لقد كنت مأثرة..
وها أنتم صرتم نواحاً وصباحاً قاتماً للأوفياء
صرتم شظايا محنطة تنقض بلا رحمة على الموتى الذين يتقدمون….!)
الشاعر عقيل علي
نشر أحد اصدقاء صديقي الشاعر الراحل (عقيل علي ) صورة له قرب قبر الشاعر وقد حمل فوق القبر ديوان عقيل الشعري ( جنائن آدم ) وأظن أن فعلة صديقي ( نبيل ) في مشهد هذا الحزن الرائع فعلُ لأجمل لوحة لوفاء يتلقاها عقيل بعد مماته ، ولم أرَ غير ( نبيل ) من يكرم شاعرا متوفٍ بهذه الطريقة الجميلة في ظل تساؤل الصديق عن إهمال المكان وصاحبه وهو الذي تخيله واحد من أهم شعراء الحداثة العربية في المغرب الشاعر ( محمد بنيس ) وما نسب إليه من قول : ( بأنه لا يوجد في الساحة الشعرية العراقية ، شاعر بعيار عقيل علي ).
قبر عقيل علي في عزلته وصمته وصوته الذي أثار في طرقات الثقافة غبار الأسئلة ولكنه أراد لوجوده وخلوده أن يرتدي قميص الغموض ، وهي ذاتها هواجس جلجامش يوم اراد منه الجميع تفاصيل رحلته التي باركتها الآلهة من السلالات الواقعة في حدود مدينة العمارة وحتى ممالك عفك السومرية ، لكنه حتى يحافظ على كبرياء خيبته في عدم مضغ ورقة الخلود ابقى الطريق سرا وما قرأناه عن ملحمة جلجامش ليس سوى تخيل كاتب لرحلة الملك الشاعر ( جلجامش ) .
هي ذاتها اللحظة المتخيلة على قبور أولئك الذين لم ينالوا ما يستحقون في حياتهم ، اللحظة التي تجعلنا نعيدُ سياقات الحديث عن الذين ساهموا في تحريك ركود مياه حياتنا عبر ابتكار طرق خاصة في صناعة الدهشة ، وتأسيس نوافذ لجهات غير تلك التي تتعلق بإشارة أصابعنا الى الجنوب والشمال الروحي الذاهب الى مدن الضوء والصدى وتحقيق ما كانت تتمناه دمى طفولتنا في رغباتها الأولى.
دهشة أن يقولوا أشياء بمستوى المدائح التي صنعتها الأساطير وقداسات الكهنة ويضعوا الذين يصغون اليهم في متاهة الورد والحيرة ، وأن كانوا يستمعون بدون حس سريالي يصيروا مشككين في مواعين الباقلاء وبالرغم من هذا فأن نهاية المطاف القصائد التي تشبه الحدائق في قدرتها على تحويل حزن البشر الى سعادة مطلقة.
ربما عقيل علي هو من بعض أولئك الذين تصنعهم أقدار الحياة المعاكسة وأكثر ما يميز هذا القدر أنه يعيش في لذة العوز والتيه والخراب والثمالة فائقة الذهول والنوم على أرائك المقهى وغرف الفنادق المعدمة التي من بعض هواياتها إيواء صناع الكلمة التي تمتلك نصل قنينة العطر الفرنسي.
أولئك الذين يدركون أن من يصنعْ لسحر الكشوفات الغريبة مجدها هم اؤلئك الذي نؤشر عليهم دائما بعبارة : ما الذي يفعله هذا الشاعر .؟
عقيل علي في قبره وقد فعل الكثير وترك الكثير ليقرأ بعناية أو يمزق من قبل أصابع مغتاظة ومتوحشة ، وهي ذات التهمة التي وجهت اليه في عراك النقد وحيرته إزاء ظاهرة أسمها ( عقيل علي ) ومن اصدقاءه أيضا حول إن كان عقيل علي يكتب قصيدته هو أو يستعريها من معطف شاعر تمت إذابة جسده بالتيزاب في مديرية الآمن العامة.
الآن وهذا القبر يلفهُ صمت جيرانه وفوضى حياة ربما تُجبرُ الآخرين على نسيانه ، عدا هذا الصديق الوفي الذي يرفع في الصورة فوق قبره ( جنائن آدم ) .
أقول : انا أعرف عقيل علي ، كان يكتب شعره لكنه أختار في نهاية التفكير بدهشة خاتمة الحياة أن يكون اللغز والهالة المختفية وراء ما كان يرتديه من قمصان تبعثر فيه الريح السومرية خيوطها حتى يمسي الكاهن عاريا أمام الشمس والآلهة لتعرف ما الذي يسكن روحه وجسده وصداه.
أنها الحياة التي أرادها وانزوى في عدميتها وأختار الصمت الذي يلازم سجود الحجر حين يرفض أن يجيب على أسئلة الطبيعة حول جدوى أن يكون من دون لسان ولكنه في نفس الوقت يمتلك القدرة على شج الرأس واحداث النزيف الدامي حين يُرمى ليصيب أو يقتل.
هذا الحجر هو قبر عقيل علي ، رخامة تحمل أسمه وتأريخ رحيله عن هذا العالم .
ضريح من النسيان ولكنه نسيان مؤثر في حواس وذاكرة كل الذين قرأوا ويمتلكون كتب عقيل الشعرية .
صمت الشاعر في قبره هو صدى لغة الطيور واردية الكائنات التي ترتدي ثياب الفضة والعشب لتعيد تلك الأناشيد التي كتبها عقيل علي بخطه النحيف والتهجي الصعب أو ربما استعان بالخط الجميل ل( عبد العظيم فنجان ) ليدونها له .
خطه المائل الى زاوية الارتباك واللحظات التي ينتهي فيها من ممارسة تمرين الخبازة في مخبز مقابل بيتنا في الناصرية.
عقيل علي في قبره الآن . والصورة في معاييرها أبلغ من إيماءة راهب أمام توراة مُحيتْ بعض آياتها لكن صدى عصا موسى يُسمع طرقها على ارصفة كل هذه الطرقات الممتدة على سطور هذا الكتاب ولتنبئنا أن هكذا حشد من الشعراء يموتون لأجل أن يولدوا .
والآن عند ناصية الضوء والدكة التي تجلس عليها شاهدة أسمك يا عقيل ، أقول للذي رفع جنائن آدم فوق قبرك ، شكرا لأنكَ بالرغم من بساطة خاطرتك الكونية هذه لكنكَ استطعت أن تعيد ألينا ذلك الإنشاد الصامت الذي يصرخ فينا حين يكتب عقيل علي قصيدته :
(( شعبٌ من الموتى يفتقدون الفتنة بهدير قارب
هكذا اجركَ الى سطوحنا دائما
بروق الصحراء أمام الاقراط
اعراس السنة امام طائر ازرق
حتى يحين الوقت الذي اختفى-))