الفريق الركن عبد الغني عجيل الأسدي الذي يشغل قائد قوات مكافحة الإرهاب الآن ، كان آمر كتيبة دبابات الأندلس برتبة رائد ثم ترّقى حتى أصبح بعد سنوات برتبة عقيد ركن وتسنم قيادة اللواء المدرع الرابع والثلاثين ، ضابط يفيض إنسانية فهو يعشق متابعة مباراة كرة القدم ومشاهدة المسرحيات وكان يولي عناية خاصة للرياضيين والفنانين من جنود كتيبته ، وحدث ان الجندي والفنان المسرحي عدنان علوان لم يعد من إجازته حتى مضت شهور على غيابه ، فأرسل أبا زينب من يقنعه بالعودة وسيشطب هروبه ، لكن علوان قرر الهروب من البلاد ، ولست متأكداً إن كان هو من ظهر بعد سقوط الطاغية كمخرج مبدع للأناشيد الحسينية التي قدّمها الرادود الحسيني المشهور باسم الكربلائي وربما الأمر لا يتعدى تشابه أسماء ، جمعتني بأبي زينب حكاية مضى عليها أكثر من عشرين سنة عندما كان آمر لوائي المدرع الرابع والثلاثين ” صقر قريش ” في حرب إيران ، وجدت من المناسب ان تتعرفوا عليها ، ومنها ستعرفون حقيقة هذا الرجل
الوطني من رأسه حتى أخمص قدميه .. عام 1987 في صحراء ” اللحيس ” وصلت الى ” كرفان ” شبه حديث كان يقف عند بوابته احد جنود الحماية ببِذْلة زيتونية أنيقة وحين لمحني تقدم نحوي بهدوء وقال موبّخاً: إبتعد بسرعة .. قبل ان يراك آمر اللواء .. أجبته بإرتباك احمل رسالة له .. تنفس الجندي براحة .. وأشار برشاشته الى خيمة خلف “الكرفان “وقال بلطف انتظر هناك .. السيد الآمر مشغول الآن .. ثم سألني بفضول ممن رسالتك ؟ رددت عليه بثقة هذه المرّة .. من رجل له صلة صداقة مع آمر اللواء .. لم يدم انتظاري طويلا .. فسرعان ما جاء جندي الحماية ودعاني للدخول .. صفعت ارضية ” الكرفان ” بحذائي المدني ورفعت كفي للتحية .. بالطبع كنت ارتدي ملابسي العسكرية تلك التي تركتها في شقة أختي بعد هروبي الى الشمال ومن حسن الحظ انها ظلت تحتفظ بها على الرغم من وصيتي لزوجها بالتخلص منها .. كانت ملابسي دبقة مازالت تحمل رائحة تلك الأيام .. ها انا اقف امام آمر اللواء العقيد الركن ” عبد الغني عجيل ” الذي يجلس خلف مكتبه منشرحا .. مما طرد نصف الخوف عني .. وتجرأت لأضع الرسالة امامه وتراجعت الى الخلف الى حيث مكاني .. كنت ما ازال واقفا بينما راحت عيناه
تتابع سطور الرسالة بتؤدة .. ورفع رأسه باسما نحوي .. وقال بحنان أربكني.. انا اشكرك لأنك اوصلت لي رسالة من أستاذي .. وأشار الى أريكة من القطيفة الخضراء .. تفضل اجلس .. فرح خرافي ممزوج بإرتباك عنيف .. هل من المعقول ان يكون إستقبال الهارب من الجيش بهذه الحفاوة ؟ وذهبت بي الظنون ان العقيد الركن سيطلب لي شايا .. لكن ذلك لم يحدث .. كانت لدى آمر اللواء رغبة بمواصلة الحديث عن كاتب الرسالة حيث قال بحرص .. لقد كان فهد الأسدي من أفضل الأساتذة بالجبايش .. عرفت من رسالته انه صار محاميا .. حمدا لله .. فهو يحب الناس .. انا يا أخي العزيز تلميذه .. ولذا اعتبر مشكلتك منتهية .. لم تقل لي كيف عرفته ؟أجبته بهدوء .. سيدي تربطني به صلة قربى .. وأنا اكتب الشعر ايضا .. تنبه لأجابتي الثانية بشكل لافت .. بل شعرت ان إهتمامه بوجودي قد أصبح أكثر.. فشجعني ان أقول .. سيدي ..كما تعرف انه مازال يكتب القصة .. وو .. قاطعني بهدوء .. المهم انا لا أرد لأستاذي طلبا .. أنت في اية كتيبة ؟
– كتيبة دبابات اشبيلية .. سيدي ..
رفع الهاتف وقال بحزم لجندي البدّاله كما يبدو :
– اطلب لي المقدم امين ..
كان ذلك الأسم هو لآمر كتيبتي .. وأغلق الهاتف ، ماهي الا ثوان حتى سمعت الهاتف ينق كضفدع ، رفعه من جديد وبصوت رخيم قال : الله يساعدك .. سيصل لك احد الجنود من قبلي كان هاربا من كتيبتكم .. إمنحه اجازه لمدة اسبوع .. ها .. لا يهم .. بعد ان يعود من اجازته سنتفاهم بشأن هروبه .. مع السلامة اغلق الهاتف .. وسألني دون مبالاة : – كم كان هروبك ؟ شعرت بالحرج والخجل ووجدت لساني يمارس المكر بمهارة تلك اللحظة والحقيقة ان هروبي من الحرب كان ستة شهور لكني اجبته كاذبا : – ثلاثة شهور سيدي .. – اذهب للكتيبة الآن واستلم اجازتك ولا تنس تحياتي الى استاذي فهد الأسدي .. مع السلامة اخي .. صفعتُ بحذائي ارض الغرفة بعنف هذه المرة وخرجت من الكرفان .. النشوة تدغدغ خلايا روحي .. لم اتوقع هذه النتيجة الباهرة .. يا لروعتك يافهد الأسدي .. لم يخبرني ان العقيد الركن كان تلميذا عنده في مدينة الجبايش وقد كتب رسالة تقطر إنسانية يأمل بها مساعدتي ، أجل هذا هو الفريق
الركن عبد الغني الأسدي .. عسكري من طراز خاص تكتظ بقلبه إنسانية لاحدود لها وشجاعة نادرة .. هي شجاعة العراقيين الذين يهابهم الموت في ساحات الوغى [email protected]