23 ديسمبر، 2024 1:14 ص

قانون التقاعد الموحد.. وتعاملنا مع ميزات النظام الديمقراطي

قانون التقاعد الموحد.. وتعاملنا مع ميزات النظام الديمقراطي

صادق مجلس النواب على قانون التقاعد الموحد الخاص بشريحة واسعة من الشعب , وفي طيات القرار مُررت فقرة خاصة بتقاعد النواب والرئاسات الثلاث , وهذه المقالة تسلط الضوء على ميزة في النظام الديمقراطي تنبهنا لها خلال متابعة حيثيات اقرار القانون التقاعدي .

إن الأنظمة الدكتاتورية لا تلجأ لهكذا اساليب للحصول على مكاسب سياسية أو مالية , بينما تضطر النظم الديمقراطية لسلوك هذه الاساليب حيث تدفع بمصالح طبقتها السياسية مع مصالح الشعب في حزمة واحدة للتصويت فتمارس نوعا من الاغراء مع المواطنين لتنال مكسباً, وهذا ما يميز النظام الديمقراطي عن الدكتاتوري , والنقطة الجوهرية التي تفصل بين النظامين هو صندوق الأقتراع في لحظة الانتخابات الدورية , بينما الحكومة الدكتاتورية لا تخشى من صوت ناخب , ولا من صندوق اقتراع , فليس هناك انتخابات يقرر فيها المواطن التصويت لجهة سياسية على حساب أخرى متأثراً بأداء الحكومة والبرلمان .

جميلٌ أن نكتشف ميزات النظام الديمقراطي , وهو اكتشاف مفيد أيضاً, ونحن لا ننتخب هذا أو ذاك لصلة قرابة تجمعنا , أو لعلاقة عاطفية تربطنا , أو لتوصية عثرنا عليها في نص قديم يوصينا بانتخابه , فالتصويت لصالح جهة او شخص يهدف لضمان حقوقنا كمواطنين , والنظام الديمقراطي يلتزم بتوفير الحرية والمساواة , أما القرابة والعاطفة والتوصيات العتيقة فهي قضايا اجتماعية لها مبحث آخر قد يتعلق بعلم النسابين , أو بالأدب الرومانسي الغرامي , أو بقصص وروايات تكهنية , ولأننا كائنات عاقلة فنحن ملزمون بوضع الشيء في محله , وكذلك الصوت .

حينما نجد مجلس النواب يستخدم اسلوب التورية فيقر قوانين لصالحنا كمواطنين ليتمكن من تمرير مصالحه ومكاسب أعضائه عبر استخدام طريقة الحزمة الواحدة التي تربط مصالحه بمصالحنا , فهذا يعني أن هناك فرقا مهما بين الديمقراطية وغريمتها الدكتاتورية , فالدكتاتورية ليست مضطرة لتغليف مصالحها بمصالح المواطنين لكي تمررها حسب الحزمة التي ذكرناها , بينما الديمقراطية تضغط على نظامها ليتبع اساليب وألاعيب وطرقا لإقناع المواطنين , وإذا قلنا بوجود خدعة بإسم الديمقراطية ؛ فإن الدكتاتورية غير محتاجة لهذه الخدع , إن الدكتاتورية تأخذ ما تريد بغض النظر عن رضا المواطنين أو امتعاضهم ورفضهم , وبعكس ذلك نرى النظام الديمقراطي يخشى المواطنين , يخاف من صوتهم لحظة الانتخابات الحاسمة , فإذا قررت أغلبية من المواطنين أن يطيحوا بالطبقة السياسية الحاكمة، فإنهم وبكل بساطة , يحرمونهم من أصواتهم , فيخسر الحاكمون مناصبهم ومكاسبهم … وهذا ما نريد الحديث عنه :

كما أن الحياة تتطور , والتكنولوجيا , والمفاهيم , فإن الأنظمة السياسية تتطور كذلك , فتظهر اساليب ومفاهيم جديدة مستحدثة , وقد يكون التطور ابداعاً سياسياً يمزج بين نظامين , تحت مسمى واحد , إذ يمكن أن نجد ملامح دكتاتورية مبطنة في النظام الديمقراطي , أو نشهد انفراجة ديمقراطية في النظام الدكتاتوري .

من متطلبات الديمقراطية التي من الضروري أن نتعلمها , نتدرج في فهمها , وعبر المعرفة والتعلم نزداد خبرة بها , ولا نضل أولئك الجاهلين غير العابئين بالديمقراطية ومتطلباتها وشروط تحققها , ومن شروط تحقق واستمرار الديمقراطية أن نتابع عناصر النظام الديمقراطي , ونتابع التشريعات والقرارات وعمل الحكومة , ونلتفت ( لأغراض التعلم ) الى اسباب كل سلوك سياسي , فنتساءل ونحلل لنفهم , نتساءل عن المسببات التي دفعت الطبقة السياسية الحاكمة لاتخاذ سلوك وقرار معين , لنصل الى اكتشاف ميزات النظام الديمقراطي التي لربما كانت خافية عنا لا سيما إذا كنا حديثي عهد بالديمقراطية .

لنتساءل :

لماذا أقر مجلس النواب قانون التقاعد الموحد قبل اقرار الميزانية ومجموعة من القرارات والتشريعات المهمة ؟؟

الجواب واضح , واضح جداً , ووضوحه يتلخص في تصريح لأحد النواب البارزين ( وهو رئيس كتلة ) أكد فيه أن عددا من البرلمانيين هددوا بعدم دخول جلسة التصويت على قانون التقاعد في حال عدم التصويت على تقاعد النواب .. وقال ايضاً أن شخصية سياسية حكومية متنفذة حشرت فقرة تقاعد الرئاسات الثلاث والدرجات الخاصة في قانون التقاعد قبل التصويت عليه …

نلاحظ أن تهديد الأعضاء لم يكن موجهاً للمواطنين , ولم تعلن تلك الشخصية السياسية للمواطنين رغبتها في حشر الفقرة المذكورة , وهذا ما نقصده بالميزات في النظام الديمقراطي .

أن هكذا نوع من التورية والتخفي وتجنب التصادم مع المواطن يفصح عن ميزة نحصل عليها من النظام الديمقراطي , إنها ميزة صوت المواطن , فهذا الصوت يهذب من وقاحة السياسيين , ويردع تطاولهم علينا , ويسبغ علينا أحتراماً أكثر , فالمواطن في النظام الديمقراطي محترم , والسياسي مجبر على أحترام المواطن وإلا راح ضحية حرمانه من التصويت له في مجزرة الانتخابات البيضاء , فليس هناك من قوة انقلابية إكراهية , بل قوة  للتغيير محترمة , وهذه ميزة النظام الديمقراطي . . .

صدحت خطب الجمعة واستطلاعات آراء المواطنين بأنتقاد فقرة تقاعد الرئاسات الثلاث والنواب , وعبرت الأصوات عن رفض الشارع لهذه الفقرة الانتهازية , التي وردت في القانون كشكل من الأبتزاز , وكأن مجلس النواب طالب بفدية من الشعب مقابل إطلاق قانون التقاعد , وعبر الخداع والألتفاف والمماطلة حصل البرلمانيون والرئاسات الثلاث على الفدية وتم تحرير رقبة القانون , وكم من قانون أزهقت روحه في دهاليز سلطة التشريع , ليُحرم شعب الحضارات والمسلات التشريعية , شعب حمورابي وأورنمو , من نعمة تلك القوانين المغفور لها .

لسنا متجاهلين ميزة النظام الديمقراطي التي توفر للشعب امكانية الضغط على الطبقة السياسية الحاكمة عبر حرية الرأي والتصويت , ولكننا نؤكد على مسألة جد مهمة , إذ أن الضغط لا يأتي كحتمية ترافق وجود النظام الديمقراطي , بل يكون الضغط نتاج فعل أتى به مواطن فعال وليس خاملا (( في حالات التمييز بين النظم الديمقراطية والنظم الدكتاتورية لا بد من أن يقدر النفوذ النسبي لكل من المواطنين والقادة . ويبدو أن خطة تصنيف < ارسطو > للأنظمة السياسية تقوم في الجوهر على أساس من عقد المقارنة بين < المقادير >النسبية من النفوذ , إذ أن التمكن من تصنيف أي نظام سياسي يتطلب معرفة من هو صاحب أكبر < مقدار > من النفوذ في النظام , وهل هو فرد أو قلة أو أغلبية & كتاب مدخل الى علم السياسة , ص 59 , عبد الرضا الطعان , صادق الأسود )) .

يتنافس المواطنون والقادة على النفوذ في داخل النظام الديمقراطي , ويحاول الطرفان الحصول على أكبر مساحة ممكنة من النفوذ على حساب الآخر , فالقادة يسعون لتكريس سلطتهم وتوسيعها وفرضها على المواطنين واخضاعهم للإرادة السياسية , ويجهد المواطنون للتخلص من الهيمنة السياسية المفرطة ويبذلون طاقة حركية لمزاحمة الطبقة السياسية الحاكمة ليكون الشعب – قدر الإمكان- هو صاحب النفوذ , ومع أن النفوذ أقل وطأة من الإكراه إلا أن للنفوذ والإكراه هدفا واحدا هو الفعل المنصب على السلوك الانساني بقصد التأثير فيه , ومواطنو النظام الديمقراطي يزاحمون القادة السياسيين ليتحقق للشعب نفوذ أكبر في صناعة القرارات والنظام , وهذا ما يقاومه القادة , وتستمر هذه العملية الشبيهة بالمخاض ولا تنتهي عند مرحلة , بل لربما تخف , ولكنها لا تنتهي , وعلى هذا الاساس يتطلب النظام الديمقراطي مواطنين – مساهمون – فيه , والمواطنون المساهمون هم الفعالون لا الخاملون , هم الفعالون عن وعي في النظام الديمقراطي , فالمواطنون الامريكيون نظموا مظاهرة ضد سعي الحكومة لإقرار قانون يخص البيئة , وهو بالتالي يمس الصناعة والشركات الصناعية الكبرى , ففسر المواطنون هذا المسعى على أنه يضر بعنصر الليبرالية في النظام الديمقراطي , وبالتحديد هو يشكل خطرا على النزعة الفردية في النظام الديمقراطي الرأسمالي , فاعتقد المواطنون أن تلك القوانين الحكومية ستضفي نوعا من التأميم الاشتراكي للصناعات متوقعين أن هذه العملية ستقوض نوعياً أسس النظام الديمقراطي الحر الغربي , ويبدو أن هؤلاء المواطنين عارفون جيداً بمعنى نظرية تحول الكم الى كيف التي أتت بها الماركسية ..

إن صراع النفوذ بين المواطنين والقادة السياسيين يُظهر وجه النظام الديمقراطي , وهو صراع إرادة , يخوضه المواطنون لأنهم يحملون ثقافة تمكنهم من المحافظة على النظام الديمقراطي , وهذه الإمكانية أفضل من إمكانية المواطنين الأقل ثقافة , وهنا توجب أن يتعرف مواطنونا على نوع النظام السياسي في بلدنا , ويثقفوا أنفسهم بهذا الخصوص , ويكتشفوا ميزات النظام القائم , أو ما فيه من ميزات , فيستغلوها لتحقيق مصالحهم , وأخذ حقوقهم , ولجم الاستبداد السياسي الذي يتحقق في حال كون المواطنين خاملين وقليلي الثقافة والمعرفة , وإلا لماذا يستبد مجلس النواب برأيه ويحشر فقرة تقاعد الرئاسات والنواب في قانون التقاعد الموحد مع أن للشعب , والدستور , والمؤسسة القانونية , رأيا آخر .

يتحمل المواطن الغربي نير النظام الرأسمالي لكي لا يقوم نظام آخر بدله , ولا شأن لنا بصحة المعتقد السياسي للمواطن الغربي , فنحن نهتم بالمعتقد السياسي لمواطننا العراقي , وأي النظم السياسية يختار , إذ نراه يتخبط بين عدة خيارات بينها بون شاسع يمزق حقوق ومصالح مواطننا , فهو يريد من النظام الديمقراطي أن يؤمن له حماية شعائره الدينية , الى درجة تعطيل البلاد في يوم الشعيرة , فيذهب المواطن الى صندوق الاقتراع ليختار ممثله البرلماني لأجل هذا الحق بغض النظر عن كفاءته ونزاهته , وهو يريد من النظام الديمقراطي أن يعطيه حقه التقاعدي كاملاً ولا يميزه كثيراً عن الدرجات الخاصة , وهو يريد من النظام الديمقراطي أن يكون بقرة حلوبا تهب الحليب من دون عناء , تهبه بكل بساطة وسلاسة , ولا يهم نوع البقرة , حتى وأن كانت محرمة بسبب كونها هجينة , أو مطعمة عضوياً عبر تزاوج صنفين , وقد يستخدم المواطن حليب هذه البقرة في إحدى شعائره , وهنا سيكون النظام الديمقراطي بالنسبة لكثر من المواطنين مجرد عنوان فقط , عنوان لا غير , ادعاء سياسي , يؤيده جهل المواطنين , والحقيقة تستبطن واقع نظام له شكل مغاير , وهذا ما عنيناه بالمزج بين نظامين ( وقد يكون التطور ابداعاً سياسياً يمزج بين نظامين , تحت مسمى واحد , إذ يمكن أن نجد ملامح دكتاتورية مبطنة في النظام الديمقراطي  ) .

أقر مجلس النواب قانون التقاعد وضمنه فقرة تقاعد الرئاسات الثلاث والنواب , وما زال كثر من المواطنين بعيدين عن اتخاذ قرار حول نوعية النظام الديمقراطي الذي يرغبون به , ولو كان المواطنون حاملين لثقافة تعرفهم بالنظام الديمقراطي ومتطلباته وميزاته , وينتخبون من يمثلهم على أساس كفاءته ونزاهته , لما ظهرت الطبقة السياسية المنقلبة على الدستور والديمقراطية وأقرت فقرة تقاعد اعضائها بمبالغ ضخمة على حساب الشعب وثرواته ومستقبله وإرادته .