23 ديسمبر، 2024 12:31 ص

قبل أن أتحرر من نير ” الحرة”

قبل أن أتحرر من نير ” الحرة”

بالكاد ، و متحملا اطنانا من وخز الضمير ، كنت اسوق نفسي في الصباحات الباردة الى مكتبنا القريب من العاصمة واشنطن ، متمثلا بالآية الكريمة ” كانهم يساقون الى الموت وهم ينظرون ” . ادخل غرفة التحرير ، او غرفة السيطرة ، فارى الوجوه المكفهرة تتلألأ فيها بشائر النفاق مع خيوط الشروق الاولى للشمس . الجميع يبدو وكانه يتسابق لارضاء الادارة التي تغط في نوم عميق في ذلك الوقت ، فمن لم يستطع بابتسامة مصطنعة ، فبرسالة الكترونية دنيئة تجدد عهد الولاء ، وذلك اضعف الايمان . هذا هو جدول اعمالي المكرور يوميا في مكتب الحرة ، وان كان بصيغ مختلفة ، منذ نحو اربع سنوات . رحلة موبوءة من الخداع والضحك على الذقون والتسابق في تضليل المشاهدين عبر البحار ، لو وجدوا طبعا . سؤال كان ينخر دماغي دائما قبل ان احزم امتعة الرحيل ، ترى كم من هؤلاء الزملاء يماثلني في الشعور ، لكن الجميع يخاف من الهمس بما يشعر به حتى للجدران ، لان المكتب الذي يعج بالاسلاك من فوق ومن تحت ، تحول منذ سنوات الى ما يشبه رواقا من اروقة مديرية الامن العراقية العامة ، سيئة الصيت . تصاعدت الضغوط ، ومعها ارتفعت اصوات الاشتباكات اليومية مع المسؤل ( المعتمد جدا) لدى الادارة ، احيانا لاسباب تافهة تعكس حالة التوتر التي وصل اليها الموظفون المقادون كالانعام … تهرأ حبل الصبر ، فقررت الرحيل ، عارفا تماما ان وراء هذا القرار ، تشردا ، وفقرا ، وضياعا وربما فقدان عائلة ايضا . وهذا ما حصل تماما . الانجاز الوحيد الذي حققته من اتخاذ هذا القرار هو انني اصبحت اتنفس لنفسي وبرئتي وبالوقت الذي اريد . عندما يسوقك قدرك للعمل في مؤسسة اعلامية عربية في العاصمة واشنطن ، مهما كانت وظيفتك ، عليك ان تعرف مسبقا بانك مهما تانقت في المظهر العام ، فان مصيرك لا يتجاوز مصير خروف في عيد الاضحى باحسن الاحوال . والبديل الوحيد هو انك ترهن إليتك بكرامتك و رقبتك بحبل مؤسسة اعلامية اخرى في العاصمة الاميركية ، تؤجل نحرك الى عيد آخر وربما بين العيدين ، او تنسجم مع القطيع الذي ينعق مع كل ناعق . هنا – والحال هذه – يجب ان يكون خنزير اسرائيل بنيامين النتن ياهو هو البطل القومي المنتظر للعربان ، وان العدو الوحيد الذي يزعزع الأمن في سقطرى اليمنية الآمنة هو صاحب المقهى الذي يزود خطيب جمعة طهران بالشاي . أي شي يتناقض مع هذه الرؤية ، فهو غير صالح للبث وعلى كل من حرر او اعد مثل هذا الخبر المتآمر على الامن القومي ان يحضر اجوبته المقنعة للادارة الامنية ويبدأ بالعد التنازلي . في جو محتقن كهذا ، لا غرابة ان نسمع عن اربعة منتسبين ( اكبرهم دون الاربعين من العمر ) استدعيت لهم سيارات الاسعاف في الاسبوع الاخير من الشهر الماضي ، ولا علاقة للمسكين كورونا باي من هذه الحالات الطارئة . عندما تاسست الحرة في الفين وثلاثة وانطلقت في الفين واربعة ، كانت إغراءات استدراج الموظفين للقناة في ذروتها ، فجاءها الملبون من كل فج عميق من شرق اوروبا الى غربها الى المنطقة العربية . منذ خمس سنوات بدات القوارض البشرية تقرض في هذه الامتيازات حتى اصبحت اليوم قريبة من حدها الادنى . في سبتمبر ٢٠١٨ اصبح عشر مذيعين بكامل اناقتهم على مجزرة ايلول الاسود، دون ان يمنحوا وقتا للسؤال عن سبب المجزرة . وبعده بأيلول آخر ” قبل اكثر من عام ” جاء الدور على مجموعة محررين ومنفذين محترفين ومحترمين ، واسوة بسابقيهم ، لم يمنحوا سوى فرصة التوقيع على اوراق طردهم من المؤسسة . في صيف هذا العام واستباقا لمجزرة ايلولية مرتقبة ، تعرضت الحرة لتسريب كبير لعله الاكبر من حيث العدد مقارنة بالزمن . فقد غادرت القناة مجموعة من الموظفين الى محطة عربية ناشطة في منطقة العاصمة تستعد لتغطية انتخابات الرئاسة الاميركية في الثالث من نوفمبر . عدة امور اجتمعت لايقاف مجازر الحرة الايلولية ، ابرزها غياب القيادة ، حيث المحطة بلا مدير ولا مدير اخبار منذ سنة تقريبا . الاستقالات الجماعية التي استبقت ايلول ولدت فراغات كبيرة . تفشي فايروس كورونا في الولايات المتحدة عموما وفي القناة خصوصا . تقلص عدد المتقدمين للعمل في الحرة بسبب انخفاض الامتيازات الممنوحة للموظفين الى حدها الادنى . الشهران المقبلان كما هما حاسمان بالنسبة للولايات المتحدة ، فهما حاسمان لقناة الحرة ايضا . ثمة اجماع على تغيير قادم ، لكن لا احد يعرف شيئا عن ملامح هذا التغيير.