28 ديسمبر، 2024 11:23 م

ولدت في احدي محلات بغداد القديمة المحاذية لشاطئ دجلة الخالد منتصف الخمسينات , لا أتذكر من تلك الحقبة شيئا سوى صورا باهتة تتباعد و تتدانى , فكنت أحاول شحذ ذاكرتي لاسترداد ألبعض من  صور تلك الأيام كحلم منسي !. كان البلد يمر بمرحلة من الفوضى و الثورات و بروز ظاهرة سحل الجثث في الشوارع و العنف السياسي و التلويح باستخدام ورقة الجيش للضغط على الخصوم  !. كان الأمر غريب على مجتمع مسالم متصالح مع نفسه و ذلك  ألوضع  ألشاذ أسس لسلسلة من المغامرات و الانقلابات العسكرية ,و بمجرد أن يبدأ الناس بالاعتياد على وجه زعيمهم الجديد و يبدؤا  بالهتاف بحياته  و التصفيق له حتى تصعقهم مفاجأة البيان رقم (1) !! ..  انتقلنا إلى دار اخرى و بيئة اخرى أيضا ! لهذا لم تجد تلك السنوات القليلة الوقت الكافي لترك بصماتها على مخيلتي الناشئة … الشيء الوحيد الذي لم يبارح ذاكرتي هو التنقل السريع من دار إلى أخرى , لأسباب بعضها منطقي , كان إحداها هو وجود أفعى ضخمة تشاركنا السكن , فاضطررنا للرحيل على عجل حيث بيت جدي لامي , مكثنا هناك عدة أسابيع قبل العثور على مأوى آخر و الانتقال ثانية !!.. لحظات بالكاد أتذكرها ., عندما دخل والدي مسرعا وهو يطلب من والدتي جمع أغراضها البسيطة مثل ( الكنتور) الخشبي ذو ا لبابين و (المحمل) و  ( البريمز) النفطي ذو الرقبة الطويلة و الدولاب ذو الأسلاك المشبكة المانعة للذباب و زير الماء الفخاري ( الحب) مع مقعده و بعض الأواني و الافرشة و صرر الملابس … الدار الجديدة كانت نقلة نوعية في كل المقاييس ,,, حاول أبي الارتقاء بنا إلى مستوى الوضع الجديد فبادر لشراء مروحة منضدية و ثم الراديو و الثلاجة الخشبية ذات الحنفية ( الصنبور) !! .. لم يكن التلفزيون منتشرا كثيرا فكنا نتجمع أمام دار احد الجيران الميسور الحال , شقيق مدير الشرطة العام آنذاك . كل مساء  يشغل الجهاز و يضعه قبالة داره إلى قريب منتصف الليل !!.. في إحدى الأمسيات طردتني ابنته  ناعتة لي ( ابن الشيوعي)!!!.. ذهبت إلى البيت و ,عيوني مغرورقتان بالدموع ,,,قفز أبي من مكانه و خرج ليكيل الشتائم لصاحب الدار و ابنته , و لم ينسى طبعا نصيب جناب المدير العام  !!.. أخذني أبي في اليوم التالي إلى احد المزادات فاشترى لنا تلفزيون مستعمل ! فكانت أشبه بالتظاهرة , العشرات يسيرون  ورائنا بالتهليل و التكبير !!,,, واكبونا حتى البيت, لينتقل الحفل اليومي من دار شقيق المدير إلى دارنا , فرغم إحسان الرجل على أهل المحلة إلا أن فضاضة ابنته مع الناس كان وراء ذلك القرار الجماعي  !!.. كان من عاداتي انتظار والدي عند عطفة قرب محلتنا حيث آخر محطة تصلها سيارات نقل الركاب ,,, فلم أكن أجيد الألعاب المتداولة بين الصبية آنذاك فقط كنت أتفوق عليهم بجمال الخط و الرسم فلم أكن أنا و لا هم نعتبره ميزة على أي حال !,,, أحيانا تمتد نوبات انتظاري لعدة ساعات ! كانت أمي تحاول إعادتي إلى البيت مستعينة بإخوتي الأكبر سنا لكني أملأ الدنيا صراخا ليضطروا مجبرين إلى تركي حيث أنا !! . كانت تشكوني لأبي على هذا, لكنه كان  يبادرني بعتاب حنين !!… انتظرت ذلك المساء طويلا , كنت اجلس القرفصاء و كلما قدمت سيارة اقفز من مكاني متطلعا بوجوه المترجلين !,,, لكنه لم يكن معهم !.. غادرت الشمس و أتى المساء و لم يأت أبي ! ,,, الطقس كان باردا و لم أكن البس سوى رداءا أغطي به أطرافي المتجمدة عند الجلوس ! , انتقلت إلى زاوية اخرى اتقاءا للريح الباردة و تمكني من رؤية اضوية السيارات القادمة و التي أخذت بالتضاؤل تدريجيا … جاءت والدتي بصحبة أخوتي و جارنا ( ألملا) فانتزعوني من الأرض التي تمسكت بها بقوة ,,, قضيت ليلتي تلك أجفل لكل طارق حتى إذا جاء الصباح و بدأ الهمس يصل أذني , أدركت بان شيئا جللا قد حدث … مرت أيام و أسابيع و شهور طوال ,, أقلعت فيها عن لعبة الانتظار و هو عن الحضور !! … قالوا لنا بعدها بأنهم عثروا على رفات بعض الرفاق المعتقلين  في معتقل ( نكرة السلمان) في صحراء السماوه بعد محاولة فاشلة للهرب و كان أبي بينهم ,,, فصدقناهم