كي أقف عند تخوم مثل هذا الشعر علي أن أستذكر اللحظة المجاورة التي كنا بها أنا والشاعر في بيئة واحدة قمم كردستان في الأعوام الأولى من ثمانينيات القرن الماضي.لا هو ببندقية وشروال أسطوري يخبئ ما يمكن أن نطلق عليه روح الشعر الخضراء ، وأنا نزيل ربيئة معلقة مثل فانوس بجدار على الحافة الحادة فوق جبل هرزله والمطلة على ناحية نال باريز المدخل الأزلي لحوض الفردوس المسمى حوض بنجوين.
الفرق بين المكانيين يختلفان في نمطهما الوجودي والفلسفي والوطني ، ولكنهما يلتقيان في حسية الانتماء الى شيء يطلق عليه إغريقيا : الإيحاء بمودة الآلهة .
وتلك واحدة من طاقات الشعر، لأن المتواجدين في المكان كانا ضدين وأحلاماً متفرقة وهما يتقابلان في ارتداء قبعة لمشهد واحد، ففي جعبة الأول بندقية وقصيدة، وفي جعبة الثاني ما عند الأول.
أعطاني العريف فرهاد قصائدا مترجمة الى العربية لشاعر الكورد عبد الله كوران.
كانت رومانسية كوران تطفح بشيء من ديالكتيك الغناء المشبع بروح البساطة والتكوين الساحر لأرض بلاده. كانت شعبية كوران نمطاً من حس متداول لهذا فعندما قرأته لأول مرة لم تمتلكني حداثة المشهد ولم يشدني الشعر الى غرابة الثقافة.
كان كوران يتحدث برومانسية ممتعة عن بلاد يتمناها ورعاة يعزفون بالمزامير حلمهم الأسطوري أن يأتي القمر ليعلن لليل هذه الرواقم أنهم أصبحوا أحراراً وبإمكانهم أن يعيشوا مثلما يعيش الفُرس والعرب والترك. ولأنني أحمل ثقافة الجيش وتفكير المدى البعيد لسلطة الأدب على الذائقة اكتشفت أن كوران بالنسبة لي ليس سوى غنائية حالمة بمصير ماينتمي اليه . وأنا هنا ليس سوى بيدق عليه أن يتحرك ضمن مربعات مساحة السرية كي يمنع هذا الغناء من الوصول الى مقدمة مزامير أولئك الرعاة الذين تركوا قطعان ماشيتهم والتحقوا بمام جلال في العمق البعيد وكهوف المضائق في جوارته وأحمد رومي وسبيدارة وجميع مرتفعات كاني بنكه وكاني سبيكه وهي الحواف الأزلية لواحد من أخصب سهول الأرض والمسمى سهل شهرزور ، لهذا أعدت الكتاب الى فرهاد سريعاً لأن هذا الكتاب كما أعلنت له : لن يجعلني أنام براحةٍ في هذه الربيئة ولن يكسبني متعة المشاهدة عبر الناظور الى المدينة النائمة عند قاعدة هرزلة وأقصد نال باريس.
في اليوم الثاني وجدت فرهاد يقرأ في كتاب جديد، ومن تراصف سطوره عرفت انه ديوان شعر.
قلت : عبد الله كوران مرة أخرى ؟
قال : كلا ، هذه المرة شيركو بيكه س.
لم يمر هذا الاسم مرور الكرام بل أثارت موسيقى لفظته للاسم حدس افتراضي على أن نمط من تلك الأبجدية في أعلام الأدب الكردي سوف لن تقودني الى تدفق الكمانات الكورانية وتلك الرومانسية المعلقة على قمم الرواقم مثل ثمر الجوز قبل القطاف، وعليه كنت أمتلك شيئاً من شغف القراءة ، لكني لا أعرف الكردية مما حدا بفرهاد أن يترجم لي ديوان شيركو والذي قادتني صدفة الحياة أن أقرأه مترجماً وكان بعنوان (دووسروودي كيوي) ومن هذا الديوان أستعيد متعة الترجمة المفككة والمرتبكة والشعبية لفرهاد وهو يشدو مثل ثمل واحدة من أجمل قصائد الديوان وهما بمثابة ملحمة يتشكل فيها وجود شعب نال معه الشاعر شيئاً كبيراً من قهر الأنظمة والحياة ، والقصيدة هي :(أنشودتان جبليتان) نشرت في الديوان في عام 1977.
لا أدري أن كان ثمة تماثل في المكان من خلال روح القراءة، فالقراءة تصنع التخيل، والتخيل يصنع المكان والمكان يصنع المواددة.
وأنا أقرأ شيركو بكه س لأول مرة كان المساء يتسع على مساحة دخان القذائف، لكن الشجر يغلي بخضرة حاسرة الرأس تريك ما للشتاء من سحر. وعلى حد تعبير غاستون باشلاار : المكان هو مهدنا الأزلي.
لهذا ما افترضته من جدل الملحمة للنشيد الجبلي لشيركو صنع لدي قناعة أن الرجل الشاعر ربما موجود في المكان نفسه.
وهكذا صنعت قراءاتي للنص وتفسيراته على ما تمنحه لي الذاكرة من تخيل مكان الشاعر من أجل صنع فهما متبادلا لما تعنيه الطلاسم الحميمة وهذه الغنائية المتشحة بذات تتفلسف حسب رغبات الروح المتصوفة في مكان صنع القهر فيه لقلب الشاعر وجعاً رومانسياً قاده ليسلك الممرات النيسمية والمغارات ليبدأ كما يقول جيفارا : الحياة التي نودع فيها الشعر والفكر الى حين.
أقرأ شيركو بترجمة فرهاد التي نسيت تعابيرها البسيطة ولكني الآن أعيد ترتيب ما كان يقصده في تلك الجدلية المتسعة المساحة والممتدة على شكل أخدود من الحلم من قليسان حتى وادي توتمان.
وقتها كان إيقاع السماع يعطي جزءاً مختصراً من صوفية شاعر يدرك في رغبة الشروع بالغناء: أن وقيعة الألم تأتي من حدث ذهب بعيداً لهذا تصورت في النص أن المكان يفسر غايته بقسرية عانت كثيراً وهي تنشد لآمالها.
كنت أستمع وأسمع والفرق بين المفردتين على مستوى الشعر أن السماع يقودكَ الى حدود المتعة التي لا تنتهي.
كان شيركو عازفاً على أوتار قيثارات الوجود الذي ملكه للتي بَعُدتْ عنه بفضل المعاناة والقسر.
ولأن المكان يجمعنا بقصدية المفارقة ركنت الى طقس السماع وأرخيت ذاكرة المديح التي أحسها بقدرة مرئية وتحكمت بكل ما قصده في تعامل المتأمل فيما يرى من غيب لقادم بلاده تصنعه تلك الربى بفضل الهموم القومية التي قامت على فرضيات تقرير المصير، غير أن بيكه سه يتعامل مع النص وأنا اقرأه قراءة متأخرة بوعي تلتقي فيه ميتافزيقيات أكثر من حسية طافحة بالتجديد والتمكن من جعل نشيد الطبيعة نشيد أمل لمتغيرات القادم عبر التحدث عن أساطير وأمكنة وحوادث ومشابهات خلقت وعي الفكرة الكردية لتكون أنطولوجيا للبحث عن الهوية عبر منافي الأراضي البور التي نزحت أليها قسريات عهود الأمس على شكل جماعات وعشائر.
أتذكر المكان الذي يطوف فيه وجه الشاعر حيث كمنت الحرب بمسببات وجودها على رقة أمتلكها من جنوب حاسر الرأس وأفترض أن بيكه سه ربما في الجهة المقابلة على سورين أو في كهف من كهوف لاله حمران. وربما يزور خلسة قبر العاشق المحاذي لدومة الأزل الشاهق جبل تاريار، أفترضه يرتدي شروالاً رمادياً ويمسك بندقية برنو وينفخ بدخان غليونه الحجري وهو يراقب التراشق البعيد للمتحاربين،وكأي ماسك لشعلة أولمب يعيد ترتيب جمله الشفيفة وينقل على الورق تفاصيل ترتيب حلم هذه الرواقم التي تتناحر عليها الجيوش في رغبة منهم لتحقيق أمنية الجنرال.
أتصوره جسد يفتعل الحلم فيتحرك باتجاهات القصيدة وربما أراه عبر ألقاء فرهاد الثقيل ينوء بمسافة الصعود أو التخفي عن الوشاة ، غير أنه في آخر الليل في الجانب الذي يقابلني تماماً يشعل غليونه الأزرق ويميط اللثام عن ذاكرته وينشد لصمته تعابير صباحات جديدة يضع فيه مام خططه التعبوية لإثبات أن الكرد موجدون رغم تناحر الفيالق فتجيش في صدره عواطف صوته الكوني وإدراكه بما يمكن أن نفترضه أحساساً بألم الآخر فيرتعد في داخله سادن القصيدة فيلقي بظلال التذكر والوجوم على كل مسببات القدرية الماثلة أمامه على شكل منفى في ليل بلاده حيث الثلج يسطر قساوته المعهودة على تفاوت استقامة الأصابع التي انتهت للتو من كتابة المقطع الأخير في الأنشودة الأولى :
( أينما أكون..وأينما تكونين
لا الفؤاد ينفصل عن حياتك
ولا أنت تذوبين
أنتم يا من ستظهرون
بعد الطوفان الذي غرقنا فيه
تذكروا : بروتلد بريخت.)
تقودني هذه الرومانسية ذات المخيال المتأزم الى العودة لغاستون باشلار مرة أخرى وهو يقول : الأمكنة كلها هي أزمنة تعاني من قلق ما ، لا نتخلص منه إلا مع الإحساس بجمال شييء ما.
ومثل قصد باشلاار يفعلها شيركو هنا ، فأضيف الى مساءه بعض من توهجات الفرضية القائلة : أنه موجود في الجانب الأخر من تلك السماء الرمادية حيث كنت أرى دخان غليونه الحجري يتصاعد مثل جسد راقصة معذبة في الفضاء الرطب لمرتفعات كاني بنكة، أو الدخان الذي يسير محدودباً كراع دخل المائة من عمره في أفق الأودية التي تفصل الرواقم المطلة على حوض بنجوين من هرزلة وحديد صعوداً الى آخر دكة حدودية، وربما أراه هنا قرب ربيئة ثدي الغزال حيث تعودنا أن نقرأ في ظهيرة الشمس الباردة قصائد السياب والبياتي وسان جون بيرس وكافافيس وفجأة دخل علينا شيركو بقصائده من دون استئذان ليعيد ترتيب ذاكرة كل واحد منا وليقرأ بإلقاء أوبرالي ماتيسر له من أناشيده الجبلية فيسمعنا نصه الموهوم بالمحنة والتذكر وبعضا من حفريات التأريخ الكردي والموسوم(برايموك وأغنية الثلج وطفولتي).
يقول فرهاد في رد فعل مبتهجة على زيارة شيركو المفاجأة لربيئة ثدي الغزال:
أن برايموك هو فتوة وشباب البلاد كلها، وأن شيركو جعله أيقونة ليقظة منتظرة ، بل جعله جزءاً من طبيعة المكان وتكوينة عبر مراحل لاتنتهي من زمن بعيد ربما يعود الى أقدم المحميات الأشورية الأولى.
وأضاف فرهاد : أن برايموك يمثل ظلاً لدالية الشجن البسيط في ذاكرتنا نحن رعاية الأمة الكردية.
ولأني أفهم معاناة الأخر أعدت اليوم الى المخيلة ما كنت أفسره في حلم مثل هذه القصيدة، وأعيد بقصد مقارنة الحدث القديم بالمستجد وأصل الى حقيقة أن الشاعر جعل من برايموك رمزاً لوصول الحلم الى متمنيه وأتذكر تلك الهيمنة التي كان برايموك يفرضها على المكان ويتعامل حتى بأسطورية الموروث ودالته، بل هو يمثل الكل لقصد الشاعر عندما يريد أن يقرن طفولته بحلمه وهو ينقل خطوة البحث عن الحرية بين مغارات وكهوف رواقم بلاده :
( برايموك يردد اللاوك
وشرع يغني مع الصدى :
الثلج لا ينام
لو نام الثلج لانبثقت الينابيع البصيرة
لو نام الثلج
لتحول المشتى ملاذاً وقتياً للحجول الحمراء)
تهزني مفردتي الحجول الحمراء ، أراه وصفاً خارج نطاق الحلم، بل أنني أتصور الحجول الحمراء يراعات ملونة بالأغاني التي حرص برايموك على أناشيدها في ليالي الثلج الموحشة عندما كانت طفولة الشاعر تغص بتعبير الإرث الأدبي لأسرته، وكانت كتب قوميته مطعمة بتراث أسطوري عن كل المحطات التي عليه أن يتعلمها خارج نطاق الكتاب المدرسي، لهذا ما يراه برايموك يراه الشاعر نفسه ، ويراه القارئ والمتلقي وناقد القصيدة.
وبعيداً عن برايموك الغائب الحاضر وقريباً منه تتحول أيامي الى ما يُطلق عليه في فضاء الإيحاء : الذهاب بعيداً مع القصيدة وهي تترنم بما موجود من حولي وقد وفرته قصائد بكه سه ولكي أصف الموجود فهو عبارة عن رواقم تشتت علوها في فضاءات لا تشاهد إلا من خلال الأعناق الطويلة، وحين يميل ذلك العنق الطويل الى داخل هذا الكون يمتد تحت ناظره المتأمل نهراً صغيراً يضئ بلمعان الفيروز يسمى نهر هرزله وهو الذي يسقي ظمأ مدينة نال باريس ويروي حقول الفلفل والطماطة والخيار والقرع ، ولا أدري أين يذهب. وحين سألت فرهاد ؟.
قال :أنه يذهب الى حيث يريد الله.
كانت تلك العبارة الصوفية قد أيقظت فيَّ التذكير بمتعة سماع ذلك الرد الجميل ، ولأني أحاول أن أجد ظلاً لشيركو في متاهة الحديث بين صاحبي وتلك القامات الصخرية الهائلة جمعت رد فرهاد البليغ في مقطع شعري من قصيدة لشيركو بعنوان ( مضيق الفراشات ) والمقطع الشعري هذا من جماليات الهاجس الكردي عبر مراحل تفكيره بوطنيته منذ العهد الفيرثي والميدي وحد هذه اللحظة التي قال فيها الشاعر بيته الساحر :
(الرماد أصله كرد
لماذا ؟
الله هو الوحيد الذي في استطاعته أن يجيب..)
الآن وقد رحل بيكه سه في غربته السويدية .ليبقى أيقاع صدى اناشيده تفرغ دهشتها في رأسي لأحسه شاعرا كونيا ورائعا……..!
دوسلدورف 2013