بعد اجتماعات الرئاسات الثلاث من المرجح أن تكون الكتل السياسية قد انتهت من تسمية مرشحيها، لشغل الوزارات في الحكومة المقبلة.تشكيل الحكومة على قاعدة التوازن ، امر أساسي ومصدر قوة داعمة لأية حكومة بما لا يمكن نكرانها ، لغياب صورة التشكيل الحقيقي للمكونات العراقية في صورة الدولة طوال عهود الدولة العراقية الحديثة ، وبالتالي أقصاؤهم وتهميشهم وإبعادهم عن المشاركة في صنع القرار، وهي إحدى الثوابت التي دأبت عليها الحكومات المتعاقبة ، وتسببت في خلق مشكلات كثيرة من خلال هيمنة أقلية صغيرة على مقدرات البلاد ، واستغلال النفوذ الحكومي والدستوري المزيف لتصفية صفوة المجتمع ، من الذين رفعوا عقيرتهم بالصياح ، لمشاهد الظلم والاضطهاد، وتاريخ البلاد السياسي حافل بسجلاتها المخزية .
خطوة مشاركة جميع المكونات والفئات والشرائح إيجابية ومتوازنة ، مع التذكير ، بضرورة أن تكون الترشيحات بعد كل هذه المدّة من الفشل في الأداء الحكومي ، وتفاقم المشكلات أن تكون على وفق معايير معلومة للجميع ، في المقدمة منها ، معايير الكفاءة والخبرة والنزاهة والحرص ، لأن ما تبقى من الاموال المنهوبة ، والمردودات الأقتصادية في ظل أقتصادنا الريعي ، هو بالكاد يسّد رمق الناس وحياتهم ، ولا يمكن السماح بوقوع البلاد في متاهة المجاعة والتشرد بعجلة فساد جديدة ، تسحق الأنفاس وتحرق الاخضر واليابس .
البرلمان الاتحادي الذي قضى شطراً من وقته بالمساجلات والنقاشات بخصوص مرشحي السيد رئيس الوزراء من التكنوقراط ، ووضعهم جميعا
تحت المجهر العياني البرلماني ، عليه هذه المرّة أن يمارس دوره بوضع جميع الاسماء المقبلة تحت المجهر ، بعيدا عن أساليب التزكية والمحاباة ، والتنويه بتنازلات متبادلة وطريقة التخادم بين الكتل ، لتقديم هذا المرشح أو ذاك على حساب المعايير، التي يجب أن تكون واحدة بحساب المسطرة التي طبقت على الآخرين .
مثل هذه الامور تؤكد صدق الأنتماء للشعب ، وتعزز المبادرات بتبني مشاريع القضايا التي تهم المجتمع وتخدمه من خلال المشاركة الفعّالة ، من دون أن تتحول الى مشاريع نقاش برلمانية لا نفع من ورائها ، سوى إسدال الستار عليها بعد جدل بيزنطي متعب .
البرلمان الاتحادي أمام امتحان جماهيري ، فهو إمّا أن يمثل الجماهير العريضة ، التي بفضل أصواتها تربع على مقاعد البرلمان ، وإمّا ان يؤكد المسارات السابقة ويركب موجتها ، حيث الدور الرقابي الضعيف ، وعدم محاسبة الوزراء الفاشلين أو مساءلتهم ، وهو مسار يقود الى المزيد من المشكلات ، وصب الزيت على النار ، بعد أحوال البلاد الصعبة التي يتحمل البرلمان قسطا وافرا منها ، تغير أسلوب العمل البرلماني بالتحول من تبنّي قضايا سياسية تهم الكتل ، الى تبنّي قضايا تهم الناس هي الأهم في تجلياتنا الحاضرة ، برغم أصرار بعض من أولئك الذين لاتعجبهم اللغة الجماهيرية على التمادي في اللعبة السابقة ، وهو ما يهدد بجر البلاد الى صراعات وأستنفارات جماهيرية ، تدفعنا الى المجهول.
ان الذين يفكرون بهذه الذهنية عليهم ان يعلموا ان المركب حال تعرضه للغرق فأنهم في مقدمة الهالكين.
وثمة أمران أساسيان ، يجب أن لايغيبا عن البال، أذ طالهما الجمود والركود والصمت أحيانا ، نتيجة عوامل متداخلة من ضغوط وغيرها طوال
المرحلة الماضية ، أولهما يتعلق بالهيئات الرقابية وضروة تفعيلها ، بما يمكنها من أداء مهماتها على أكمل وجه ، سواء في البرلمان ، أم الوزارات وترك سياقها القديم في المواربة والتخادم فنحن بتنا في مرحلة نحسد عليها ، من حيث تفاقمات التناقضات والصراعات والأبواب المفتوحة لرياح الأعاصير ، بما لا يحمد عقباها ، ولابد من صرخة ضمير انسانية تهز الواقع المرّ وتحتج عليه. لأن العامل الذاتي عامل اساسي في أية عملية اصلاح.
وثانيهما ، تفعيل الهيئات الرقابية المستقلة ، ودعم هذا الاستقلال من قبل الرئاسات الثلاث الراعية للنظام السياسي في البلاد ، ومن منظمات المجتمع المدني ، بل من المجتمع بأسره ،لأن هذه الهيئات لو كانت قد قامت بمهماتها بالصورة المرسومة لها دستوريا وحقوقيا ، لما تفشى الفساد بهذه الدرجة المريعة.
فمن المؤسف أن تتخطى البلاد في راهنها من مرحلة فساد دولة الى دولة فساد ، بكل ما يعنيه ذلك من مرارة وألم وخراب في خطوة غير مسبوقة في تاريخها مع الاطلاق ، وتقبع البلاد حاليا ، وبحسب مؤشرات المنظمات الدولية والأممية في ذيل قائمة الدول التي بلغت فيها معدلات الفساد حدا بات يهدد حياة مواطنيها.
حجم الفساد المتسع ، مؤشر لغياب دور المنظومة القيمية والاخلاقية الرادعة التي تشكل قاعدة اجتماعية وأخلاقية لأي مجتمع آزاء ما يجري حوله ، فأحكام المجتمع ونظام حياته لا يمكن أن تشكل فيها القوانين العقابية بعدِّها الرادع الوحيد .
ومن المخجل ان لا يكون لهذه المنظومات دورها على نطاق الفرد ، فالشخصية العراقية تحمل خصائص ومزايا انسانية وأنضباطية خيَّرة كثيرة
، كانت موضع اعجاب ، واليوم نحن ازاء سيل من المفسدين الذين اهلكوا ثروات البلاد ، واساءوا الى قيم المجتمع ومنظومته الاخلاقية وقدموا صورة مشوهة لقيمنا وتاريخنا وأنسانيتنا ، فالذي لا يرحم مجتمعه كيف ستكون نظرته للآخرين.
عامل الرقابة من عوامل التحفيز على الالتزام ، فهو لا يكتفى بملاحقة حالة الفساد والمفسدين ، وأنما يكشف الكثير من عناصره المتداخله ، ما يعني ضرورة دراسة حالات كثيرة تؤشر ظواهر مترهلة في المجتمع ، تحتاج الى المعالجة ، لأن بقاء مثل هذه الظواهر وعدم مكافحتها ، سيؤدي الى تفريخ ظواهر فساد أخرى ، وهو ما ينخر جسد المجتمع والدولة معاً.
لابد من استفاقة ، ووعي حقيقي بما جرى على مسرحنا السياسي ، وأن تكون القوى السياسية والاحزاب والكتل عند مستوى مسؤولياتها التاريخية ، وان تسطر صفحة مشرقة من الاداء تؤكد به نهجها وبرامجها وتساعد نفسها والمجتمع على طي صفحة الايام الخوالي بكل آثامها وجروحها ومآسيها.. دائب الكورد على الحرص في حل معضلات البلاد على خلفية تاريخ طويل من المجابهات مع كثير من الأنظمة الظالمة ، التي حكمت البلاد بقوة الحديد والنار ، وكان نضالهم في سبيل يوم جديد يحقق الكرامة والرفاه لكل العراقيين ، ومن خلاصة تجارب بحلوها ومرّها وفهمهم العميق لحقائق البلاد وتوازناتها ، أسهموا في صنع دستور وخارطة طريق تتلاءم مع واقع البلاد وتطلعاته ، ومع نزوع التجربة الجديدة وتغير أهدافها ، من بناء تجربة ديمقراطية حقيقية الى مشروع سلطة ، أنحرفت السكة عن مسارها ، وبرغم ذلك لم يغب عن بالهم ، التذكير بهذه المسارات الخاطئة ، ودعوا في مناسبة أو غيرها ، وأكثر من مرّة الى ضرورات معالجة مشكلات الواقع المّر، وبذلوا جهوداً كبيرة في سبيل بناء حوارات جادة ، تسهم في
تعزيز الفهم الواقعي المبني على اسس وحقائق الواقع الموضوعي ، وبادرت اربيل الى طرح المبادرات تلو الاخرى من اجل تطويق ازمات البلاد ، فمن رعاية مؤتمرات المصالحة في مطلع عهدنا الجديد، الى أجواء تقريب وجهات النظر بين الآخرين من اجل ظفر المشروع الديمقراطي .
على الدوام كان الكورد جزءاً من الحلول ومرتكز التوازن ، فخلافات تشكيل الحكومات بين الفرقاء ، كان يذيبها الكورد ومبادراتهم ، فحكومة الدورة الثانية للسيد المالكي تمت في اربيل برعاية الرئيس بارزاني ، بعد تعقيدات دامت قرابة العام ، كادت تدخل البلاد في متاهة ، وخرج المجتمعون بخارطة طريق لتشكيل الحكومة كان يمكن ان يرسم مسار آخر ، لو جرى الالتزام بالاتفاقيات والتعهدات ، وهي من اهم عوامل خلق الثقة وتعزيزها ، لأن من ثوابت المشروع الديمقراطي تغيير الحكومات والانتقال السلس للسلطة من مرحلة لأخرى ، ولولا هذا العامل ما تبوأ احدا أية سلطة.
وضع الكورد ثمرات خبراتهم وتجاربهم من اجل الخروج بمشروع وطني وانساني ناضج ، ترفع الأثقال عن كواهل المجتمع بعد رحلة معاناة مستديمة ومريرة طوال عهود الدولة العراقية ، فأذا كانت الحكومات المتعاقبة ما قبل التغيير تنبع من ارادة كسر المجتمع واضطهاده وممارسة سياسة التميز بحقه ، وضيَّعت عليه فرص بناءه وترسيم واجهته الحضارية ، التي تنشغل به كل شعوب الدنيا ، فبماذا نسمي مرحلة ما بعد التغيير التي اضافت معاناة جديدة وانتجت غول الفساد ، الذي لم يبق شيئا ولم يذر .
إن السلطة واجبها خدمة الشعب عبر برنامج محدد تتطلبه حاجة الناس وواقع البلاد، وهو ما يجب أن ينفد ، من دون التفكير بالالتفاف عليه ، هذا
ما أكده الكورد في كل مناشداتهم التي تثبتها الشواهد التاريخية في كل مرحلة وحقبة.
أدت مجمل السياسات السابقة الى تراجع أحوال البلاد الاقتصادية والامنية والمعيشية ، وكوارث الفساد والحروب والنزوح الى هجرة ملايين من العراقيين ، يحتضن الأقليم الكوردستاني أكثر مليوني نازح ومهجر منهم ، برغم ظروفه الحالية الصعبة جراء تنصل الحكومات المتعاقبة من التزاماتها حيال شعب كوردستان ، وأكثر من هذه تجاهل دعوات مساعدة النازحين بما هو حق لهم في عنق الحكومة .
خلقت الكوارث والنكبات والفشل خيبة أمل طالت البلاد، ما يحتم على الجميع الخروج من قمقم المضاربات والصراعات والجدل ، وتحرير النظر من براثن نظرة الغازي الى الغنيمة في تسيير أمور البلاد ، فهي واقع حالنا خلال المرحلة المنصرمة ، لا مندوحة سوى التذرع بالصبر والأمل ، وعلى أية حال، الفرصة لا تزال قائمة ، أذا اتحدت الأرادات والنوايا ، وتحلت بالعزم والأصرار على خلق واقع عراقي جديد ، يبعث الأطمئنان في نفوس الناس ليشعروا ، أن التغيير يعني تحسن أحوال البلاد والعباد نحو تقدم منشود ، غاب عنهم طوال المرحلة الماضية ، ألا تستحق البلاد نسيان أيامها السود؟!.