18 ديسمبر، 2024 11:14 م

في نقد مرجعية الخطاب السلفي المعاصر

في نقد مرجعية الخطاب السلفي المعاصر

1 ـ صَوْبَ اِكْتِشَافِ المَرْجِعِيَّةِ :
إن الخطاب السلفي (وأقصد بالسلف هؤلاء المفكرين ورجال الدين المعاصرين وليس المعتقد الديني والتراث النبوي للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام) مازال يرى نفسه في معركة ضد الآخر والآخر بالنسبة له ربما المختلف أيديولوجيا رغم الاتفاق العقيدي ، أو الآخر المختلف سياسيا ، وربما أيضا يستحيل في كثير من الأحايين المسيحي فقط ، فالنصوص التي تعكس فكر هؤلاء تكشف عن مواجهة محددة للغرب الممثل في صورة مسيحي الداخل، وهي مواجهة تنظر إليه باعتباره معتد غاصب متنمر للإسلام وللمسلمين في كل مكان، ومن ثم يلزم محاربته والتصدي له. كما أن المثقف السلفي الذي بنى أفكاره بدءاً من فتاوى ابن تيمية انتهاءً بفقه النفط الخليجي ينظر إلى الغرب أو كل ما هو ليس بإصدار عربي باعتباره استعماراً.
لكن مفهوم الجهاد هو مصطلح مهيمن في الخطاب السلفي ولولا أن المساحة تضيق لسردت أسماء الكتب المعاصرة التي تتناول قضية الجهاد ضد الغرب وكأنها معركة الإسلام الحاسمة والفاصلة في هذا القرن، الذي ينبغي فيه أن نعمل بجدية لملاحقة من سبقونا في العلم والتكنولوجيا وربما الفكر أيضاً.
والناظر بروية للخطاب السلفي (الذي يرى الإصلاح هو مسألة الرجوع إلى الأصل أي ما كان سبباً في الصعود) يستطيع بسهولة أن يحدد عناصره وملامحه ، فهو لا يخرج عن قضايا محددة، فهو تارة ينتظر جديد المؤسسة الدينية الرسمية من أخبار وفتاوى ومحاضر اجتماعات وتصريحات ، حتى ينصب نفسه مدافعا عن الإسلام الذي هو في الأساس في حماية مطلقة من الله، فما انطلقت بيانات تتعلق بالنقاب وجواز التبرع للكنائس وأحكام التعامل مع البنوك الأجنبية وشركات التأمين، وأخيراً انتشار الزوجة الصينية بالأسواق. حتى نجد أقطاب الخطاب السلفي يفتشون في أوراقهم ودفاترهم فيستندون إلى فكر رجال نحسبهم على خير أولاً ، لكنهم ليسوا بمحمد (عليه الصلاة والسلام) ولا هم بخلافة الراشدين بمقربة.
ونجدهم تارة أخرى يدغدغون مشاعرنا بنصوص الرقائق التي ربما تنتهي بسامعيها إلى التسليم بقيم تبدو في ظاهرها إيجابية وفي مضمونها تغدو سلبية ، في الوقت الذي نحتاج إلي تدعيم ونشر قيم العمل والإنتاج، وقبول الآخر طوعاً أو قسراً أو محبة أو كراهية، المهم أن نقبله.
وفي الوقت الذي يصر أنصار هذا الخطاب أنهم يكسبون أرضاً جديدة في ميدان الفكر والحوار ، أؤكد أنهم يخسرون أراض أخرى كثيرة. فهل بالجانب الشكلي الخارجي سنستعيد الحضارة والهوية، ولماذا يصر الخطاب السلفي أننا فقدنا حضارتنا وهويتنا، وإذا كان أنصار هذا الخطاب يؤكدون في كل لحظة على أن الماضي هو المرجعية التي ينبغي أن تحكم سياسات البشر، وفي هذا تعصب ديني قد يفسد الدين الحقيقي.
وأذكر بما فعله رسولنا الكريم (عليه الصلاة والسلام) يوم صلح الحديبية حينما تنازل عن كتابة بسم الله الرحمن الرحيم في أعلى المعاهدة، هل في ذلك فقدان للحضارة والهوية ؟، وهل حينما محى الإمام علي بن أبي طالب كتابة البسملة فقد هويته وحضارته؟ أم أن لأنصار الخطاب السلفي ماضياً آخر غير الذي نعيه ونفهمه؟ .
ولأنني انتقدت ظاهرة التعميم فيما سبق، فأنا لا أزعم أن الخطاب السلفي المعاصر يخلو تماماً من فكرة التنوير والاستنارة التي هي جوهر التسامح وقبول الآخر، ولكنه يقترب من فكرة التنوير بقدر من الحذر والحيطة الذي يشوبه الغموض في التناول والمعالجة. وإن كان البعض سلفيين بفضل عوامل متنوعة، فأنا سلفي أيضاً، لكن بحكم الاختيار والاصطفاء، أليس الإمام الشيخ محمد عبد رجل التنوير الديني بلا منازع رجلاً سلفياً ينتمي للماضي. ولكن إذا حدثت أحد السلفيين عن الإمام محمد عبده، فهو (في نظرهم) إما فاسق ، أو عميل، أو متاجر بالدين، وهناك من حضرت له خطبة بالمسجد يكفره.
والشيخ الإمام يمثل نموذجاً نهضوياً لإمام الدين المستنير ، ولفظة النهضوي تثير غرائز إخواننا السلفيين نحو الهجوم على الشخص والكلمة ، فهي في نظرهم تعني النزوع وراء سطوة الحداثة ورفض التراث بجملته، وهذا مخالف تماماً لطبيعة الكلمة والدلالة. إلا أن النهضة والنهضوي والاستنهاض وكل الكلمات المنحوتة من لفظة نهض لا تعني تقويض البناء التراثي السلفي مطلقاً ، بل هي إشارة عميقة إلى هضم التراث وتناوله بالتحليل وجعله منطلقاً وقوياً للبناء والاستعلاء المستقبلي وهو ما يجسده الإمام محمد عبده كليةً.
وأقول لهم، لا بد من إعادة النظر إلى فكرة التنوير في الخطاب السلفي ، فمن العبث النظر إلى الدين على أنه تهديد للحريات، وبالتالي تهديد للتنوير، أي العقل والعلم معاً، فأكاد أجزم أن معظم النصوص التي أطالعها حديثاً تتضمن خرافات ، والخرافة بعينها تجد انسجاماً في الأفكار الدينية ، وليس المعتقدات الدينية، لاسيما الموضوعات التي تتعلق بالأخلاق.
إن جوهر الخطاب السلفي لا يقبل مجرد فكرة الاستماع إلى إمكانية الجمع بين الماضي المرجعي والواقع الفعلي المعاش الذي يتسم بالمعرفة والمتغيرات الوافدة الثقافية ، وهو خطاب أحادي ، فعجباً ونحن في مصر ندعي أن الإسلام هو دين الأغلبية (وهو في الحق ليس ادعاء بحكم البيانات والإحصائيات) ومع ذلك يصر الخطاب السلفي في نصوصه المعاصرة وبرامجه الفضائية الفراغية أنه يتحدث لقلة فقط، وأنا لا أزعم بل أكاد أجزم بأن جميع البرامج الفضائية الدينية لا تحاول الاقتراب من فكرة الحوار مع الآخر، بل أعجب من ذلك أن بعضها راح يشكك في إخلاص الأقباط للقضية الوطنية المصرية، وأنهم دائماً عملاء للغرب، أو للاستعمار كما يزعمون.
ومن هنا أشير إلى أن المسلمين طوال تاريخهم الطويل لم يظلموا ذمياً أو كتابياً ، بل إن الأمر كان يوجه لجيوش المسلمين وعدم هدمها أو الإساءة إليها كما أن أصحاب الملل الأخرى ارتقوا مناصب مهمة في كثير من الدول والإمارات الإسلامية دون تعصب ضدهم أو إساءة إليهم، وأن المؤسسات التعليمية والمكتبات الخاصة لهذه الملل استمرت تؤدي عملها في ظل الحضارة الإسلامية دون مصادرة لها أو تعطيل لعملها.
وقد حدد لنا ديننا الإسلامي الحنيف ملامح علاقتنا بالذميين منها سماحة الإسلام تجاه أهل الذمة في اختيار عقيدتهم، حيث يرفض الإسلام أن يكره الناس على الدخول في عقيدة لا يرتضونها، فالإنسان بعقله الذي وهبه الله إياه ، عليه أن ينظر أي طريق يسلكه من طريقي الهدى والضلال، وعلى المسلمين أن يبلغوا رسالة الإسلام إلى من عداهم، فإما أن يهتدوا ويختاروا طريق الخير وهو طريق الإسلام، وإما أن يختاروا الطريق الآخر.
ولا زلت أحسد المنتمين للخطاب السلفي علي هذا الحضور الشرعي وغير الشرعي أيضاً داخل إحداثيات السياق المجتمعي والمشاركة بصورة علنية معظم الوقت وسرية بعض الأحايين في فعالياته بل وتأسيسها أيضاً. وهذا لا يشير إلي قوة الخطاب السلفي فحسب، بل وإلي قدرته علي النفاذ والتوغل بشراسة بين ثنايا طوائف وفئات المجتمع التي أصبحت مؤهلة تماماً إلي دغدغة مشاعرها بنصوص تراثية غير محققة أو لم تخضع إلي آليات التحليل والتأويل.
وعجيب ما رصدته بحضور كثيف وطاغٍ في الخطاب الديني المعاصر، فهناك نبرة استعلائية غريبة، رغم أن الخطاب الديني في كنهه رسالة وقيمة إنسانية في الأساس، ولكن ما سمعته وقرأته من كتابات أكد لدي حقيقة هي أن الخطاب الديني السلفي الذي بات تائهاً بين التجديد والتطوير والتعديل يسعي إلي تأسيس درجات متعددة من القمعية والسلطوية، فصاحب الخطاب والنص لايزال يضفي علي نفسه صفة القاضي والمشرع والمفتي وصاحب الأمر والنهي والقمع علي المتلقي البسيط حتي يحول خطابه الديني إلي سلطة قمعية.
فعجباً ونحن في مصر على سبيل المثال ندعي أن الإسلام هو دين الأغلبية (وهو في الحق ليس ادعاء بحكم البيانات والإحصائيات) ومع ذلك يصر الخطاب السلفي في نصوصه المعاصرة وبرامجه الفضائية الفراغية أنه يتحدث لقلة فقط وهم المتفقون معهم في أيديولوجياتهم الدينية والمتوائمين معهم علي المستوي التنظيري وأحيانا الذين يجدون هوي في فقه الحالة المشهورين به، وأنا لا أزعم بل أكاد أجزم بأن جميع البرامج الفضائية الدينية لا تحاول الاقتراب من فكرة الحوار مع الآخر.
هذا الآخر ليس المختلف عقدياً مع هوية الخطاب السلفي، بل المختلف عنه من ناحية مصادر التكوين وإشارات السلوك الاجتماعي. ولقد نجح الخطاب السلفي المعاصر في ضمان بقاء انتشاره مستخدماً في ذلك أساليب الدعاية الخومينية عن طريق التسجيلات الصوتية التي سرعان ما تحولت إلي وجود مرئي طاغٍ، والناظر بروية للخطاب السلفي المعاصر (الذي يري الإصلاح هو مسألة الرجوع إلي الأصل أي ما كان سبباً في الصعود) يستطيع بسهولة أن يحدد عناصره وملامحه، فهو لا يخرج عن قضايا محددة، فهو تارة ينتظر جديد المؤسسة الدينية الرسمية من أخبار وفتاوي ومحاضر اجتماعات وتصريحات وربما زلات عابرة، حتي ينصب نفسه مدافعا عن الإسلام الذي هو في الأساس في حماية مطلقة من الله.
إن الخطاب السلفي بحاجة إلي عملية تثوير جذرية، وكلما قرأت الآية القرآنية التي تقول (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) أدركت علي الفور أننا أمامنا طريق طويل جداً لتغيير النبرة الاستعلائية للخطاب الديني، وأن قبول المناقشة وتقدير التنوع الثقافي دون استعلاء أو استكبار لهو أمر جلل بلا ريب .
وأن خطاباً مثل هذا لا يحمل سمة التسامح وتقدير التنوع الثقافي والفكري دون قمع أو قهر لا يؤدي يوماً ما إلي بناء أو نهضة، بل سيسفر عن أجساد تمشي علي الأرض لا هدف لها في الحياة أو منها. فكيف تنهض هذه الأمة ولايزال بعض الدعاة والأئمة يدغدغون مشاعرنا وأعصابنا بقصص تاريخية عن الصراع الإسلامي ضد قوى غيبية، وأنه لا فائدة ترتجي من الحوار مع الآخر المختلف فكرياً وثقافياً.
2 ـ ضَوَابِطُ الاِجْتَهَادِ :
يكاشفنا فضيلة الشيخ عبد الجليل عيسى ( رحمه الله ) والذي وصفه شيخ العصر وإمام القَرنِ الشيخ العالم فضيلة الإمام محمد متولي الشعراوي ( رحمه الله ) في تقديمه للجزء الثالث من كتاب ” التيسير الميسر للقرآن الكريم ” فقال : ” إنه أستاذ أجيالنا ،ناصر السنة، وقاهر البدعة ، وميسر كتاب الله وسنة رسوله للقارئ والدارس ” بحقيقة ترصد حالة مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة حينما ذكر في كتابه صغير الحجم كبير القيمة ” ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين ” أن التفرق البغيض الذي مزق المسلمين حتى وقتنا الراهن مفاده الابتعاد عن المنهل الأول الذي لا يخرج عن كتاب الله وسنة نبيه المصطفى ( عليه الصلاة والسلام) وما تركه لنا السلف الصالح من نماذج حياتية سليمة وقويمة.
ولقد حدد الشيخ عبد الجليل عيسى أسباب الخلاف والشقاق بين المسلمين في ثلاث صور هي : رجل أرخى عنان خياله ، وجرى وراء تصوراته ، وإذا وقف في طريقه نص صريح ، أعمل فيه معاول التأويل والتصريف حتى ينسفه من طريقه . ورجل جمد مع ظاهر النص ، وألغى عقله ، وجهل نص الخطاب وفحواه . ورجل مقتصد وفَقِهَ روح التشريع فكان أمة وسطا ، فهدي إلى الصراط المستقيم . وهذه الصور هي التي تشكل صلب الشقاق والنزاع الفكري بين عموم المسلمين اليوم . وما زاد المشكلة تعقيداً أن عموم الناس أصبحوا لا يقرأون وإذا كلفوا أنفسهم عبء القراءة فإنهم لا يفطنون ، فاستكانوا إلى الاكتفاء بالتسجيلات الصوتية لبعض المتنطعين الذين لم يؤهلوا لحمل أمانة الكلمة أو الدعوة فكانت النتيجة هي مزيد من التطرف والغلو غير المحمود.
ولقد أصابت الأمة الإسلامية عدة أمراض فكرية ارتبطت جلياً بالخطاب الديني ، من أبرزها أن الناقلين لبعض النصوص الفقهية لم يكلفوا أنفسهم بتحري الدقة في النص أو البحث عن الراوي أو الداعي له ، فكانوا أشد قسوة على أنفسهم لأنهم أصيبوا حقاً بداء الجمود وعدم التجديد ، وإذا استمعوا إلى رأي يخالف نصهم السابق فإنهم يرمون هذا الرأي وربما صاحبه أيضاً بالضلال والفجور والفسق . ولقد اجتهد المجتهدون الأوائل في الإسلام في تعليم العقل المسلم فقه الأولويات المقصود به فقه الواقع لأنهم فطنوا جيداً لحديث رسولنا الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) الذي قال فيه : ” دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم كثرة أسئلتهم واختلافهم على أنبيائهم فإذت نهيتكم عن شئ فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ” . وهذا الحديث يعد توجيهاً نبوياً كريماً إلى البدء بفقه الواقع ، وأكد الرسول الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) ضرورة عدم استشراف الواقع الفقهي بمسائل فقهية قد لا تحدث أساساً وإنما يعد الولوج فيها باباً رئيساً من أبواب الخلاف والجدل الذي يقسم المسلمين إلى فصائل وطوائف متباينة ، فقال رسولنا ( صلى الله عليه وسلم ) : ” هلك المتنطعون ” .
واجتهد المفسرون الأوائل في تفسير الحديث حتى أقروا توصيفه بأن المتنطعين هم المتكلفون للكلام فيما لا يقع ، والمفرعون على مسائل لا أصل لها في القرآن الكريم ولا في السنة المطهرة الشريفة . وهو ما شدد عليه بعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الفاروق عمر ( رضي الله عنه وأرضاه ) ، فلقد قال ابنه عبد الله بن عمر : ” لا تسألوا عما لم يكن ، فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن السائل عما لم يقع ، ويقول : أحرم عليكم أن تسألوا عما لم يقع ، فإن لنا فيما وقع شغلاً ” .
لكن في العصور الآنية وجدنا بعض الأئمة والشيوخ خرجوا بالاجتهاد الفقهي عن مقاصده المحمودة والمرغوبة ، وسلكوا طريقاً غير ممهدةٍ عن طريق الدخول في تفصيلات وتفريعات فقهية لا نستطيع توصيفها فقط بأنها نادرة الحدوث بل إنها متخيلة ومن الصعوبة حدوثها . وهذا الخلل الذي أصاب منهاج الوسطية الإسلامية هو ملمح خطير للتراجع الحضاري ، ووجدنا اليوم تضخماً كبيراً في فقه العبادات وضمور الاجتهاد أو التفقه المستنير في بقية الأبواب الشرعية مما زاد من هوة الخلافات والجدل بين عموم المسلمين.
ونورد جملة من الأمثلة في الخلاف الفقهي التي أوردها شيخنا عبد الجليل عيسى في كتابه الماتع ” ما لا يجوز فيه الخلاف بين المسلمين ” والتي ذكر فيها بعض الأشياء التي تبطل العبادة عند بعض العلماء ولا تبطلها عند غيرهم . ومن ذلك الدعاء بشئ من متاع الدنيا في التشهد الأخير مبطل للصلاة عند الحنابلة ، وهو جائز عند المالكية . وصلاة المأموم الواحد خلف الإمام أو عن يساره عند خلو يمين الإمام باطلة عند الحنابلة صحيحة عند غيرهم . وزيادة ( ورحمة الله ) بعد ( السلام عليكم ) عقب الفراغ من التشهد الأخير في الصلاة ركن تبطل الصلاة بتركه في الفرض عند الحنابلة ، ولا تبطل الصلاة بتركه عند غيرهم .
ومن الشواهد التي يسوغ فيها الخلاف بشرط عدم التعصب للرأي البسملة في أول الصلاة ، فهي فرض عند الشافعية وسنة عند الحنفية ، وقراءة المأموم للفاتحة في الصلاة السرية فرض عند الشافعية ، مندوبة عند المالكية . والسجود على اليدين وأطراف القدمين مع الجبهة أثناء الصلاة فرض عند الشافعية ، وسنة عند المالكية.
والمشكلة القائمة بين المسلمين اليوم هي الارتكان إلى ثقافة السماع دون تكليف الذهن بتحري المعرفة الدينية ، وربما سطوة الحياة المعيشية هي التي أجبرت المواطنين إلى العزوف عن القراءة الفقهية المتعمقة رغم أن معرفة العبادات وتفقهها فرض عين على الجميع خاصة وعموم ، وأن أداء العبادات بغير علم أو دراية أو معرفة عميقة قد يخرجها عن دلالتها وحضور الذهن والنفس معاً أثناء تأديتها . وجملة من الأسباب التي أودت إلى ظهور الخلافات الفقهية والتي ربما راح ضحيتها عموم المسلمين لأنهم أخذوا ببعض الآراء دون غيرها ، واقتصروا على وسائط دينية قاصرة بغير تحمل عناء البحث عن المعلومة الفقهية السديدة فكان عرضة للوقوع في الخلاف .
ومن هذه الأسباب غفلة الكثير عن تحذير النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من التشدد في الدين ، عملاً بقول الله تعالى في محكم التنزيل : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ( سورة البقرة ، آية 185) . وقوله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) (سورة الحج ، آية 78) . وعن أبي موسى الأشعري قال : لما بعثني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنا ومعاذ بن جبل إلى اليمن قال : ” يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا” .
ومن أسباب الوقوع في الخلاف عدم عناية المتأخرين بالتحري عن ظروف كثير من أوامر النبي (صلى الله عليه وسلم ) وإرشاداته وتوجيهاته ، هل المراد أن تكون تشريعاً عاماً دائماً ، أو خاصاً ببعض الناس دون بعض ، أو بعض الظروف دون بعض ، وهذه الأمور كلها لها ضوابطها وشرائطها المعقودة . ومن ذلك ما رواه الإمام البخاري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه نهى عن ادخار شئ من لحوم الأضاحي أكثر من ثلاثة أيام ، فلما جاء العام الثاني وتحدث الناس عن عدم الادخار قال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) : ” كلوا وادخروا ما شئتم ، وإنما نهيتكم في العام الماضي لأنه كان بالناس فيه مجاعة ، فأردت أن تعينوهم فيها” .
ومن أبرز أسباب الاختلاف الفقهي غفلة الكثير من عموم الناس عن أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كثيراً ما كان يجيب السائل أو يأمر الرجل أو ينهاه بما يناسب حاله هو بعينه ، وقد لا يناسب غيره ، وكثير من المتأخرين ينقل للسامع حديثاً أو شاهداً نبوياً شريفاً دون أن يرصد له شروط الرواية والحادثة والسياق الذي ورد فيه الحديث ، وهذه تعد من الأمور التي تحدث لغطاً بين الناس . ومن هذا أن رجلاً سأل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي الأعمال أفضل ؟ فقال له : ” الجهاد في سبيل الله ” . وسأله رجل هذا السؤال نفسه فقال : ” بر الوالدين” . وسأله ثالث فقال : ” كف الأذى عن الناس” . وقال لرابع : ” أفضل الأعمال الصدقة على الفقراء” .
وفي هذا يخبرنا الحافظ بن حجر أنه يؤخذ من هذه الأحاديث تخصيص بعض أعمال الخير بالحث عليها وذلك طبقاً لحال المخاطب وحاجته للتنبيه ، والرسول في هذا أشبه بالطبيب الماهر الذي يصف الدواء حسب حالة المريض ، ولكن المأساة أن العوام وبعض الشيوخ الذين لم يتفقهوا جيداً يأخذون الأمور والشواهد على عموميتها وظواهرها فقط دون الرجوع إلى سياق الخطاب نفسه وإحداثياته .
ويشير أبو إسحاق الشاطبي أحد علمائنا الأجلاء النابهين في كتابه الموافقات إلى خطر كبير يعصف بالأمة الإسلامية ويمزقها وهو التعصب لرأي أو شيخ أو لجماعة أو لفرق دينية بقوله : ” إن تعويد الطالب على ألا يطلع إلا على مذهب واحد ربما يكسبه ذلك نفوراً وإنكاراً لكل مذهب غير مذهبه ما دام لم يطلع على أدلته ، فيورثه ذلك حزازة في الاعتقاد في فضل أئمة أجمع الناس على فضلهم وتقدمهم في الدين وخبرتهم بمقاصد الشارع وفهم أغراضه.
ومن هذا التعصب الشديد في الرأي ما قاله أحد مشاهير علماء الأحناف وهو الشيخ أبو الحسن عبد الله الكرخي حيث قال : ” كل آية أو حديث تخالف ما قرره علماء مذهبنا فهي إما مؤولة أو منسوخة” . والعجيب أن ديننا الحنيف أقر برفع الشقاق والنزاع بين الناس وضرورة التقريب والتسديد وإحياء الوحدة والاتحاد ورغم ذلك نجد كثيرين يدعون إلى الفتنة والشقاق وإثارة نعرات الخلاف ، يقول الله تعالى : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) ( سورة آل عمران ، آية 105).
ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية (م)
كلية التربية ـ جامعة المنيا