18 ديسمبر، 2024 6:59 م

إن الأنجلوسكسونيين ينتقلون بخططهم للمرحلة الثانية للهيمنة على العالم لعقود قادمة، ولو إن هذا الطريق يتضمن مسح دول، وتجويع أمم، وإبادة أقوام عن بكرة أبيهم في سبيل صناعة النظام العالمي الجديد، فإنا إن فتحنا خريطة العالم اليوم، وأردنا أن نشير للدول التي تقف في وجه الإمبريالية العالمية، فلن نجد سوى دول لا تتجاوز عدد الأصابع من ضمن ١٩٥ دولة! في حين كان هذا الرقم بالعكس بالستينات والسبعينات من القرن المنصرم، فقد تم تحطيم الدول المناوئة للغرب منذ ذلك الحين بالقوة الناعمة أو العسكرية، وجاري ضرب الباقي منها.

يمكننا أن نفهم الأمريكان جيدا حين نرجع لعقيدتهم المسماة “عقيدة وولفويتز”، وهذه العقيدة أتت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، ومن ضمن ما تنص عليه هو الإبقاء على سيادتهم المطلقة “هدفنا الأول هو منع عودة ظهور منافس جديد، سواء على أراضي الاتحاد السوفيتي السابق أو في أي مكان آخر” وكذلك محاولة ثني الدول القوية الأخرى عن التفكير بخلق نظام عالمي جديد “يجب على الولايات المتحدة إظهار القيادة اللازمة لإنشاء وحماية نظام جديد يحمل وعدا بإقناع المنافسين المحتملين بأنهم لا يحتاجون إلى التطلع إلى دور أكبر أو اتخاذ موقف أكثر عدوانية لحماية مصالحهم المشروعة في المجالات غير الدفاعية، ويجب أن نحاسب مصالح الدول الصناعية المتقدمة بشكل كافٍ لثنيها عن تحدي قيادتنا أو السعي إلى قلب النظام السياسي والاقتصادي القائم، ويجب أن نحافظ على آليةٍ لردع المنافسين المحتملين حتى من التطلع إلى دور إقليمي أو عالمي أكبر”

عند قراءة المعطيات هذه، يتضح أن الخطة الجديدة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، هي تكوين نظام يظل فيه الأنجلوسكسونيون هم قادة العالم حتى بالنسبة لحلفائهم الأوروبيين، وهذه العقيدة تحتاج إلى جهد جهيد خصوصا في وقت تنظير هذه العقيدة، لأن الكثير من الدول مستاءة من الاستعمار الغربي بما نهبته من ثرواتها، ولكن إن كان وراءك الجدار وأمامك أمريكا فما عسى بعض الدول المتناحرة المتفككة من هنا وهناك فعله دون داعم للسلاح في حال أي عدوان غربي.

بعد سقوط الاتحاد السوفيتي العدو اللدود لأمريكا الذي تصوروا أن قيامه مجددا بهذه السرعة يعدّ أمرا صعبا للغاية لأسباب اقتصادية وسياسية عديدة، وأنه من الممكن أن تكون روسيا مثل اليابان وألمانيا راضخة بعد خسارتها، وترضى بما هو مقسوم لها في هذا العالم، وتأكد هذا حين فُككت الكثير من القطع الاستراتيجية السوفيتية في محاولة لتقليم أنيابها، ولكن انهيار السوفيت صادف وجود زخم هائل من الصحوة الإسلامية والعربية، فأفغانستان ولو أنها قامت بدعم غربي لضرب السوفيت سابقا إلا إنها استطاعت أن تعيد لأذهان الكثير القدرة على التجمع ونسيان القومية في سبيل قضايا أمتهم، وصدام حسين الذي بكاريزما شخصيته يستطيع أن يثير الحشود العربية، وتعد هاتين الدولتين مكابحا في وجه الإمبريالية بالمنطقة.

حسبما أرى إن الخطة الأولى تضمنت وأد المارد القادم في مهده، وهي الجموع العربية والإسلامية الآخذة بالتشبع بالإسلام بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ولم تعد جاهلة كما كانت في بداية القرن العشرين، وخوفهم من أفغانستان، هو خوف من تأثيرها على الدول الفتية الكثيرة المنقسمة من تركة الاتحاد السوفيتي، كي لا تحتذي حذوها في الاتجاهات، فتصبح لهم شوكة في وسط آسيا، فكان لزاما الدخول في حرب فورية لوقف هذا المد قبل أن يستفحل، وهذا ما عناه بوش بقوله “إن حربنا ضد الإرهاب، تبدأ مع تنظيم القاعدة، ولن تنتهي عنده.. على الأمريكيين ألا يتوقعوا معركة واحدة، بل حملة لم يسبق لها مثيل”، فبدأوا الحرب ضد الطرف الأضعف ثم الانتقال للطرف الأقوى، كسياسة عنترة حين يضرب الضعيف ضرب تقصمه لنصفين يخر لها قلب الشجاع، فيتقهقر البقية لما رأوا من هول الضربة، ولو كان الطرف الأول أقل منهم بمراحل، فصنعوا حكاية أحداث ١١ سبتمبر ومسلسلات هوليود ليغذّوا الكراهية ضد المسلمين، وأنهم الآن العدو الأخطر في حال صعودهم، لتعطيهم شعوبهم الولاء التام في حربهم كما فعلوا حين كانوا في حرب باردة ضد الشرق.

حين ضُربت أفغانستان والعراق فُقدت المكابح التي تحمي من السير نحو هاوية التطبيع والليبرالية، وكان عنوان الضربة “إياك أعني واسمعي يا جارة”، فخيطت الأفواه، وتجمدت الدماء ببقية الدول التي كانت تحمل ذرة من الطموح للخروج من عباءة الغرب، لذلك تخلى القذافي عن السلاح الكيماوي خوفا من تكرر مصير صدام، ولكن حين رأت أمريكا إن نجاحها أتى بخسائر بشرية واقتصادية مكلفة راجعت استراتيجياتها، لأن هناك قوى اقتصادية آخذة بالظهور، ولا يمكن أن تنفق كل هذا الإنفاق، وترهق اقتصادها مع وجود طرق أقل تكلفة، فَقُرّر إكمال المشروع بما حدث في الربيع العربي الذي قَدَر الغرب والصهاينة من خلاله أن يخترقوا هذه الثورات، ويسيّروها نحو أهدافهم المنشودة، عن طريق بعض الذين تربّوا على أيدي مخابراتهم أو بما استدرجوهم به كما استُدرج الشريف حسين حين وُعِد بحكم الجزيرة العربية، وهذا يظهر جليا في النتائج التي نراها اليوم، فقد سقطت محاور مهمة كانت لا توالي الغرب في كل شاردة ووادرة، وهي ليبيا وسوريا والسودان واليمن زائد خسارة ثقل مصر على الساحة الدولية، ومن خلال كسر سد العراق أَشعل الصهاينة حربا طائفية كما هو موجود في خططهم المكتوبة التي عُرضت حتى قبل غزو العراق، وهدفهم أن تصل العداوة لحد أن يرى الطرفان الصهيوني صديقا لو ساعده في قتل الآخر، وهذا ما تم فعلا ونراه للأسف، ثم تَبَعَ هذه الحروب حربا فكرية قوية تستهدف آخر معقل للإلتزام، وهي جزيرة العرب، وجاري العمل على ضرب قيمهم ونخوتهم وكرامة نفوسهم ليضمنوا خضوعهم وتدجينهم، وبذلك تُضرب الصحوة الإسلامية في عرينها، ولو إنها أمة ولاّدة لا تموت، وما بعد الكسوف إلا الإشراق.

بعدما تأكدوا من نتائج الخطة الأولى، صوّب الأنجلوسكسونيون عيونهم على الصين بعصر ترامب في حين إنهم لم يغفلوا عن روسيا، ولكن سعيا منهم لتحييد الصين في الخطة القادمة ضد روسيا، وهذا ما حدث جليا، فالصين ليست كروسيا، فمن خلال اطلاعي هي لم تكن دولة عظمى توسعية، بل كانت دولة تجارية منذ القدم، وهذا ما تتقنه، لذلك الصين لا تتعجل على سيادة العالم، ولا يرهقها عدم حدوث ذلك قريبا، وهذا ما رأيناه من عدم استبسالها على ضم تايوان القريبة منها رغم إمكانياتها الهائلة، وَمرَّ إذلال بوليسي لها بزيارة تايوان دون رد، وهي التي هددت ووعدت إلا إنه اتضح إنه جعجعة بدون طحين، وهذا بعكس روسيا التي تستعجل أن تكون مثل أباها الاتحاد السوفيتي، فضمت القرم في مرحلة صعبة وهي أضعف اقتصاديا من الصين بمراحل، والمال هو عصب الحرب، وذلك أن بوتين لا يرغب في أن تمضي حقبته دون إرجاع روسيا للصدارة العالمية، خوفا أن يَنسى السُّلاف أحلامهم، ويركنوا للكسل والخمول والتبعية، لذلك نجد بوتين يعزز صدارة المقاتلين القدامى حتى يُلهب في قلوب الفتيان وهج العظمة، ولأن روسيا هي الأخطر حاليا خصوصا إنها تمد أذرع أنابيبها لأوروبا، لتصبح صاحبة سلطة وقوة ناعمة عليهم، وهذا ما يَعِدُ بفتح شراكاتٍ جديدة وولاءات مع تجار من داخل هذه الدول، وهذا الذي سعت أمريكا لقطعه نهائيا، لذلك سمعنا عن تفجير خطوط الغاز الروسية التي تغذي أوروبا بلا رجعة، وهذا يضر بالألمان بشكل رئيسي، وهذا مطلب وارد أيضا، لأن على أوروبا أن تظل خاضعة للتهديد الروسي لكي تُلقي بثقلها للحضن الأنجلوسكسوني، وإلا كيف نفسر خروج بريطانيا قبل هذه الأزمات؟ ومن سوف يساهم في سد فاتورة خسائر الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وأمريكا تغذيان الصراع؟ فسعوا لخلق جدار ناري حول روسيا، مثلما فعلوا ذلك رويدا رويدا حول الصين من خلال اليابان وكوريا وتايوان والفلبين وإستراليا وغيرها، مما جعل الصين لا تفكر إلا بتحديات حدودها حاليا، لكي تظلَّ أقصى حد تفكر به هو محيطها، فَدعمَ الغرب الانقلاب بأوكورانيا بعدما تمكّن من زرع أركان قوية بالجيش تَضْمَنُ أَنّ الإنقلاب لن يفشل، ثم قاموا بالإشراف على تدريبهم وإمدادهم بخطط واستراتيجيات تحاكي الصراع مع الروس، ولكي يُغروا الروس لهذه الحرب لم يقوموا بتسليحهم إلا بعد دخول روسيا للحرب، ثم التطور في تسليحهم حتى ينهكوا روسيا، وبذلك تضطر روسيا لحشد قوات أكبر نحو الشرق ولكن لن يقف الأمريكان على هذا، وسوف يشعلون مجددا حرب أذربيجان وأرمينا وطاجيستان وقارغيستان زائد ما ستفعله كوريا واليابان على حدودها في أقصى الشرق، وسيثيرون المشاكل بقرب كالينجراد قرب بولندا، وسيتحرشون بصربيا كذلك، وهناك تحركات في ألاسكا وأخرى في القطب الشمالي لتشتيت الروس في كل وجهة وصوب، فكيف سيواجه الروس كل هؤلاء بلا حليف بعدما قام هؤلاء بقطع جنحان روسيا قبل أن تصل لقوتها هذه وتدرك حجم ما يُحاك لها؟

نظريا لا يستطيع الروس بمعداتهم وتعداد سكانهم كسب حرب تقليدية ضد دول عظمى مشتركة، واقتصاديات تفوقها بمراحل، ووكالات مخابرات متعددة وأقمار تجسسية تصل ٢٠٠ حسب أحد التقارير، وطائرات التجسس الخاصة بأمريكا والناتو في تحليق مستمر حول الحدود لكشف حتى الطير بالسماء والمكالمات بقعر الأرض، بذلك لا تستطيع أن تضمن عمليات الإلتفاف ولا عمليات المباغتة، ومن هنا نرى ضرب خطوط الإمداد بشكل مستمر وهو ما أفشل الدخول لكييف، وحتى حين خروج الطيران الروسي من مواقعه يُبلغ الأوكران بمكان سيره لمحاولة قنصه أو إخفاء الأسلحة المهمة قبل أن تكون هدفا للطيران هذا، لذلك ببداية الحرب اضطر الروس لاستنزاف صواريخ إسكندر وصواريخ كاليبر لضرب أهدافهم، وحتى بالنسبة لجودة السلاح الجديد وتطويره يعود لمستوى الإنفاق على الجيش، وكما نعلم أن الإنفاق على الجيش الروسي لا يساوي شيئا أمام الإنفاق الأمريكي، فكيف بكافة دول الناتو وغيرهم؟ وأرى إن هذه الحرب ستنتهي بقنبلة نووية روسية انتقامية بأوكورانيا يتبعها رد قاصم من طيران الناتو لضرب أساطيل ومطارات حساسة بروسيا للتأكيد للعالم إن هذا الأمر لن يمر بسلام، وهنا لا ندري رد موسكو مجددا، هل ستتوقف الحرب حين نصل لمرحلة اسمها شفير الهاوية، أم نصل للهاوية نفسها!

إننا نعيش على أعتاب حرب ستغير وجه العالم إن قدرت روسيا على الصمود عن طريق دعمها للحلفاء الذين يرغبون بعالم يقدرون أن يقولوا فيه لا لمن يستغلّهم، وإلا فإن الإمبريالية ستمضغ العالم مضغا بعدها، وستقول الصين “أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض!” والغريب أن الروس هذه المرة هم في الجانب الديني أقرب من الغرب المتجه نحو الإلحاد! وهم أكثر محافظة على قيمهم، وهذه المعادلة كانت بالعكس أيام الإتحاد السوفيتي.