23 نوفمبر، 2024 5:06 ص
Search
Close this search box.

قبل ان يسقطنا رجال الدين قراءة في اطروحة فرج فودة ــ قبل السقوط

قبل ان يسقطنا رجال الدين قراءة في اطروحة فرج فودة ــ قبل السقوط

ربما لم تكن الحرب الفكرية/ الايديولوجية التي شنها الآخر الكولونيالي ضد منطقتنا العربية، كجزء مهم من مناطق سيطرته ونفوذه، أقل قسوة او ضراوة عن جيوش الاحتلال التي ساقتها بالقوة المفرطة لاحتلال اراضينا.

وقد يجدر بنا ان ننتبه الى حقيقة كشفت عنها الدراسات والوقائع والاحداث في العقود الاخيرة، وهي ان هذه الحرب الفكرية كانت منذ بدايتها مع بدء التغلغل الاستعماري متعددة الجبهات. فاذا كان صحيحاً ان هذا الآخر بذل جهداً كبيراً لزرع افكاره ومفاهيمه وتصوراته، وخلق نماذج المفكرين المحليين الذين ينسجون على منوال مفكريه من حيث المناهج والطرائق والاساليب ومنطق التفكير، فانه لم يتردد قط في بذل جهد كبير آخر على المستوى النقيض. ذلك، لانه اذا كان – ولا يزال- هدفه واحداً، فانه قد فتح في سبيل الوصول اليه اكثر من جبهة، واستخدم في معاركه أكثر من سلاح.

في عام 1950، اصدر جون فوستر دالاس، وزير الخارجية الامريكي السابق، كتابه الشهير – حرب ام سلام- وقرر فيه ان ثمة طريقين للدفاع عن المصالح الامريكية، اولهما- طريق المعونات الاقتصادية والعسكرية، وهو في رأيه طريق سلبي. وثانيهما- يتمثل في توحيد القوى الدينية والروحية في القارات الثلاث، وهو في اعتقاده الطريق الايجابي وصولاً الى الهدف المشترك الذي يسميه – النظام العالمي -.

قال دالاس في كتابه – ان الجماعات الدينية المختلفة قد عملت في الولايات المتحدة جنباً الى جنب من اجل هدف مشترك هو النظام العالمي. ووجد البروتستانت والكاثوليك واليهود ان من الممكن ان يتعاونوا فيما بينهم رغم تباين العقائد الدينية. ومن واجبنا تنمية علاقات متشابهة مع شعوب آسيا والباسيفيك في سعينا لتنظيم حماية القيم الروحية التي نعتز بها جميعاً.

وهذا الامر حسب دالاس بالتأكيد لن يتأتى الا بمحاربة المذاهب والتيارات والاتجاهات التي تفرق بين البشر وتزرع الكراهية والحقد بينهم، على المستوى الفكري والاجتماعي والانساني.

بطبيعة الحال، كان المقصود بزرع الكراهية والحقد هو المذاهب والتيارات والاتجاهات التي تدور في دائرة الوطنية والقومية وتبحث عن الاستقلال السياسي والتقدم الاجتماعي والبناء الذاتي للأيديولوجيات المستقلة.

كان المقصود محاربة هذه الافكار جميعاً تحت زعم انها دعوات مادية لا تستبعد استخدام العنف وتهدد سلام العالم، ونقض في النهاية مضاجع السادة الكولونياليين المستغرقين في احلامهم الروحية.

وفي عام 1977، تابع بريجنسكي رئيس الامن القومي السابق في ادارة الرئيس كارتر، نفس التوجه الفكري، وأعلن انه يعتبر التعصب الاسلامي حصناً ضد الشيوعية وذكر في مقابلة صحفية، وكانت احداث ايران قد بدأت تغلي – ان على واشنطن ان ترحب بالقوة المنبعثة من الاسلام في الشرق الاوسط لانها كايديولوجية تتعارض مع القوى الموجودة في المنطقة والتي تؤيد الشيوعية.

وقـد طلب بريجنسكي عام 1979، من اجهزة المخابرات الامريكيةـ اجراء دراسة تتمثل لما اسماه بـ – التعصب الاسلامي – بسبب تأثيره السياسي المتزايد في مناطق عديدة من العالم.

وفي قمة الثورة ضد الشاه، أعلن بريجنسكي تصريحه الشهير الذي قال فيه ان المنطقة عبارة عن – قوس ازمات – يمتد من شمال وشرق افريقيا عبر الشرق الاوسط وتركيا وايران وباكستان. واقترح تشكيل منظمة حلف الشرق الاوسط – ميتو – وهو الحلف الذي كان عليه ان يبدأ بمصر واسرائيل ثم يتوسع بعد ذلك او يتوغل في المنطقة حتى يضم ايران نفسها.

وتأسيساً على ما تقدم، ينبغي ان نتوقف قليلاً كي نتذكر ان الاتجاه لاستغلال الدين واخضاع اصحابه لاستراتيجيات مصالح الآخر الكولونيالي، ليس جديداً. واهم من ذلك انه ليس من المبتكرات الاصيلة لبريجنسكي او دالاس او غيرهما من حراس هذه المصالح في الولايات المتحدة الامريكية، وانما نشأ هذا الاتجاه ونما وترعرع في ظل الاستعمارية البريطانية صاحبة الخبرة الطويلة والتجارب العديدة في منطقة الشرق الاوسط عموماً ومنطقتنا العربية بشكل خاص.

يذكر – روبرت دريفيوس – صاحب كتاب – رهينة خميني – الصادر في نيويورك عام 1981، وهو كتاب يتضمن معلومات مثيرة عن الدور البريطاني في المنطقة، حيث اورد خطة برنارد لويس، وهي اسم الشفرة لاستراتيجية بريطانيا بالغة السرية للشرق الاوسط. وصانع هذه الاستراتيجية لويس متخصص في الشؤون الاسلامية والشرق الاوسط. وعلى الرغم من كونه كان نشطاً في الخطط التكتيكية بالنيابة الاستراتيجية الانكلو – امريكية الا انه كان حاضراً في اجتماع بلدربيرغ الذي عقد في عام 1979، في النمسا، حيث كان التزمت الاسلامي الموضوع الرئيسي للبحث.

وكانت مهمة الاستاذ الرئيسية هي وصف ايديولوجية ومميزات العالم الاسلامي. ويستطيع الانكليز بواسطة الاعتماد على تقويماته ان يقرروا اي نوع من التدخل سيكون اكثر فعالية في صياغة شؤون الشرق الاوسط حسب المصالح البريطانية.

وتدعو خطة لويس الى بلقنة وتمزيق قوس الازمات لبريجنسكي وفق خطوط عرقية وقبلية ودينية وطائفية. ولهذا فليس من المثير للدهشة ان الخطة تمت بالتعاون مع الاستخبارات الاسرائيلية.

ويقول لويس، ان على الانكليز ان يشجعوا التمرد من اجل الحصول على الحكم الذاتي من قبل الاقليات، مثل الموارنة اللبنانيين، والاكراد، والدروز، والبلوش، والاذربيجانين الاتراك، والعلويين السوريين، والاقباط في اثيوبيا، والطوائف الصوفية السودانية، والامازيغ… والهدف، هو تمزيق الشرق الاوسط الى خليط من الدويلات المتنافسة واضعاف سيادة الجمهوريات والملكيات القائمة.

ذلك كله اذن تكتيك استعماري ورجعي واضح، وله تاريخه الطويل في استغلال الدين وتوظيفه سياسياً في كل منطقتنا العربية… وحتى الآن لا تكاد المواجهات لمثل هذه التيارات المتطرفة تخرج عن ثلاث: اما محاولات الضرب البوليسي، واما محاولة الاحتواء، واما اللجوء الى التعصب المضاد.

لم تهدأ حركة هذه التيارات العارمة ابتداءاً من انطلاق الثورة الايرانية، ربما سكنت بعض الشيء مظاهرها الصارخة، ولكن مضمونها لم يختف واهدافها لم تنته لانها لم تتحقق بعد، بل ربما على العكس بدأت تستغل المساحة الديمقراطية النسبية لتأكيد دعاواها، وتثبيت ركائزها، واطلاق نيران مدفعيتها بعيدة المدى حتى تحمي زحفها الذي تعد له الآن اعداداً مكثفاً، يساعدها على ذلك بغير شك في الداخل مناخ الازمات السائد في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وفي الخارج القوى الامبريالية والرجعية التي لا تريد للمنطقة العربية ان تقوم قائمتها مرة اخرى، وان تعود بعض اقطارها للعب دورها القومي الاصيل في المنطقة العربية، فضلاً بطبيعة الحال عن النكوص الظاهر في مواجهتها من جانب القوى القومية والتقدمية.

ومن هنا لا علاقة لكل هذه الدعوات والدعاوى بالعقيدة الدينية في جوهرها الاصيل، فالعقيدة الدينية هنا هي حصان طروادة الجديد لمصالح سياسية واقتصادية واجتماعية لا تنتمي الى هذه الامة العربية ولا لشعبها، على الاقل بالنسبة لجماهيره الفقيرة والمختلفة والباحثة عن العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية والتقدم.

ومن هنا ايضاً ينبغي التخلص من الحساسيات الزائفة التي يحرص على اثارتها الذين يشهرون سيف الارهاب الفكري امام كل من يحاول مناقشة الافكار والمفاهيم والدعوات المتسربلة، زوراً وبهتاناً، بعباءة الدين والعقيدة، فما نواجهه الآن، ليس مجرد خلاف فكري او ايديولوجي، وانما نحن نواجه مصيراً تاريخياً قد تكون بعض مظاهره ونتائجه وآثاره، اذا لم نتقدم بشجاعة وتضحية ونكران للمصالح الآنية المؤقتة، هي التراجع والتخلف والانحدار لعشرات السنين الى الوراء.

ان واحدة من المواجهات الباسلة لهذه الدعوات الزائفة والمضللة، قد جرت في هذا الكتاب الذي نحن بصدد قراءته ومراجعته وتقديم ابرز اطروحاته، وهو كتاب الدكتور المرحوم الشهيد فرج علي فوده، المفكر السياسي المصري، فالقضية التي طرحها فوده وراح ضحيتها، قضية تاريخية ساخنة، والصراع الذي خاضه هو صراع التقدم ضد التخلف، والوطنية ضد الطائفية، والقومية ضد الاممية الغيبية، والعقل ضد التجهيل والجهالة، والحرية ضد الاستبداد والقهر، والمستقبل ضد الرجعية والظلامية.

ان القضية التي اغتيل من اجلها فوده، هي قضيتنا جميعاً اردنا ام لم نرد مؤشرات الطريق الذي سوف تسلكه باراتها او تدفع اليه رغماً عنها امتنا العربية، ولم يعد الصمت ونحن نرى كل ما يجري حولنا من مآس دامية، ممكناً، بل لعل الصمت هنا، خصوصاً من الذين يستطيعون ان يتكلموا، هو بكل المقاييس تواطؤ مع الجلاد ضد الضحية.

* قبل ان نسقط جميعاً…!!

وفعلاً سقطنا، منذ اللحظة التي تم فيها اغتيال فرج فوده، الذي اشتهر بمواجهاته الجادة والشجاعة لتيار التطرف الاسلامي، في وقت تخاذل فيه العديد من المثقفين عن مجابهته، وحاولت بعض الاحزاب السياسية مغازلته.

لذلك كانت لتلك المواجهات اهمية بالغة وربما كانت بكل ما احاط بها من ظروف سياسية اهم ما يميز اعماله وكتاباته التي تدور حول ضرورة فصل الدين عن الدولة ودعم الوحدة الوطنية والتمسك بالشرعية الدستورية وتطوير التجربة الديمقراطية ومقاومة التطرف في الفكر والقضاء على الارهاب بأسم الدين.

لقد شغل وما زال الرأي العام العربي والمصري منه على وجه الخصوص، بقضية تطبيق احكام الشريعة الاسلامية، والاسلام والحكم، وهي القضية التي فجرها كتاب المرحوم فرج فوده –قبل السقوط- الذي صدر وفي اعقاب صدوره تم تصفيته، بسبب مناقشته للسؤال الذي طرح فيه –هل الهدف الاساسي للمصريين وللعرب هو انشاء دولة دينية اسلامية ام انشاء دولة علمانية عصرية؟

المرحوم فوده، طالب بفصل الدين عن السياسة وعارض تطبيق الشريعة الاسلامية، وتساءل وقتها: لماذا الآن، والى اين التيار السياسي الاسلامي؟

ويقول انه اذا حدث ونجح هذا التيار في دعواه، فسيؤدي ذلك بالضرورة الى قيام حكومة دينية وبالتالي الى فتنة طائفية.

لقد احدث الكتاب ضجة ودهشة وحيرة، واصبح حديث الشارع السياسي العربي والمصري منه على الاخص وقتئذ الى الآن وربما لفترة قادمة… فالقضية ساخنة وستظل ساخنة حتى يتم الفصل فيها بصورة قاطعة عندما تناقش من قبل نخبة مفكرينا وصناع قراراتنا…

الكتاب، يقع في خمسة فصول استوعبت نحو مائتي صفحة، استخدمها فوده في التدليل على دعواه وارائه وافكاره… مستخدماً في ذلك المبررات والاسانيد التاريخية، والامثلة من مختلف العصور الاسلامية التي تؤيد مخاوفه في تطبيق الشريعة الاسلامية في اقطار الوطن العربي وبخاصة مصر وتداعيات هذه الدعوة وما سوف تخلقه للمجتمع من مشاكل. فيقول فوده في مناقشته لضرورة فصل الدين عن السياسة، ان فصل الدين وامور الحكم انما يحقق صالح الدين وصالح السياسة معاً على عكس ما يصور لنا انصار عدم الفصل بينهما، ويتابع- يجدر بيّ هنا ان افصل قبل ان افصل بين امرين، اولهما اقبله واطالب به وهو فصل الدين عن السياسة، وثانيهما ارفضه ولا اقتنع به وهو تجاهل الدين كأساس من أسس المجتمع، والفرق عظيم، فالدين مطلوب لانه احد اسس تكوين الضمير في المجتمع. فأن فصل الدين عن السياسة وامور الحكم سيكون على حساب الاجتهاد الشخصي للامام. وسوف يحدث خلطاً بين الرأي وقداسة الدين.

ان المجتمع المثالي –يؤكد فوده- لم يتحقق على مدى تاريخ الخلافة الاسلامية حتى في ازهى عصورها. وان ثمة فرقاً بين الاسلام والدين، والاسلام الدولة، وان انتصار الثاني ليس كفراً بالاول او خروجاً عليه.

ويرى فوده، ان تقتصر رسالة المسجد على تعميم مفاهيم الدين وغرس القيم الدينية التي لا يختلف حولها كل المسلمين واحتراماً للحرية الفكرية للقاصدين الصلاة في المسجد.

في الفصل الثاني – قبل السقوط- ناقش التداعيات في محتلف المجالات التي سوف يقود اليها حتماً التطبيق الفوري للشريعة الاسلامية. فهو ذكر ان هذا التطبيق سوف يقود الى دولة دينية، والدولة الدينية لا بد ان تقود الى حكم بالحق الالهي، والحكم بالحق الالهي لا يمكن ان يقام الا من خلال رجال دين اما بصورة مباشرة او غير مباشرة.

كل هذا بتأثيره وبتداعياته سيؤدي الى انهيار الوحدة الوطنية في مصر وفي عدد من الاقطار العربية. ولنأخذ مثالاً – اختاره المؤلف – على تطبيق احد الحدود في الدولة الدينية وليكن حد الزنا.

ويقول المؤلف – لنتصور ماذا يحدث بمجرد تطبيق الحد، سوف ترتفع الصيحات، كيف تطبق حد الزنا بينما ملاهي شارع الهرم مفتوحة والرقص الشرقي مباح والرقص الشعبي والبالية، فنون معترف بها، وجميع هذه الاسئلة تبدو منطقية، والمواجهة بأي رد او تبرير يبدو نوعاً من العبث، فالاغاني الخليعة منتشرة… ولا نستطيع منع التلفزيون من بيوتنا ومن مطالعة وجوه المذيعات المتبرجات، يبدين زينتهن، والممثلون والممثلات يتبادلون القبلات… وهكذا…

وهذا يطرح قضية في تصور فوده بالغة الخطورة وهي ان انصار الاتجاه السياسي الاسلامي لم يطرحوا هم انفسهم برنامجاً في هذه القضايا وانما طرحوا مسلمات عامة.

قاعدة الحكم الالهي كما فسرها فوده، يرجع اصلها الى الموقف المعروف للخليفة عثمان بن عفان عندما طلب منه الثائرون عليه ان يختار بين ثلاث – اما ان يقتص منه على اخطائه، واما ان يُقتل، واما ان ينزع نفسه عن الحكم. وكان رد عثمان عليهم – والله لا انزع ثوباً سربلينه الله – اي البسنه الله وهذا يعني ان الحكم – في رأيه – لم يأته باختيار البشر وانما اتاه بارادة الله وانه وحده الذي ينزعه منه بالموت، ومنذ ذلك الحين بدأ الصراع في تاريخ الفكر السياسي الاسلامي بين نظريتين احداهما سادت وهي الحكم بالحق الالهي والثانية دعي لها وتبناها من اطلق عليهم – المعتزلة- على فترات متباعدة في التاريخ الاسلامي، وهي ان الحكم يكون باختيار الشعب – الامة مصدر السلطات- وهذا يعني ان الحاكم في الحالة الاولى يكون مسؤولاً امام الله فقط، وفي الثانية يكون مسؤولاً اما الرعية – الشعب-.

ويقول فوده، ان الحكم بالحق الالهي لا يعترف بالدساتير والقوانين الوضعية، ولا يرى مصدراً للفكر السياسي غير القرآن والسنة… ولا يعرف من الاحزاب السياسية الا حزبين هما حزب الله وحزب الشيطان.. وواضح ان حزب الله – يمثله الدين- يحكمون باسم الدين وتحت رايته بينما حزب الشيطان حزب اسمي ليس له وجود مادي او قانوني ملموس، شأنه شأن الشيطان ذاته. ففي حد الحرابة مساحة لمن يطلق عليهم اسم – المفسدون في الارض – وهو تعبير يتسع لكي يشمل كل من يختلف مع اعضاء حزب الله.

وضرب فوده، مثلاً آخر غير المثل الاول الذي ذكرناه للخليفة عثمان بن عفان وما قاله للثائرين عليه… هذا المثل الآخر يوضح به فوده، ان حاكم الدولة الدينية يمكن ان يصل به الخلط الى الدرجة التي يرى فيها ان اجتهاده الشخصي يمكن ان يرقى الى مرتبة الاصل من اصول العقيدة.

ففي خطبة الخليفة العباسي المنصور بمكة قال – يا ايها الناس انما انا سلطان الله في ارضه اسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده وحارسه على ماله، اعمل فيه بمشيئته وارادته واعطيه بأذنه، فقد جعلني الله فضلاً ان شاء الله ان يفتحني فتحني لاعطائكم وقسم ارزاقكم، وان شاء الله ان يقفلني عليها اقفلني-.

ويضيف فوده، ان التداعيات كثيرة والقضايا عديدة، فالاتجاه السياسي الاسلامي والداعين الى اقامة دولة دينية وانصار تدين السياسة، او تسييس الدين ليس لديهم برنامج سياسي واضح ومحدد ولا تصورات لقضايا خطيرة يأتي في مقدمتها اسلوب اختيار الحاكم هل بالاغلبية او التوليه او الاختيار او التبعية او بالغلبة او بالوراثة او ترك الامر لروح العصر، والاعتراف بأن الاسلام لم يشتمل على نظرية سياسية توضيح كيفية اختيار الحاكم.

ثم قضية اخرى هي قضية الشورى التي ترى اغلبية انها غير ملزمة واقلية ترى انها ملزمة واذا كانت غير ملزمة فما جدواها.

تساؤلات كثيرة طرحها فوده حول من وراء هذه الهجمة الضارية –كما يقول- الممزقة للصفوف، المفرقة للجماعات، المفسدة للتماسك والتي سوف تكون مدخلاً مباشراً للفتنة الطائفية بل ربما تمزيق الوطن الواحد.

وفي جانب آخر من كتابه يعلن فوده بوضوح موقفه من الداعين لتطبيق قوانين الشريعة الاسلامية سواء في بعض الاقطار العربية ام في مصر فيقول – أقسم لكم جميعاً انني لن اترك التصدي لهذا الأمر ما حييت، ولن اترك هذه الدعوة ما ظل فيّ عرق ينبض، ولن اتزحزح عن ايماني بأن كل هذه الدعاوي سياسية ألبست ثوب الدين، وليس ديناً ألبس ثوب السياسة، ولن أمل في ان أكرر على مسامعكم انها الفتنة. لعن الله من ايقظها وحفظ الله مصر من اخطارها… الله وحده يعلم من وراءها.

اما تجربة السودان في تطبيق قوانين الشريعة الاسلامية التي بدءها نميري، فقد افرد لها فوده فصلاً كاملاً هو الرابع شرح فيه بالتحليل والتفصيل ابعاد التجربة وآثارها على المجتمع السوداني وما حدث فيها..مشيراً الى التعديلاًت التي ادخلها –الامام- نميري على الدستور السوداني ليحكم على هواه… كما قدم نماذج من القضايا والاحكام في ظل تطبيق قوانين الشريعة في السودان… موثقة بالادلة والاسانيد.

يقول فوده، ان ما حدث في السودان لا يمكن تفسيره الا انه – الجموح- جموح الحكم الفردي حين يعوزه التأييد فأخذ يبحث عن جديد قديم او قديم جديد ويستهويه ما وجده من ضآلة في صفحات تاريخ الاستبداد على مدى ثلاثة عشر قرناً بعد الخلفاء الراشدين وهو تاريخ ملئ بصفحات سوداء لا يقلل من ثقافتها صفحة بيضاء تظهر هنا او هناك.

ووجد –الامام – نميري وهو لقبه الدستوري الذي خلعه على نفسه، ضالته وعثر على مبرر يفعل بالسودانيين ما فعل.

ويقول فوده، ان التفسير الوحيد عندما تغنى بعض علمائنا بفوز السودان بنصيب السبق في تطبيق الشريعة، انه الطموح الذي يزن لبعضهم مجتمعاً هم فيه اهل الحل والعقد، واهل الشورى والمشورة دون ان يردعهم

مصرع الشيخ الطيب الذي اعدمه نميري شنقاً وعلناً لمجرد ان له رأياً مختلفاً في اسلوب تطبيق الشريعة او مشهد الاربعة المحكوم عليهم بالاعدام لذات السبب والذين احضرهم الامام نميري للاستمتاع بمشهد القتل.

في الفصل الاخير من الكتاب وهو الفصل الخامس طرح فوده، هذا السؤال، لماذا اذن…؟ وفيه يقول ان هذا السؤال مطروح في الساحة السياسية حول تصاعد المد السياسي الديني في السبعينيات والثمانينيات بالدرجة التي يستحيل معها تجاهل وزنه وتأثيره على حاضر ومستقبل المنطقة.

ويقول – ان الحديث عن الاتجاه السياسي الاسلامي على انه اتجاه سياسي واحد خطأ شاسع لانه يخلط بين ثلاثة تيارات سياسية مختلفة ومتميزة هي – الاتجاه الاسلامي التقليدي ويتمثل في الاخوان المسلمين، والاتجاه الاسلامي الثوري، نسبة الى الثورة والذي يتمثل اسلوبه في التلويح بسيف الارهاب للحاكم وللمفكر وله تنظيمات متعددة اقواها حالياً تنظيم الجهاد، والاتجاه الثالث هو الاسلامي الثروي – نسبة الى الثروة – وهو اتجاه يتزعمه بعض اصحاب الثروة الضخمة التي تكونت جميعها بالصدفة في السعودية وينظم اليهم مجموعة ممن كونوا ثرواتهم في مصر في ظل الانفتاح الاقتصادي ويرى اصحاب هذا الاتجاه في الدولة الاسلامية اطاراً نموذجياً لمزيد من تراكم الثروات، ويساعد على ذلك المناخ السياسي الداخلي المنغلق الذي تطرحه الدولة الدينية، وان المنهج الاسلامي يؤكد على حرية التجارة ورفض التسعير وقصر الضرائب على الزكاة ومقاومة الاتجاهات اليسارية.

وبعد ان استعرض فوده اسلوب العمل لكل اتجاه من الاتجاهات الثلاثة يصل الى نتيجة محددة هي ان هذه الاتجاهات تملك مجتمعة عناصر القوة الاساسية الثلاثة، وهي قبول الفكر، وقوة العنف، وسطوة المال. ولكنها في المقابل تعاني من نقطة ضعف اساسية وهي التنافر بين كل اتجاه والآخر. بمعنى ان هذا التناقض الواضح بين الاحساس العميق بقوة التيار السياسي الديني وبين القصور الواضح في تحقيقه لهدفه النهائي. انما يرجع الى ان عناصر القوة كلها متوفرة ولكن تنافرها هو الذي يحول دون تحقيق الهدف وبين التوافر والتنافر تتجلى رحمة الله بعباده كما يقول المؤلف فرج فوده رحمه الله.

ان كتاب فوده هذا، خاطب عقل القارئ عن قصد، وأرق ذهنه عن عمد، واخترق به منطقة اشاعوا انها محرمة لكنه ادخل به اليها مدركاً ان مستقبل الوطن ليس ألعوبة بين الساسة المتسربلين بالدين والحالمين دائماً وابداً بالسلطة ومقعد السلطان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المراجع

ـــــ قبل السقوط، تأليف فرج فوده، ط1، القاهرة، 1985

مجلة المنار (باريس) ، العدد 7 (السنة الاولى ، تموز 1985 )

*[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات