من الظواهر الخطيرة التي لم يألفها المجتمع العراقي قبل الاحتلال الاميركي عام ٢٠٠٣,النزاعات العشائريه المسلحة التي تفاقمت بشكل ملحوظ نتيجة الفوضى العارمة التي عمت العراق بعد حل مؤسسات الدولة من قبل الاحتلال, مما ادى الى فتح الباب لكل الهويات الفرعية لتعبر عن نفسها في ظل غياب أي ضابط وطني أو قومي تمثله الدولة, وأصبح اللجوء للعشيرة ضرورة حتمية وليس اختيارا بالنسبة للمواطن العراقي, بسبب ضعف المؤسسة الأمنية وتراجع القضاء, مما سمح بتغول النفوذ العشائري في مؤسسات الدولة والمجتمع, وأصبح السلاح اللغة الوحيدة بين الأطراف المتنازعة.
الواقع ان ظاهرة العشائر العراقية ودورها في الحياة السياسية ظهر منذ تأسيس الدولة العراقية ,حيث أصدرت قوات الاحتلال البريطاني عام ١٩١٦ قانون( دعاوى العشائر) وظل ساريا طوال العهد الملكي رديفا للقانون العام, فكانت الدولة العراقية هي الوحيدة التي تسير وفق قانونين, وعلى الرغم من إلغاء قانون دعاوى العشائر بعد ثورة ١٤ تموز واعتماد زعماء الثورة برنامج تحديث المجتمع وفق أسس بناء الدولة المدنية,وفي سبعينات القرن الماضي اتخذ النظام السابق قرارا بمنع المواطنين الإفصاح عن ألقابهم في خطوة كان من المعتقد أنها تساهم في انحسار تأثير الانتماء العشائري على ولاء الوطن, الا ان الحروب العبثية للنظام وانتفاضة اذار١٩٩١ ضد النظام الديكتاتوري السابق, هذه الأوضاع قادت الى فقدان النظام السابق لهيبته وتذمر المجتمع العراقي مما دفع النظام الى اللجوء لتنظيم العشائر لفرض سيطرته على المجتمع المنهك, وهذا ما ساعد على ظهور التنظيم العشائري وبقوة أكبر من خلال توفير الحماية لأفرادها وعادت العشائر لتكسب قوتها ونفوذها من جديد,واخذت العشائر تتولى مهمة القضاء القائم على الأعراف بدلا من مؤسسات القضاء العراقي.
استمر هذا الوضع بعد الاحتلال الاميركي , اذ زادت الانقسامات بين العشائر وحاول المحتل الاستفادة من ذلك الى اقصى درجة من أجل شرعنة وجوده لإنجاح مشروعه في العراق , وفي نفس الوقت أتاح النظام السياسي الجديد للعشائر العراقية فرصة تاريخية للمشاركة في الحياة السياسية بشكل مباشر, لا سيما وان اغلب الحكومات العراقية التي توالت على السلطة بعد عام ٢٠٠٣,كانت ضعيفة فلجات الى تقوية سلطتها بالاعتماد على الطائفية والعشائرية على حساب المواطنة وحقوق المواطنين, مما شكل خللا في ثقافة المجتمع الذي بات يلوذ الى العشيرة بدلا من الدولة لحل مشاكله في العمل او حياتهم الخاصة,
ان السياسات التي انتهجتها الحكومات العراقية من خلال سيطرة أحزاب الإسلام السياسي على المؤسسات ومنها القضاء والتعامل على أساس الولاءات الحزبية والعشائرية في كافة القضايا القانونية, مما أتاح للعشائر ان تزج ابنائها وشخصياتها في الأحزاب مما مكنها ان تصل الى مصدر القرار, وأصبحت العشيرة تلعب دورا اساسيا في العملية السياسية, بحيث لم يعد بإمكان غالبية المرشحين أن يفكروا بالوصول الى السلطة من دون الحصول على دعم مباشر وقوي من عشائرهم بحيث أصبحت العشيرة والمال أهم عنصرين في معادلة السلطة الجديدة في العراق.
النتيجة بأن هذه الممارسات والتوجهات الحكومية أسست في بناء مجتمع عشائري, وجعلت سلطة العشائر تتحكم بسلطة القانون, بحيث أصبحت قضايا الفصل العشائري تسجل بمحضر عشائري بعدها يتم تحويل نتيجة الحكم العشائري الى القضاء الذي يعتمدها في اتخاذ القرار على ضوء المحضر العشائري مما سيؤدي الى اعطاء التحكيم العشائري صفة قانونية تؤدي الى تعطيل القوانين النافذة.ويحول البلد الى بلد عشائر بدلا من دولة القانون.
إن غياب سلطة القانون وفقدان هيبة الدولة مقابل سلطة العشائر وقوانينها التي تحولت الى باب واسع للكسب غير المشروع,مما ساعد ذلك ضعف الإجراءات القضائية وانتشار الاسلحة بيد الافراد دون ضوابط او رقابة حكومية,هذا الوضع يستدعي تفعيل دور القضاء والاجهزة الامنية لحماية المجتمع وهذا يعتبر أهم المبادئ التي تقوم على أساسها بناء دولة المواطنة.