18 ديسمبر، 2024 6:41 م

في مواجهة تداعيات التفكيك بضجيج العصرنة

في مواجهة تداعيات التفكيك بضجيج العصرنة

أفرزت العصرنة بثورتها التقنية والرقمية، والصناعية الراهنة ، تداعيات سلبية كبيرة ، في حياتنا المعاصرة. ولعل من بين أهم تلك التداعيات ، استغراق الشباب والأطفال، بل وحتى كبار السن، في مواقع التواصل الاجتماعي الرقمي المتاحة على الشبكة العنكبوتية للإنترنت، التي بات الانغماس الكامل في فضائها الرقمي، والحضور الدائم في منصات مواقع التواصل الاجتماعي عليها ، عادة مستحكمة، وثقافة واقع حال عصر، لامناص من التعايش معها، والتكيف مع معطياتها .

وكما معلوم، فقد تسببت ظاهرة الإنغماس الكلي في الفضاء الرقمي، بعزلة اجتماعية ، سواء على مستوى الأسرة والأقارب، أو على مستوى الجيران، والمجتمع، حيث نشأ تبعاً لذلك، نوع من الانفصام الأسرى، والاجتماعي المقلق، بعد أن ظهر جيل لا يأبه للحديث مع الأهل، والمجتمع، وبذلك اضمحل التواصل الإجتماعي الحي، وغابت السيطرة الأخلاقية للعائلة، وتنحى تأثير البيئة الاجتماعية الحاضنة في نفس الوقت، بعد أن صار المحتوى الرقمي الذي يشاهده المستخدم، هو مصدر التغذية للمفاهيم، والقيم التي تحكم السلوك العام للجيل الجديد، ناهيك عن سلبيات الإدمان الذي يقتل الوقت، ويستهلك الطاقات، دون جدوى.

وهكذا طالت تحديات العصرنة، بآثار تداعياتها السلبية، صميم حياتنا اليومية الراهنة ، بتسفيه العادات،والتقاليد الحميدة، حيث بدأنا نلمس اليوم، جنوح الجيل الجديد ، صوب الانسلاخ التدريجي من سيطرة البيت،والتفلت من ضوابط المجتمع، بشكل واضح، والانزياح في نفس الوقت بمسارات غريبة عن المألوف، من موروثنا الاجتماعي، بعد أن تفاقمت فجوة الجيل، بفعل عزلة التباعد الاجتماعي، مع غزو العصرنة الصاخبة، وغابت عن الوجود، ظاهرة الترادف التقليدي بين الأجيال، بعد أن كانت التربية مقتصرة على محيط الأسرة، من الأب والأم، والجيران، حيث تلاشت ولم تعد موجودة اليوم ،الأمر الذي يهدد بتفكك قيمي، واجتماعي، قد يقود إلى ضياع الأجيال، واستلاب تام لكل معالم الأصالة ، في المستقبل المنظور .

وإذا كان لا بد من العمل على إعادة هيكلة ثقافة واقع الحال الراهن، المثقلة بكل سلبيات هذه التداعيات، وإعادة تشكيلها بما يتلائم مع معايير التحديث، والعصرنة، حتى يمكننا التعايش بتوازن مع معطياتها، والتكيف مع انجازاتها المتسارعة ، بأقل ضرر يلحق بأصالة هوية وجودنا الاجتماعي، وموروثنا الشعبي، وقيمنا الأخلاقية ، فإن ذلك ينبغي ان يتم في إطار الحرص الواعي، على الحفاظ على أصالة هوية الموروث الحضاري لمجتمعنا، وعدم التفريط بها، والعمل على إعادة تعزيز دور الأسرة، والمجتمع، في التواصل الإيجابي، المترادف مع حياة الجيل الجديد، بحيث يظلان مصدر التغدية بالقيم، والمفاهيم الأخلاقية، مهما كانت ضغوط إغراءات الحداثة جذابة، وملحة.

لذلك بات الأمر يتطلب الإنتباه الجاد ، إلى مفاعيل سلبيات تداعيات العصرنة المتسارعة، بما هي غزو تقني متسارع لايمكن تفاديه ، بعد أن طالت عواقبه كل جوانب حياتنا الراهنة ، من عزلة اجتماعية، وانغماس مقرف ، وابتعاد عن موروثنا الديني، والحضاري ، والتراثي، ومن دون إغفال حقيقة ان هيمنة الثورة الرقمية، قد أصبحت اليوم، سمة عصر، وثقافة واقع حال راهن، ومن ثمّ فإنه لامناص من التفاعل الخلاق، والتعايش البناء معها، تلافيا للوقوع في مطب الجهل بالتقنية، والأميّة الرقمية.

وهكذا فإن معالجة واقع هذا الحال، أضحت تتطلب اعتماد منهجية تحصين تربوية جديدة، تقوم على تعزيز دور الأسرة، وتفعيل تأثير المجتمع، وتمكين المدرسة، من ترسيخ القيم الفاضلة بين الأجيال، والعمل على رفع مستوى الوعي الجمعي لترشيد استخدام معطيات الثورة الرقمية، على قاعدة الانتفاع من كل ماهو مفيد منها، ونبذ كل ما هو ضار منها ، من دون الإنغماس الكلي الآلي فيها، أو تركها، والانسحاب منها كليا، وبالشكل الذي يحافظ على معالم أصالة الهوية ، ويسمح بتواصل الجيل الجديد من الناشئة مع موروثه الاجتماعي، والديني، والقيمي، في نفس الوقت الذي يعيش فيه مفردات حياة الحداثة، بتداعياتها المتسارعة، وبكل منعكساتها السلبية على ثقافة هذا الجيل، والاجيال القادمة ، متجسدة بارتباك واضح، وتخبط مقلق، وانبهار جارف بمعطيات ثقافة الحداثة بصيغتها السائدة حالياً في فضاء المدنية الغربية المعاصرة، والمتخطية بعولمتها الجامحة كل الحواجز والحدود، حيث يلاحظ أن جيل اليوم بات يفتقد الرغبة الجادة ، ويواجه صعوبة معنوية ، في تلمس هوية ثقافية ذاتية مستقلة له ، تميزه في نتاجاته المعرفية، والتقنية، والإبداعية، عن معارف ونتاجات ثقافة الغير، وتحفظ له خصوصياته، وتحصنه في ذات الوقت، من مخاطر الاستلاب والضياع.