18 ديسمبر، 2024 11:11 م

قانون العمل النافذ في الميزان

قانون العمل النافذ في الميزان

القسم الثاني عشر -2-

إستكمالا لما قدمناه في القسم العاشر ، وإيضاحا لما تضمنته بنود المادة (6) من القانون ، نود بيان التوجهات الفكرية والعقائدية المختلفة تأريخيا كما يأتي :-

ثانيا : القضاء على جميع أشكال العمل الجبري أو الإلزامي .

-* نصت المادة (37/ثالثا) من الدستور ، على أن ( يحرم العمل القسري ( السخرة ) ، والعبودية وتجارة العبيد ( الرقيق ) ، ويحرم الإتجار بالنساء والأطفال ، والإتجار بالجنس ) .

-* العبودية أو الرق : إمتلاك الإنسان للإنسان ، ولأن الرقيق مملوكين لأسيادهم ، فقد كانوا يباعون بأسواق النخاسة أو يشترون في تجارة الرقيق ، بعد إختطافهم من مواطنهم أو يهدي بهم مالكيهم ، وممارسة العبودية ترجع لأزمان ما قبل التاريخ وبعده وفي كل البلدان ، فعندما تطورت الزراعة بشكل متنام ، كانت الحاجة ماسة للأيدي العاملة ، فلجأت المجتمعات البدائية للعبيد لتأدية أعمال تخصصية بها ، وكان العبيد يؤسرون من خلال الإغارة على مواطنهم تسديدا لدين ، وكانت العبودية متفشية في الحضارات القديمة لدواع إقتصادية وإجتماعية ، لهذا كانت حضارات الصين وبلاد الرافدين والهند تستعمل العبيد في الخدمة المنزلية أو العسكرية أو الإنشائية أو البنائية الشاقة ، وكان قدماء المصريين يستعملون العبيد في تشييد القصور الملكية والصروح الكبرى ، وكان الفراعنة يصدرون بني إسرائيل رقيقا للعرب والروم والفرس ، وكانت حضارات المايا والأنكا والأزتك تستخدم العبيد على نطاق واسع في الأعمال الشاقة والحروب ، وفي بلاد الإغريق كان الرق ممارسا على نطاق واسع ، لدرجة أن مدينة أثينا رغم ديمقراطيتها ، كان معظم سكانها من العبيد ، وهذا يتضح من كتابات هوميروس للإلياذة والأوديسا ، فالعبودية كانت سائدة في روما أيام الإمبراطورية الرومانية التي قامت على أكتاف وأبدان العبيد ، وكل بنايات الحضارات الكبرى بالعالم القديم قامت كذلك ، لأن العبودية متأصلة في فكر وثقافة الشعوب كافة .

-* وفي عام 1792م كانت الدنمارك أول دولة أوربية تلغي تجارة الرق ، وتبعتها بريطانيا وأمريكا بعد عدة سنوات ، وفي مؤتمر فينا عام 1814م عقدت كل الدول الأوربية معاهدة منع تجارة العبيد ، وعقدت بريطانيا بعدها معاهدة ثنائية مع الولايات المتحدة الأمريكية عام 1848 لقمع هذه التجارة ، بعدها كانت القوات البحرية الفرنسية والبريطانية تطارد سفن مهربي العبيد ، وحررت فرنسا عبيدها وحذت حذوها هولندا وتبعتها جمهوريات جنوب أمريكا ما عدا البرازيل ، حيث ظلت العبودية بها حتى العام 1888م ، وكان العبيد في مطلع القرن (19) يتمركز معظمهم بولايات الجنوب بالولايات المتحدة الأمريكية ، لكن بعد إعلان الاستقلال الأمريكي ، أعتبرت العبودية شرا ولا تتفق مع روح مبادئ الإستقلال ، ونص الدستور الأمريكي على إلغاء العبودية عام 1865م ، وفي عام 1906م عقد مؤتمر العبودية الدولي (International Slavery Convention ) حيث تقرر منع تجارة العبيد وإلغاء العبودية بشتى أشكالها ، وتأكدت هذه القرارات بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان .

-* أما العبودية في الأديان : فاليهود يحللون الرق بأنواعه ولم يحرمونه ، وفي المسيحية تتنوع وجهات النظر في العبودية على المستووين الإقليمي والتاريخي ، فقد تم فرض العبودية في أشكال مختلفة من قبل المسيحيين لأكثر من (18) قرنا ، في السنوات الأولى للمسيحية كان الرق سمة طبيعية للإقتصاد والمجتمع في الإمبراطورية الرومانية ، وإستمر في العصور الوسطى وما بعدها ، وأيدت أكثر الشخصيات المسيحية في تلك الفترة المبكرة مثل القديس أوغسطين أستمرار العبودية ، في حين عارضته عدة شخصيات مثل القديس باتريك ، وبعد عدة قرون ، وحينما تشكلت حركة إلغاء العبودية في جميع أنحاء العالم ، عملت الجماعات التي تنادي بإلغاء العبودية ، لتسخير التعاليم المسيحية لدعم مواقفهم ، وذلك بإستخدام كل من ( روح المسيحية ) ، الحجج النصية ، وآيات الكتاب المقدس ضد العبودية ، وبحلول نهاية القرن التاسع عشر كانت القوى الأوروبية قد تمكنت من السيطرة على معظم المناطق الداخلية الأفريقية ، وقد لحقهم بعد ذلك المبشرين المسيحيين ، فقاموا ببناء المدارس والمستشفيات والكنائس والأديرة ، وكان للمؤسسات المسيحية دور في تثقيف وتحسين المستوى التعليمي والطبي للأفارقة ، يجادل رودني ستارك العالم في علم إجتماع الدين في كتابه ( المجد لله ) ، أن المسيحية بشكل عام والبروتستانتية بشكل خاص ، ساعدت على إنهاء الرق في جميع أنحاء العالم ، ويشاركه في ذلك أيضا الأمين سانه المؤرخ في جامعة بيل ، إذ يشير هؤلاء الكتاب إلى أن المسيحيين كانوا ينظرون إلى الرق بأنه خطيئة ضد الإنسانية وفق معتقداتهم الدينية . أما الرق في الإسلام ، فقد ورد في القراَن الكريم ، أن بني إسرائيل بن يعقوب بن إبراهيم ، كانوا يهودا عبيدا في مصر ، إذ جاء وصفهم كذلك في مواضع عده في القران الكريم ، مثل (( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ )) ، وكان من أعماله التعرض للرق والعبودية بشكل مباشر ، حيث حث على تحرير العبيد من العبودية وشجع عليه ، وجعله من القربات إلى الله ، ودعى رسول الإسلام محمد بن عبد الله (ص) ، إلى حسن معاملة الأسرى والعبيد والرفق بهم ، حتى أنه نهى عن تسميتهم بلفظ (العبيد) حين قال (ص) : ( لا يقل أحدكم عبدي ، أمتي ، كلكم عبيد الله ، وكل نسائكم إماء الله ، وليقل : غلامي ، جاريتي ، وفتاي ، وفتاتي ) ، ولأن الرق مسألة تدخل في باب التشريع في الإسلام ، ولأن هذا الدين معروف عنه التدرج في تحريم المنكرات والسيئات كالخمر مثلا ، فإنه ينظر إلى معالجة مسألة الرق من منظور منطقي ، يحفظ الأسس الإقتصادية والإجتماعية التي قامت على تجارة الرق في المجتمعات ، ويراعيها ويتفهمها منعا لإنهيار عنصر مهم في حياة الناس ألا وهو الإقتصاد ، لكنه لا يقف عند هذا الإقرار ، بل يتدرج في سحب بساط الرق من تحت سيطرة الأسياد بتشريعاته المتدرجة وقيمه السمحة ، وهنا تتجلى منهجية الإسلام في معالجة مسألة الرق بما لا يشرخ الأسس الإقتصادية والإجتماعية المتجذرة في أي مجتمع كان ، وفي هذا رد على شبهة من يقول بعدم رفض الإسلام للرق ، فإن كان الإسلام لم يرفض الرق في زمن من الأزمان ، فإن هذا ليس إقرارا بمشروعيته المطلقة ، بل مراعاة ( لما شب عليه الصغار وشاب عليه الكبار) كما يقول الخليفة عمر بن عبد العزيز (رض) ، ولأجل حفظ المجتمعات وأسسها الإقتصادية والإجتماعية ، وإلى أن تجيء الفرصة المنطقية المناسبة لإلغاء الرق ، فإن الإسلام سيكون أول من يمسك بهذه الفرصة ويطبقها ، ولعل ما تجدر الإشارة إليه ، هو أن أشهر ثورة للعبيد في التأريخ الإسلامي كانت ثورة الزنج في العصر العباسي .