19 ديسمبر، 2024 1:57 ص

في نقد السرديات السياسية المعاصرة

في نقد السرديات السياسية المعاصرة

احتفلت مصر منذ أسبوعين بذكرى ثورتها الشعبية الرائعة والمثالية ثورة الياسمين والفل والتوليب والأوركيديا المعروفة بثورة الثلاثين من يونيو ، هذه الثورة التي طالما نلتحف بإحداثياتها وتفاصيلها التي لا تبدو مكرورة ولن تستحيل مملة لأنها ثورة شعبية برائحة وطعم أرض مصر المحروسة ، وسواء احتدمت المساجلات بتحقيق أهداف وأغراض الثورة لأهدافها والتي سنرى بعضاً من نورها ونيرانها صوب المواجهة مع تيارات الإسلام السياسي الراديكالي ، فإن الثورة نجحت بالفعل في توحيد الصف المصري الأصيل بغض النظر عن اختلاف الرؤى والتوجهات السياسية ، وبغض الطرف عن محاولات بعض فصائل الإسلام السياسي في استلاب حق الوطن والوطنية، أو أولئك الذين لا يزالوا يدعون بأنهم الأب الشرعي لمصر المعاصرة رغم أنهم لا ينتمون إلى مياديننا أو شوارعنا أو ثقافتنا التي هي جزء أصيل من هويتنا .
وذكرى الاحتفاء بثورة الثلاثين من يونيو العظيمة والتي أطاحت بنظام سياسي عتيد وعنيد أيضا، استطاع بكفاءة أن يكرس لثقافة الفزاعة الداخلية والخارجية ، ونجح بامتياز في تعضيد وجوده كونه الحل السريع والوحيد لمواجهة الفوضى التي ستحل عقب انقضائه ، إلا أن المصريين حقاً نجحوا ومصرون على نجاح مستدام لن ينقضي بمشيئة الله ، لأنهم شعب استطاع من قبل أن يشيد حضارته بأبسط وأيسر أدوات صناعتها ، هذه الذكرى المرتبطة دوماً بشعارات الحرية والعدالة الاجتماعية والديموقراطية والتي استقرت بسقوط نظام الرئيس المعزول شعبياً محمد مرسي كانت كفيلة بثورة ثالثة ليست سياسية هذه المرة وليست بالضرورة اجتماعية إنما ثورة دينية .
إن المستقرئ لعقودنا غير البعيدة زمنيا يدرك على الفور الحالة الدينية التي صرنا عليها ، ليست فقط بل كثير منا استمرأ هذه الحالة حتى استحالت مقاماً راسخا ثابتا لديه بغير اهتزاز . ورغم أن كل كتابات التنويريين دارت في فلك ضرورة الاجتهاد الديني والفقهي وأن تطوير وتجديد الخطاب الديني أصبح اختيارا وحيدا لأمة تأبى أن تسقط ، إلا أن اجتهاد ما بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013 وفتاوى تيارات وفصائل الإسلام السياسي حتى وقتنا الراهن جاءت بملامح مغايرة وحضارة مصر التي علمت وصدرت الفكر الديني للعالم كله حسب قول مجدد العصر الحديث الشيخ محمد متولي الشعراوي .
إن أبرز علامات الخطاب الديني عقب ثورة الثلاثين من يونيو الشفوية التي لا تعد وثيقة أو شهادة معتمدة لدى كتاب التاريخ الذي يحفظ ويسجل تفاصيل العصر ، وهذه الشفوية استغلت خصائصها الذاتية في الانتشار السريع والتأثير المباشر ، فهذا حرام وهذا حلال دون أي تلميح أو تصريح إلى المباح والمكروه والمندوب ، بل إن الذين أججوا مشاعر البسطاء والعاديين بفتاويهم غير الموثقة أو الدالة على عمق فكري وبصيرة نافذة أسهموا بطريقة ما في تهميش دور مصر الثقافي وبوثيقتهم الشفوية تلك لم يعوا إلى أنهم تسببوا قصدا في التقليل من مكانة مصر الدينية فهم أحرى بالثورة ضدهم وضد اجتهاداتهم الفقيرة معرفياً.
وكم هو مثير للعجب والدهشة أن رواد الفتاوى السريعة ومحاربي التنوير الديني وجدوا جوابا سريعا يعتقدون أنه شافيا لكل مسألة فقهية أو ظاهرة اجتماعية ، بل الأخطر والذي يثير الشفقة على حال الخطاب الديني المعاصر أن اجتهادات بعض أقطاب فصائل الإسلام السياسي خلطوا بين الدين والسياسية بغير تأويل أو تحليل ، وراحوا وصالوا يقولون إن الفاروق عمر ( رضي الله عنه ) قال كذا مشيراً إلى ظاهرة معاصرة ، وإن عبد الله بن عباس ( رضي الله عنهما ) أشار إلى كذا ملتمساً قصية راهنة ، والمواطن البسيط اعتاد تصديق هؤلاء المروجين لفكر سياسي تحت عباءة دينية ، لكن كان عليه أو على المؤسسات الدينية الرسمية أن تقيم الحجج وتبرهن على أقوال السلف العظام والكرام وفقاً لسياقاتهم الزمنية ولمواقف الفتوى التاريخية .
ويكاد جميع المحللين السياسيين يتفقون ولو لمرة واحدة على أن فصائل الإسلام السياسي نجحت بكفاءة عالية في ظل اللغط السياسي والتوتر الاجتماعي بين أطياف المجتمع عقب انتفاضة الخامس والعشرين من يناير لا سيما وأن كل طيف يسعى لتنصيب نفسه مفجراً وصاحبا للثورة ، استطاعت أن تنتشر في نسيج المجتمع عن طريق تصريحات مشتعلة كاشتعال الحراك السياسي وقتها ، وبل ونجحوا في إقناع الآلاف في أن خطابهم الديني هو طوق النجاة من أزمات مصر جميعها ، والتدين فطري لدى المصريين ، ونصوص الفراعنة الدينية القديمة تؤكد حالة الولع الديني لهذا الشعب ، لكن أي خطاب هذا الذي دعا إلى الفرقة والعنصرية وترويج الفتن والانقسام ؟ .
وربما أقأشارف اليقين حينما أشير إلى علامة فارقة في الخطاب الديني الذي أعقب ثورة الثلاثين من يونيو 2013 في مصر ، وهي بزوغ العقد النفسية التي تحكم هذا الخطاب وتوجه فتاويه ومن خلالها يمكن رصد ملامح الاجتهاد لدى أصحابه ، فوجدنا ولا نزال عبر الفضائيات التي لا أراها تعبر عن واقعنا المصري الذي يسعى إلى البناء أن ثمة عقليات أسعدها القدر بالظهور على الشاشات العربية وطالت قدرا كبيرا من المشاهدة كنتيجة طبيعة لشعب استفاق مؤخرا من نظام سياسي حكم بمنطق الاستعلاء ، هذه العقليات لم تستطع التخلص من ذكريات الحبس والقيد والإحساس بالظلم والقهر لذا رأيناهم ولا يزالوا على حالة من التوتر المتزامن مع اجتهاداتهم الدينية والتي تميل إلى الاقتطاع من النص الأصلي لرجل ديني أو نص سلفي لأحد الصحابة أو الصالحين أو استغلال الفقر الديني المعرفي لدى بسطاء المصريين وسرد مقولاد لرجال دين ربما لم يفطنوا بعد أسرار العربية الجميلة .
وشعور الاضطهاد النفسي الذي يلازم تيارات الإسلام السياسي ألجأهم إلى الانتقام بغير عنف جسدي عن طريق تصحيف الفتاوى وتحريفها بما يعوض حالات الاضطهاد والقهر لديهم ، بل إن تسعين بالمئة من الخطاب الديني لتيارات الإسلام السياسي عقب اشتعال الثورة كان سياسيا أكثر منه دينيا ، وحينما حدث اعتصامي رابعة العدوية وميدان النهضة وجدا كثيرا من الاجتهادات الدينية لتفسير ظاهرة هي في أساسها سياسية لا علاقة لها بأصول الدين أو العقيدة أو ما يتعلق بالفكر الديني عموما .
ولقد أفرزت انتفاضة يناير جيلاً جديداً يحترف السياسة ويمتهن مهنة الناشط السياسي المحترف الذي يجيد قواعد وضوابط وشرائط اللعبة السياسية ، وهذا الجيل تفوق على سابقيه في أن احترافه السياسي لم يكن قاصراً عند حدود التنظير والتوصيف فقط وإعادة مضغ المصطلحات والمفاهيم السياسية المكرورة وتدويرها حسب السياق والحدث ، بل تجاوز هذه المرحلة الصامتة إلى مراحل التخطيط والتنفيذ والفعل والحدث ، وبعد أن كانت الأجيال السياسية السابقة على انتفاضة يناير تتناول الحدث السياسي الرسمي الصادر عن السلطة أو المؤسسة الرئاسية الرسمية من خلال التعليق والوصف وتأويل الخطاب السياسي ، أصبح جيل ثورة يناير السياسي هو الحدث نفسه وهو الطاقة المحركة للفعل السياسي الراهن ، ومهما اختلفت الآراء حول التيارات السياسية الناشئة عقب انتفاضة يناير والائتلافات الثورية الجديدة إلا أنها تختلف بالجملة عن جيل ثورة يونيو الذي أصبح فيما بعد قادرا على صنع الحدث السياسي الذي يلقي بظلاله بقوة على المشهدين الاجتماعي والرسمي في مصر.
وعلى النقيض من جيل الثورة الذي قرر التمرد نهائياً على سلطات التابو السياسي بالعزل الشعبي لجماعة الإخوان ، نجد جيلاً آخر ينتمي أيديولوجيا إلى فصائل الإسلام السياسي ، أما الأغلبية فهم يتبعون أفكاراً لم يكونوا مؤسسين لها وقيادات الفصائل نفسها لم تعترف بمبدأ المشاركة في صناعة الرأي أو الطرح الفكري ، وهؤلاء يقفون الآن في مواجهة جيل يتحرك ثقافياً ويمتلك طروحات نظرية وممارسات إجرائية على مستوى الفعل والحدث السياسيين .
ومجمل ما نراه اليوم من تفاوت وتباين شاسع بين هذين الصنفين الذين ينتميان معاً إلى جيل ما بعد الثورة أن الفجوة في أساسها ثقافية ، فمصر رغم أنها الدنيا وليست أم الدنيا فحسب ظلت لعقود طويلة تعاني مشهداً ثقافياً ضبابياً سرعان ما تحول إلى صورة معتمة تماماً ، فالثقافة في سنوات الرئيس السابق حسني مبارك تحولت إلى أحاديث نخبوية بعيدة عن المشهد الحقيقي لحياة المصريين ، والمؤسسات الثقافية صارت تدشن احتفاليات ثقافية باهتة وديكورية لا تسهم في رصد الحالة الثقافية في مصر ، وأصبحت احتفاليات الثقافة قاصرة على ندوات ساذجة وورش ثقافية تناقش موضوعات تدعو إلى سخرية الشارع المصري وربما كان هذا دافعاً حقيقياً من جانب المؤسسة الرسمية لتهميش ثقافة المواطن ولتكريس ثقافة بسيطة لديه ، كما كانت حزمة الإجراءات الثقافية التي اتبعت آنذاك دافعاً قوياً أيضاً لجيل الثائرين الذين قاموا في ثلاثة أعوام واحدة بانتفاضة في يناير 2011 وثورة شعبية في يونيو 2013.
وبعد استقرار الوضع نسبياً عقب الثورة وأثناء حكم المجلس العسكري للبلاد وفترة حكم الرئيس المعزول محمد مرسي لمصر بدت الفجوة واضحة وشاسعة بين الطرح الفكري لجيل الشباب الثائر والحشد الجسدي لجيل الشباب الذي ارتضى التبعية فقط لمريدينهم ، لذا وجدنا ائتلافات كثيرة ثورية وحركات وتجمعات شبابية تقدم رؤى سياسية وأفكاراً اجتماعية تستهدف المشاركة الفعلية المباشرة في المشهد السياسي حتى استطاعت بحق أن تصنع تفاصيل هذا المشهد بدليل ما حدث في ثورة الثلاثين من يونيو ودورهم في أثناء وبعد عزل الرئيس محمد مرسي وقيادهم بدور الوسيط الإيجابي بين المؤسسة الرسمية وبين فصائل الشعب المختلفة .
وعلى النقيض وجدنا جيلاً آخر لا يمكنه قراءة المشهد السياسي بوضوح لأنه لم يكن يوماً ما من تفاصيله الرئيسة ، ولم يكن يوماً ما جزءاً من الحراك السياسي اللهم سوى تحشيدهم الجسدي واشتراكهم في الهتاف بالتأييد أو التنديد تبعاً لأيديولوجية جماعاتهم وفصائلهم التي تنتمي لليمين المتطرف . ولم تبد قوة هؤلاء وهؤلاء إلا من خلال المواجهة الآنية التي تتم في شتى بقاع مصر المحروسة ، بل إن مواجهة جيل الثورة وجيل النص أي السمع والطاعة بدت جلية منذ بداية اعتصامي محيط رابعة العدوية بالقاهرة وميدان النهضة بالجيزة . وبدور هذه المواجهة أصبح المشهد السياسي أشبه بالخارطة التي تحتاج إلى قراءة وتأويل وتفسير للرموز التي تحتويها هذه الخارطة.
وإذا قرأت شيئاً فلابد وأن يكون مرتباً ، هذه الحكمة هي في الحقيقة مفتاح قراءة المشهد السياسي في مصر في هذه الفترة ما بين الانتفاضة والثورة ، وكثيراً ما قام السياسيون والمحللون عبر القنوات والوسائط الإعلامية بقراءة المشهد السياسي متهربين من الإجابة عن سؤالين مهمين يعدان البوابة السحرية للفكاك من شرك هذا المشهد الساخن . وهما ما تفاصيل المشهد السياسي الراهن آنذاك ؟ وكيف يمكن إعادة ترتيب هذه التفاصيل من أجل قراءة متأنية وواعية للمشهد السياسي ؟ .فالمشهد السياسي وقتئذ يتضمن مؤسسة عسكرية في مهمة وطنية هي الحفاظ على أمن الوطن ، واستنفاراً أمنياً شرطياً استثنائياً في عودة للتعافي الأمني ، وإدارة جديدة للبلاد شملت حكومة الدكتور حازم الببلاوي التي انتقلت من مرحلة الحكومة الانتقالية إلي توصيف الحكومة التأسيسية . بالإضافة إلى تشكيلات مسلحة خارجة عن سلطة القانون تمارس العنف بطرائق منظمة ، وحركات وائتلافات سياسية ثورية ترى أنها صانعة الحدث السياسي الأبرز وهو محمد مرسي وجماعته التي أحكمت الخناق على مفاصل الدولة المصرية ، بالإضافة إلى تغطية إعلامية تتأرج بين الحيادية والتوجيه .
ولابد من الاعتراف في هذه الأيام المنصرمة بصعوبة إعادة ترتيب هذه المكونات في ظل هوس المصريين بالتصنيف السياسي من ناحية ، ولتسارع الأحداث السياسية التي جرت على أرض مصر المحروسة ورغبة بعض القوى في إقصاء الآخرين . فالجاذبية السياسية صارت تتحكم في المشهد السياسي قبيل العزل الشعبي لجماعة الإخوان بطريقة لم يكن التنبؤ بنتائجها أمرا طبيعيا يسيرا ، ولاشك أن المشهد ازداد غموضاً بعد تزايد فرص أصحاب الدولة العميقة أقصد رجال الحزب الوطني المنحل ، وصراع الدولة الغريقة أقصد جماعة الإخوان في البقاء ، وأنصار الدولة العتيقة وهم القوة الناعمة المتمثلة في ملايين المصريين الذين وجدوا في القوات المسلحة ملاذاً وملجأ .
وحتى لا نجتر أحداثاً تاريخية وقعت في المشهد السياسي المصري منذ أعوام ليست بالبعيدة ، ولكن نرصد حالة على عَجَلٍ ، فعقب نجاح انتفاضة يناير 2011 مباشرة شاهدنا انتفاء قرار الحظر والمنع والرفض السياسي والمجتمعي لجماعة الإخوان المسلمين التي كانت محظورة دون أحكام قضائية أو حزبية تبيح فك الحظر .. ومع ذلك قبلنا لأننا نعيش عهد الربيع الثوري . وبعدها بقليل أصبح للجماعة ذراع سياسي هو حزب الحرية والعدالة الذي استطاع رغم ولادته الحديثة والمبكرة ـ كحزب سياسي ـ أن يحصد المقاعد التاريخية للحزب الوطني المنحل سواء في مجلس الشعب أو مجلس الشورى وهو يتعهد بتحقيق مطالب الثورة من العيش والحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية .
وبالفعل نجح الحزب برعاية الجماعة التاريخية الضاربة في النضال الوطني لأكثر من ثمانين عاماً في تحقيق الحرية والعدالة سواء من حيث الاسم الذي يمثله الحزب نفسه ( الحرية والعدالة ) أو من حيث تحقيق الديموقراطية حيث سمحوا للتيارات السلفية والليبرالية وحفنة قليلة من الأقباط واليساريين أن يتواجدوا في مقاعد البرلمان ومن ثم فهم بذلك يسعون إلى المشاركة لا المغالبة .
وفي كل يوم وليلة كنا نفاجأ بقيادات الحزب الذين هم بالضرورة المنطقية يمثلون قيادات الجماعة يؤكدون بأنهم اختيار الشارع وأن وجودهم في سدة السلطة التشريعية والرقابية جاء بطريقة شرعية وليست عرفية من خلال ثقة المواطن في الجماعة ككيان سياسي ديني وكذلك ثقتهم في رموز الجماعة والحزب .. وأي هجوم نراه على الجماعة والحزب بوصفه الذراع السياسي لها يطالعنا أحد قيادات الجماعة بأن هناك مخططات لتشويه صورة الحزب لدى المواطنين وأن هناك مساعٍ جادة مسمومة من قبل اللهو الخفي أو الطرف الثالث أو الدول العربية أو أي جماعة أخرى تشعر بالغيرة فتعمل على إسقاط مكانة الجماعة والحزب في المشهد المجتمعي .
ولكن كم كنت أتمنى أن تراجع الجماعة نفسها بعد هذا الصعود السياسي والمد الاجتماعي الرهيب الذي تحقق لها وقت الصعود ، بدلاً من أنها أصبحت مهمومة بالرد على الاتهامات والانتقادات التي توجه إليها ، وجملة المثالب التي التصقت بها ليل نهار ، وحقاً إن المشكلة الرئيسة في أن الجماعة لم تستوعب الدرس جيداً من الوريث السابق جمال مبارك في وصوله الحصري والسريع إلى مقعد الحل والعزم والفك والربط في الشأن السياسي المصري ، وهذا الوصول السريع ليس كفيلاً أن يعقبه السقوط ، ولكن كان ينبغي أن يعقبه التدبر والتأمل في عملية الصعود السياسي تلك ، ومن ثم محاولة تأويلها وتعرف ما تم تحقيقه على مستوى الجماعة ( أمانة السياسات سابقاً ) وما لم يتحقق بعد على المستوى الجماهيري والشعبوي .

وتوقع هجمة شعبوية ضد جماعة الإخوان المسلمين وحزبها السياسي كان أمراً منتظراً أو بصورة أخرى رهن الانتظار ، فأحياناً لا يجيد المرء سوى الرفض والمعارضة والهجوم ودرء العيش في سلام مطلق ، هكذا حال الجماعة الآن ، فبين انتظار طويل للانضمام لجموع الثوار والمتظاهرين لإسقاط النظام كان موقفهم ، ثم ترك بعض الحوادث الانفلاتية في الشارع المصري بينما اهتمت بتحشيد الجموع نحو غزوة الصناديق وهم يذكرونني بذلك بالرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش حينما أعلن أن الحرب على الإرهاب حرب صليبية مقدسة ، ولكن ألا تكون الغزوة ضد المغاير في العقيدة والتوجه ونحن أبناء وطن مسلم بطبيعته ؟! ..

ثم عادت الجماعة متمثلة في حزبها السياسي الوليد ـ مقارنة بأحزاب كالوطني المنحل والوفد والتجمع على سبيل المثال ـ في رفضها المطلق لسياسات وزارة الداخلية ومن ثم تحريك بعض القضايا الخلافية باتجاه الوزارة كلحية الضابط مثلاً ، ثم حرص نواب الحزب المستدام على استجواب وزير الداخلية في حوادث الانفلات الأمني وكأنهم بذلك ينتقمون من زمن حبيب العادلي ورجاله في صورة وزير الداخلية.

وبعد ذلك جاء الرفض الحزبي لأداء الحكومة ، وتباطئها ، وقلة إنجازاتها ، ومن ثم الإعلان عن ضرورة سحب الثقة من الحكومة لأن جمهور الجماعة يريد ذلك الأمر، متهمين الحكومة بعجزها عن الوفاء بمطالب الشعب ، رغم أن للشعب نفسه مطالب في أعناق نواب الحرية والعدالة . وبات التهديد اليومي من قبل الحزب الإخواني لحكومة الدكتور الجنزوري ووزرائها .

وهذا المشهد السياسي الذي كان قائما قبيل اشتعال ثورة الثلاثين من يونيو 2013 ينبئ عن حقيقة واحدة مفادها أن مصر جائزة كبرى بالفعل ، بدليل هذه الصراعات الداخلية والخارجية التي تتناول الوطن بكثير من الفعل والكلام والمحاولات غير النظيفة لتقويض أمنه واستقراره الداخلي ولتعجيزه الاقتصادي من الخارج عن طريق التلويح العاجز بقطع المساعدات والإمدادات المادية لمصر ، وهذا السعي نحو إضعاف مصر يدفع المصريين إلى مزيد من الوعي لقراءة المشهد ، وإلى مزيد من التماسك الاجتماعي بين شتى الفصائل والطوائف ، وإدراك البعد الحضاري المتميز للوطن الأمر الذي جعل الاتحاد الأوروبي يبدو متخبطاً في ممارساته وإجراءاته الدبلوماسية ، وتشتت القرار الأمريكي الرسمي الذي يواجه ثمة اعتراضات داخلية هناك . في الوقت الذي أدرك فيه المواطن المواقف الإيجابية من بعض الدول العربية والأجنبية أيضاً والاعتراف الدولي بسيادة الدولة المصرية وحقها المشروع في التعامل في شئونها الداخلية .الأمر الذي يدفعنا للتأكيد مراراً وتكراً بأنه آن الوقت لمصر لآن تستفيق لوضعها ومكانتها الجغرافية والتاريخية والحضارية.
وعودة غلى قضية التجديد ، فإن أصدق عبارة تنطبق على الخطاب الديني المتلازم لثورة الثلاثين من يونيو من جانب فصائل الإسلام السياسي والذي يحتاج اليوم إلى ثورة حقيقية هي عبارة يمكن توصيفها بطريقة عكسية ، تقوق العبارة الصوفية ” كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة ” فالرؤية لدى بعضهم لم تكن متسعة بالقدر الكافي فظلت العبارة أي الخطاب الديني لديهم واسعاً بغير ضوابط أو أحكام مشروطة ، ويكفيك أن تجري مسحاً سريعا على موقع يوتيوب لتشاهد بعضاً من المداخلات واللقاءات الفضائية لهؤلاء لتكتشف على الفور الحالة التي وصل إليها خطابنا الديني المعاصر والذي لم يخرج عن مساحات التكفير والغلو وتفسيق المجتمع والبرهنة على فجوره رغم أن هناك ألفاظاً تصدر من أفواههم قد تقربهم أنفسهم من مشارف الفسق اللفظي المتعمد .
وخطابنا الديني الذي صار غير معترف بمؤسسات رسمية تبنى مرجعيات تكفيرية لم تفلح في تطوير وتجديد الفكر الديني وبالتالي اقتحمت مجالات سياسية واجتماعية لم تمتلك أدواتها بدقة وعناية كالطبيب الذي يجري عملية جراحية في القلب وهو في الأصل طبيب أخصائي علاج طبيعي ، يعرف معلومات بديهية في القلب وأمراضه وطرائق علاجه لكنه لا يفطن إلى أسراره بعد .
هذه المرجعيات كادت أن تتفق في إحداث مزيد من اللغط الديني لدى أطياف الشعب ، علاوة على تمجيد الاستقطاب والاستلاب بغير إتاحة الفرصة للمواطن أن يحلل فكر هذه المرجعيات ، ولازلت وغيري كثيرون يتعجبون من أن كثيراً من مرجعيات الإسلام السياسي ليست مصرية خالصة وكأنهم لم ينتبهوا إلى قدر مصر ومكانتها الرصينة في التنوير والتجديد وأن مصر بعمقها الضارب قدما في التاريخ هي صاحبة الخطاب الديني العميق والأكثر استنارة والأقوى حجة .
ـ أستاذ المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية ( م ) .
كلية التربية ـ جامعة المنيا.

أحدث المقالات

أحدث المقالات