أمامنا ربما ساعات قبل أن نكون جثثاً يغطيها هذا الليل القاسي.
ونحن في تلك الحال، جاءت ضربة جوية بإصابة مباشرة على مقر الموقع المهم، فتصاعدت الفوضى داخل الكرفان، تشابكنا أيادينا نحن رفاق الرحلة والهروب وكنا خمسة، فأسرع أحدنا إلى نفخ الفانوس فأطفأه ليسود الظلام ذلك الفوضى، ثم سحَبنا جميعاً إلى الخارج وهو يقول ” نموت جوة نار الطيارات ولا نموت بيد هذولة ولد ال……” وكانت خطواتنا في تلك اللحظة أسرع من النبض دون أن نفكر في أي شيء، بينما الطائرات ترمي قنابلها النارية، والصواريخ تدك ذلك الموقع، وأستمرت خطواتنا السريعة حتى وصلنا إلى شارع عام ولم يبقَ معي غير صديق واحد من مدينتي نفسها، ولا أعرف إلى الآن أين أصبح الآخرون، ومَن كان ذلك الذي أطفأ الفانوس وسحبنا إلى خارج الكرافان ذاك، وكل ما كان يشغلني حينذاك أن أنجح في إصطياد سيارة لتأخذني إلى أقرب مدينة، وكان لنا ذلك بعد أن توقفت لنا سيارة قلاب عالية فارغة، فطلب منا السائق أن نختبىء في حوض القلاب.
ومع مجيء شمس نهار آخر، رأيتُ قطعة على الطريق تشير إلى بحيرة الثرثار، فطلبنا من السائق أن يتوقف لننزل ونواصل رحلتنا إلى كركوك، وفي ذلك حكاية أخرى.