23 ديسمبر، 2024 5:07 م

قبلة السائحين في القاهرة : خان الخليلي .. زقاق ساحر يضيء جبين الليل

قبلة السائحين في القاهرة : خان الخليلي .. زقاق ساحر يضيء جبين الليل

قد لاتجد في كلّ ارض الكنانة وحواضرها القريبة أو القصية، زقاقا يمشي على قدمين لاهثتين صوب عتبة الفجر مثل خان الخليلي، ذلك البهاء النابض بالحياة فوق جبين الليل، إذ لاتنسدل جفونه حتى يلامس خيوط الفجر، هذه الدرابين الضيّقة، الناهضة بحمل التراث، المكتظّة بوجوه العابرين الذين تعددت بلدانهم من كلّ حدب وصوب، تعدّ مرمى للسياحة ومقصدا للعارفين بأبجديتها التراثية
الراسخة في بطون كتب التاريخ، حيث إن السياحة في مصر، لاتكتمل حلقاتها الاّ عبر المرور فوق أرصفة هذا المكان الشعبي، الذي ظلّ محتفظا بأديم الخلافة الفاطمية وشكلها المتفرد في تنفسّ القيم الجمالية على مرّ السنين .
يتوسط خان الخليلي معلمين دينيين كبيرين هما مسجد الإمام الحسين(ع) الذي تحيطه المكتبات الصغيرة المتميزة بمعروضاتها الغزيرة من الكتب المتنوعة في اصول الدين والفقه الإسلامي، وجامع الأزهر الذي يعدّ أقدم بناية أثرية وضع لبناته الأولى خلفاء الدولة الفاطمية، تتميز أحياء هذا الخان بالحفاظ على ملامح اسواقها القديمة التي تفوح منها أبخرة العطّارين وروائح توابلها الملتصقة بهواء المكان، إذ يمكنك ان تستدل على قربك من خان الخيلي بمجرد ان تستنشق عبق تلك الروائح التي لايمكن ان تجدها في غير هذا المكان .
  يحيط بالخان جامع قالقون الذي مازال يؤمه المصلون حتى هذا الوقت، كذلك يرابط قربه قصر أنيق كانت تمتلكه إحدى أميرات الدولة الفاطمية وإسمها الاميرة شويكار،  تشير المعلومات التاريخية الى  ان هذا الخان  بناه العام 1382  للميلاد، أمير وتاجر كبير في زمن المماليك يدعى  شركس، كان يلقب بالخليلي نسبة الى موطنه الأصلي في مدينة الخليل الفلسطينية .
يضجّ هذا الزقاق بالكثير من المطاعم الشعبية المعروفة بنكهة أطعمتها التي يقبل عليها السيّاح بشكل دائم، تقدم فيها أشهى الوجبات الشعبية المعروفة في مصر مثل الفول والفلافل والحمام، حيث تشكل تلك الأكلات روح البيئة الشعبية المحضة في هذا البلد المتنوع في حضارته، المشهور بتقاليده التي تكاد ان تكون معروفة لدى أغلب الزائرين،  خصوصا إذا كانوا من العالم العربي الذين حفظوا تلك الأماكن والأزقة عن طريق الأفلام المصرية والمسلسلات التي رسخت في الذائقة الجمعية لعموم الشعوب العربية منذ انتشار السينما والقنوات الإعلامية الأخرى في الربع الأول من القرن المنصرم .
المطربون الجوالون هم سمة خان الخيلي وفاكهة جلاّسه، لم يتورع هؤلاء الفنانون عن تقديم اجمل الأغاني وأعذبها، لاسيما التراثية منها التي كان يصدح بها اعظم
فناني مصر، يقدم المطرب نفسه للزبائن بطريقة لاتخلو من الطرافة، حيث تكون لباقته وأناقته مفتاحا للتأثير على الزبائن وبالتالي الحظوة بجلسة غنائية تمتد لأكثر من نصف ساعة مقابل مبلغ زهيد من المال لايتعدى العشرة دولارات، لذا تجد المطربين يشكلون حلقات طربية وتعلو دندنات العود في كلّ زوايا الخان تقريبا وخصوصا قرب المطاعم والمقاهي .
ومايلفت للنظر ايضا تلك المحال العامرة بأجمل  أنواع السبح الفاخرة والمتنوعة والتي تبدأ بأسعار بسيطة حتى تصل الى مئات الدولارات حسب نوع الأحجار التي صنعت منها تلك المسابح، أما الأحجار الكريمة والعقيق، الوانه الساحرة تزين الصناديق الزجاجية الملتمعة بوهجه، وتعدّ خان الخليلي مركزا مهما وبورصة كبيرة للإتجار بأنواع ثمينة من الأحجار الكريمة .نظرات الباعة المتسمرين في واجهات محالهم تلتقط الزبون عن بعد عجيب، يعرض البائع بضاعته في ايّة لغة يتحدث بها السائح، إذ يتقن هؤلاء الباعة أغلب اللغات الحيّة التي تتجاوز أحيانا  السبع لغات، الأمر الجميل إنهم يصطادون الزبائن بحرفة عالية بل والأنكى من ذلك يجيدون معرفة من أيّ بلد ينحدر هؤلاء السياّح، ولاغرابة إذا عرفنا أن عددا غير قليل من الباعة لايجيد الكتابة والقراءة و(فكّ الخط) حسب مقولتهم .
ولأن المقاهي الشعبية في القاهرة تكاد أن تكون شواهد المدن ومعالمها الشهيرة، لابدّ أن تحظى خان الخليلي بمقهى يليق بإرثها التليد، فكانت مقهى الفيشاوي المتطاير صيتها بين كلّ من قصد الخان، حتى أصبحت معلما مهما لكلّ من يروم أن يعقد موعدا مع صاحبه في ذلك المكان المزدحم بكلّ شيء، إذ تأسست تلك المقهى الواقعة في قلب خان الخليلي عام 1797 للميلاد، اكتسب تسميته من مؤسسه الأول فهمي الفيشاوي، ولا أخفيكم سرا فقد أنهيت جولتي بالجلوس على اريكة مريحة في ممر المقهى الضيّق والمزدحم مستمتعا بارتشاف طلبي المفضّل وهو الشاي بالنعناع على أمل اللقاء بكم في جولة جديدة في حواري القاهرة وشواخصها الأثرية الساحرة .