في يوم من الأيام، كنت أعيش طفولتي في ذلك البيت الطيني في قرية بعيدة عن الحضارة المدنية ومتطلبات العصرنة الحديثة، ولا أملك فيها سوى تلك الأمنيات وأحلام اليقظة التي كانت بعيدة المنال من حيث تحقيقها… أمنيات طفل يعيش مع أحلامه الوردية في عائلة فراشها القناعة والصبر وغطاؤها الحرمان والفقر.
كل شيء هناك ممنوع لأنه غير موجود ومن الصعب على العائلة توفيره…
حتى ما نشاهده من صور الفواكه في كتاب القراءة الخلدونية نعرفه بالنسبة لنا مجرد صور ورقية، ولكنه في الواقع لا يمكن أن نراه أو نلمسه بأيدينا أو تتذوقه ألسنتنا… هكذا كانت الطفولة تتسابق مع أيام الحرمان ويسير أمامهم الفقر بكل مسمياته القاسية…
طلاب أو تلاميذ كما يسمينا المعلم، لا نمتلك ثمن الحذاء الذي نلبسه في أرجلنا ليساعدنا ويحافظ على أرجلنا من تقلبات الأحوال الجوية…
كل شيء كان غير متوفر إلا الإرادة، فإنها كانت معنا في كل الأوقات. في الصباح الباكر في فصل الشتاء البارد وأجوائه المتجمدة أحياناً، وفي ظهيرة ليالي القيظ الحار وشمسه الساطعة ونحن نقصد المراعي لرعي أغنامنا التي تعيش معنا وتعتبر أحد الموارد الاقتصادية المهمة لعوائلنا…
ما أقبح الفقر وما أجمل الفقراء وأنت تسمع كلماتهم وتشجيعهم لأبنائهم بالصبر وتحدي الظروف الحياتية القاسية ومواصلة التعليم في المدارس من أجل الحصول على أعلى الشهادات والمراتب العلمية والوظيفية، رغم أنهم كانوا من الطبقات الفقيرة التي لا تعرف القراءة والكتابة ولم يستطيعوا في حينها الدخول إلى المدارس ومواصلة التعليم فيها…
هكذا كانت معرفتنا بالفقر متواجدة في بيوتنا، يعيش معنا ونتقبل كل تفاصيل ومفردات ما يعنيه هذا الاسم لأننا لم نكن نمتلك البديل ولم نكن أصحاب قرار في تغيير ذلك الواقع المر…
الآباء والأمهات لم تعنيهم مظاهر الحياة غير الموجودة في بيوتهم بشيء، فلقد كانوا يمتلكون من القناعة الشيء الأكبر والكثير لمواجهة الصعاب…
لم نرَ في تلك الأيام أن النساء تفكر بحاجاتها الشخصية أكثر من تفكيرها ومشاورتها الدائمة مع الرجل من أجل توفير المواد الغذائية لعائلتها والمحافظة على تلك المواد والتصرف بها وفق المعقول وبطريقة نظام اقتصاد عائلي متشدد، فالتبذير ممنوع جداً والمقاييس في الطبخ غير قابلة للزيادة وما يتبقى من وجبات الأكل في الغداء لابد أن يكون وجبة العشاء القادمة…
نعم، إنها قوانين عائلية فرضتها بقوة مفردات اللاشيء المتولدة من الفقر الشديد في تلك الظروف…
حتى وسائل التدفئة البسيطة كانت لها أوقات معينة حتى نجلس أمام تلك المدفأة البسيطة التي تجدنا نتجمع حولها ونحن نمد أيدينا باتجاهها لنحصل على بعض الحرارة لتلك الأجسام التي تقاوم الطبيعة القاسية بكل فصولها وتقلباتها الجوية…
نعم، لقد كنا هناك في يوم من الأيام في تلك البيوت الطينية وفي تلك القرية ومع أهلها الطيبين وسط ذلك الواقع الفقير…
وإلى لقاء آخر… صباح الخير والعافية…