في مثل هذه الليلة بالضبط ليلة القدر من رمضان العام الماضي وفي مثل هذه الساعة تحديداً قبل صلاة الفجر بساعتين دخلت مع أخويَ أسعد وأيمن الله يرحمهما (هما في الجنة الآن) يقودنا أبي الله يرحمه (هو في الجنة الآن) وهو يجرني جراً من يدي كاتماً غضبهُ ليدخلني (مسجد صلاح الدين) في (حمص) ودموعي تنزلق على خدودي ولا أدري أهي دموع الغضب أم دموع الحزن فكنت نعسانا لا أقوى على الحركة و أبي الله يرحمه (هو في الجنة الآن) يجرجني لأتخطى عتبة المسجد صارخاً بي بعنف :
– “لك” أنت لن تدخل الجنة و سيدخلها أسعد وأيمن وأنت ستبقى مع أمك فهما أصرا على حضور قيام الليل معي في المسجد حتى دون أن أطلب منهما ذلك … لا تقل أيمن اكبر منك أليس أسعد أصغر منك بسنتين ؟! متى ستصبح رجلاً !؟ أنت لن تكون رجلاً وسيسبقك أسعد رغم انك ستذهب السنة القادمة إلى الثانوية وهو لازال في الرابع ابتدائي ولكنه أرجل منك …
لكن تعامله معي تغير عند دخولنا المسجد المضاء بأضوية كثيرة براقة جميلة نسيناها منذ أن بدأت الحرب وازدحم المصلون في باحة المسجد وعند أبوابه وكلهم كان رافعاً ذراعيه باكياً يدعو ربه (رحمتك … فرجك … جنتك) كان منظراً مبهراً بالنسبة لي كثيراً ما دخلت المسجد نهاراً فهو لم يكن بعيداً عن دارنا وكان فيه عدد من المصلين ولكنهم لم يكونوا يبكون كما اليوم ولم يكن المسجد مضاء كما اليوم ولامزدحماً بهذا العدد الكبير من المصليين ؛ لاحظ أبي دهشتي تبسم لي لأول مرة ومسح خدي من دمعتي و همس بأذني بحنية ورقة أعجبتني كثيراً :-
– أحمد لا تزعل مني أنا أريدك أن تكون رجلاً وتقيم ليلة القدر مع أخوتك و يحبك الله وتذهب إلى الجنة … ادعوا الله أن تنجح في المدرسة وسيسجل الملائكة دعاءك قبل أن يعودوا إلى السماء مع أذان الفجر
ودعوت الله أن أنجح في المدرسة ونجحت فعلاً ولكني لم اذهب إلى الجنة وهم ذهبوا !
كان ذلك في ليلة القدر من العام الماضي في مثل هذا اليوم في مثل هذه الساعة في مسجد صلاح الدين في حمص في سوريا و كان معنا في المسجد فادي وياسر و مصطفى وكثير من أصدقائي في المدرسة وجدتهم هناك في المسجد كانوا جالسين بالقرب مني وتحدثنا معاً بصوت خافت وتبادلنا النظرات كل منا يريد أن يؤكد وجوده مقيماً ليلة القدر بل كنا نتعمد أن نري أنفسنا لأصدقائنا كي لا يعيرنا أو يتفاخر علينا أحد بأنه كان موجودا في المسجد مع المصليين حتى مطلع الفجر … تبادلنا النظرات والابتسامات والإشارات حتى أثناء الصلاة …!
لا ادري أين هم الآن هل ذهبوا إلى الجنة مع أسعد وأيمن وأبي ؟! أم أنهم ما زالوا صغارا ولم يحن وقت ذهابهم بعد ؟! سمعت أن فادي ذهب إلى الجنة مع أمه حينما هربوا من بيتهم بعد الغارة … لكن ذلك ليس مؤكداً فلقد رأيت ياسر مع أمه وأخته في مطار القاهرة رغم أن صديقي مصطفى قال لي قبل أن نأتي إلى مصر بأشهر أنه ذهب إلى الجنة !
لم يكن المسجد ساكناً كهذا المسجد المصري بل كان ضجيجه عالياً وكانوا كلهم يبكون بحزن وخوف ويصرخون بصوت عال ودموعهم تنسكب بغزارة كانت دموع أبي تسقط على رأسي بغزارة فحركت راسي كي تسقط على خدي عل أحدهم يراها فيظن إني أيضاً أبكي مثل الكبار !
لم أكن في ذلك اليوم وفي ذلك المسجد غريباً كما أنا اليوم جالساً بزاوية بعيدة عن الناس لا اعرف أحداً منهم وليس معي صديق ثم أني سوري وهم مصريون أخاف أن يرفضوا وجودي هنا أيضاً سمعت أننا يمكن أن نرحل من هنا في أي ساعة لوجود (مشكلة) في أوراقنا (أنا لا اعرف بالضبط ما هي المشكلة حتى الأوراق لا أعرفها) لكن أمي كانت خائفة جداً مرتبكة حائرة باكية و لم يكن ذلك بسبب خوفها على كوننا بقينا لوحدنا بعد ذهابهم إلى الجنة ولكن خوفها وبكاءها من نوع جديد خوف حائر وإذا سألتها ما الأمر تقول بخوف حزين :
– والله يا ابني أنا حائرة لا اعرف ماذا افعل لا اعرف مصيرنا ؟
سقطت دموعها على خدي كما سقطت دموع أبي على خدي قبل أن يذهب إلى الجنة مع أسعد وأيمن
ثم رفعت يدها تدعو الله باكية كما كان يفعل أبي قبل أن يذهب إلى الجنة
– يا رب بحق هذه الليلة المباركة ليلة القدر العظيمة هذه يا رب … يا رب … يا رب …
وبقت تردد يا رب يا رب ولم تقل شيئاً أخر ! لم أسمعها تطلب أي شيء من الله ! كنت أريد أن اذكرها أن تطلب حل مشكلة إقامتنا و نقص الأوراق لعلها نستها !
كنت أريد أن أذكرها أن تطلب نقوداً فكل الذي أعطته لي منذ مجيئنا إلى مصر قبل أكثر من أربعة أشهر لا يتجاوز العشرة جنيهات ! وكلما طلبت منها جنيهاً واحداً أقسمت لي أنها لا تمتلك ما يكفينا كي نعيش!
لم أكن أعرف ماذا أقول لها ولكن اليوم ليلة القدر أليس كذلك ؟!
أجابتني بانكسار نعم يا ابني وليس لنا فيها غير الدعاء .
وجدت حلاً للمشكلة إذن يمكنني أن أذهب الآن إلى المسجد بقيت ساعتان على أذان الفجر سأذهب إلى المسجد الآن وسادعوا كما فعل أبي يرحمه الله الذي ذهب إلى الجنة مع أسعد وأيمن وتركني أنا وأمي لوحدنا جئنا بعدها إلى مصر هاربين من الجنة.
كانوا يريدون أن يذهبوا الى الجنة فدعوا الله فاستجاب لهم لكني لا استطيع الآن أن اذهب إلى الجنة واترك أمي لوحدها في مصر !
ضج المسجد بالدعاء رفع المصلون والمعتكفون والركع السجود أصواتهم بالدعاء أنهم يسارعون بالدعاء وهم يبكون رفع أحمد يده بكى تساقطت دموعه الصادقة لأول مرة على خديه وانساقت مسرعة إلى الأرض بقيت يده مرتفعة ولسانه مشلولا لا يعرف ماذا يطلب من الله والدقائق تهرب منه وكلهم يدعون ويطلبون من الله شتى الطلبات (يا الله إرحمني إغفر لي أرزقني نجحني …)
ليس كل هذا! ماذا كانت أمه تريد من الله؟ تساءل بحيرة والوقت يمضي منه متسارعاً لا ينتظره وعلا صوته وتسارع متنافساً مع الدعاة من حوله ولم يسعفه تصنته لهم … واقترب أذان الفجر وعندها تنتهي ليلة القدر ويرجع الملائكة الى السماء.
ــ يا رب ! … يا رب … نسيت ماذا أريد … لا اعرف ماذا تريد أمي وماذا أريد … يا رب … انتظرني يا رب سأتذكر يا رب لحظة يا الله
تلفت حوله مرة أخرى يتسمع ماذا يدعوا من حوله سمعهم بوضوح لكنه يريد شيئاً أخر حاول تذكره لم يتذكر أنه شيء آخر مشترك مع أمه أنه يريد شيء لا يعرفه ولم يسعفه لسانه ولا عقله والوقت يمضي بعد قليل تصعد الملائكة إلى السماء حاملين دعاء الناس وطلباتهم وتغلق الأبواب وهو لم يقل طلبه بعد ولا يعرف بماذا يدعوا وما هي مشكلة أمه ماذا كانت تريد من الله؟! أما هو فقد ترك المدرسة ولم يجلب شهادته معه وبقيت هناك تحت أنقاض بيتهم أو الذي كان بيتهم ! ولكنه وعد أمه أن يدعوا الله وهي في البيت بانتظار دعائه ؟ ولكن لسانه انعقد والوقت مضى ولعل الملائكة بدأوا بالرحيل إلى السماء ليغلقوا أبوابها وفي هذه اللحظة إنفرجت أسراره وفغر فاه بدهشة وفرح صارخاً بقوة باكياً
ــ يارب خذ بشارا إلى الجنة واعد أبي لنا من الجنة كي تكف أمي عن البكاء ويجلب لنا الأوراق التي يريدونها
وقبل أن يخفض يده استدرك نفسه وشبك كفيه على رأسه مواصلاً مسرعاً ليصل الدعاء بالدعاء الأول
— يا رب تذكرت أخواي اسعد وأيمن لا تبقيهما لوحدهما في الجنة يا رب و أمي تبكي عليهما باستمرار.
سكت برهة وهو يعيد حساباته لو جاءوا هل ستحل المشكلة أم أنها ستزداد تعقيداً وهل ستستطيع أمه أن تعطيه واسعد وأيمن إن عادا من الجنة مع أبيه مصروفاً استدرك أحمد مرة أخرى وعاد لرفع كفيه يدعو الله بلا مهل
– يا رب يا رب إذا لم تفعل ذلك لي يا رب خذني وأمي إليهم هم في الجنة الآن وخذ مني شهادتي يا الله!!
وحالما انتهى احمد من دعائه علا أذان الفجر في المسجد ؛ أخذ أحمد نفساً عميقاً بارتياح شديد وتمتم
– لتصعد الملائكة الآن إلى السماء ولتغلق أبواب السماء لقد أوصلت دعائي في اللحظة الأخيرة