في أعماق الطين، حيث تسكن الحكايات القديمة وتلوذ الآلهة بالنقوش، انحنى رجل بصبر النبوة وفضول العارف، يقرأ ما لا يُقرأ، ويستخرج من بين الحروف المسمارية ما خبأه الزمن من أسرار الإنسان الأول. ذاك هو طه باقر، العالم الذي لم يكتفِ بأن يكون منقبًا عن الآثار، بل جعل من كل كسر فخاري سرديةً، ومن كل رقم مسماري حكمةً، ومن كل رُقيمٍ سطورًا تحيي أممًا بادت.
ولد في الحلة سنة 1912، في حضن الفرات الذي تنعكس فيه ظلال بابل، وكأن الجغرافيا كانت تمهّد لصبيّها طريقًا نحو التاريخ المدفون تحت قدميه. نهل العلم في العراق، ثم حمل شغفه شرقًا وغربًا، حتى استقرت به المعرفة في جامعة شيكاغو، حيث بدأ طه باقر رحلته مع اللغة الصعبة، لغة الطين والحجارة والنقوش، لغة الحضارات التي صمتت آلاف السنين بانتظار قارئ فطن.
لكن طه باقر لم يكن مجرد عالم آثار. لقد كان شاعر الطين وراوي الأساطير، ذلك الذي أعاد “جلجامش” إلى الحياة، لا بترجمة جامدة، بل بنص أدبي ينبض بحزن الخلود وقلق المصير. لقد منح للملحمة روحًا عربية دون أن يفقدها جوهرها الرافديني، وأيقظ في ذاكرة العراقيين أن لهم مكانًا أول في بدايات الإنسان.
في المواقع الأثرية الكبرى من أور إلى نينوى، وقف طه باقر بين الأنقاض كأنه يسمع همس الملوك وأصوات الكهنة. قرأ الطقوس في معابد سومر، وفكّ ألغاز الشرائع في ألواح حمورابي، ورأى في النقوش المهشّمة خيوطًا تشكل نسيج هوية العراق العميقة. ولذلك لم يكن عمله محصورًا في التنقيب فحسب، بل أسس قسم الآثار في جامعة بغداد، وعلّم أجيالاً من الطلبة كيف ينظرون إلى التربة لا باعتبارها مادة خام، بل سجلاً للكرامة والعبقرية الإنسانية.
امتدت إنجازاته من المتحف العراقي إلى المجمع العلمي، ومن المجلات المتخصصة إلى مؤلفاته الرصينة، مثل مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة ومقدمة في أدب العراق القديم والمرشد إلى مواطن الآثار، وكلها تشهد على موسوعية فكره وسلاسة قلمه. لم يكن ينقل المعلومات بل ينفخ فيها الحياة، وكان يكتب لا لصفوة الأكاديميين فقط، بل لعامة القرّاء الذين أراد لهم أن يأنسوا بحضارتهم كما يأنس الابن بحكايات الجد.
يرى فيه المؤرخ عبد الأمير الورد “رمزًا للنهضة العلمية التي عرفها العراق في منتصف القرن العشرين”، ويضيف: “طه باقر لم يكن موظفًا في الدولة الأثرية، بل حاملًا لرسالة إنقاذ وطني لما تبقى من تراث العراق المطمور”. أما الباحث فوزي رشيد، أحد أبرز تلامذته، فقد كتب عنه: “كان أستاذًا فذًّا، لا يكتفي بتلقين المعلومات، بل يثير في الطالب روح التساؤل، ويعلمه كيف يفكر مثل عالم آثار لا مثل ناقل معلومات“.
ويذكر الدكتور سامي سعيد الأحمد، وهو من المؤرخين الكبار في تاريخ العراق القديم، أن طه باقر “أول من أعاد للسومريين صوتهم في العربية، وأعاد للعربية قدرتها على أن تنقل أساطير الرافدين دون أن تفقد سحرها القديم“.
رحل طه باقر في العام 1984، لكن أثره لا يزال يتردّد في كل نقاش علمي عن حضارة الرافدين، وفي كل محاولة لإحياء ذاكرتنا التاريخية. لقد كان هو قارئ الطين الذي استخرج من الأرض لغة الأجداد، وبعث فينا وعيًا بأننا لسنا عابرين في هذا المكان، بل نحن ورثة حضارات عظيمة، تنتظر منّا أن نرتقي إلى مجدها.
طه باقر… اسمٌ يُذكر لا كصفة مهنية، بل كمرآة لتاريخ العراق، وعينٍ رأَت ما عجز عن رؤيته غيره، وقلبٍ نبض بعشق الرافدين، وعقلٍ استحضر الأزمنة السحيقة ليصنع بها مستقبلًا معرفيًّا لا يموت.