أولا : المندائيون بين الدولة واليونسكو
ــ 1 ــ
المندائيون طائفة غنوصية يصبغُها صفاء قناعتها أن النور للروح قبل الجسد ، وللفردوس قبل حياة الأرض ، ويعتقدون أيضاً أن الذهب زينة الدنيا عندما يكون من عرق الجبين ، وهمسة العاشقين ومهارة أصابع المندائي ، وهم اليوم في العراق يتناقصون ويشحون كما ضفاف يعطش لجريان الماء ، واعتقد أن العراق لن يكون عراقاً بدونهم أو بدون غيرهم من سكان البلد الأصليين .
فهم يمتلكون في هذه السهول والبطائح أزلاً لايُعرف تاريخه لأنه يعود حتى الى أول الأنبياء ، أي انهم كانوا حتى قبل ولادة حرف الكتابة ، وكانوا في أزمنة غابرة أقدم حتى من الزقورات . يسكنون بطائح الماء ، وينعزلون في خشوع صلواتهم ، ويتجولون بين القرى المتباعدة في مدن القصب والسمك ، يقرأون الطالع ويشفون الجرح ، ويصنعون من لمعان المعادن ابتسامة النساء والمخشلات والأغراض المطلوبة لبيت الزوجية ، ويُعتقد ايضاً أن المندائيين الصناع الأوائل للكأس النذري الذي جعله السومريون شارة وجودهم عندما رسموه والفراتين يفيضان منه .
والمندائيون الأقرب الى الماء الطاهر كونه ضرورة من ضرورات التعميد ، فقد يسودُ الأعتقاد انهم ليسوا صاغة للحليَّ فقط ، بل كانوا من صناع المنجل والمطرقة والأواني التي كانت تجرى فيها مراسيم التعميد وطقوس العبادة ، وربما حتى قيثارة شبعاد بصندوقها الذهبي الزخرف بالأحجار الكريمة والعاج قد صنع وصمم من قبل مندائي ما كان يعيش مع ملته بين ظهرانية أهل سومر وحتى قبل أيام ابراهيم ( ع ) .
وقد فُسر التصاقهم بالماء ، بأنه قد يعود في اصوله وجذور المعتقد الى طوفان نوح ( ع ) . وهذا دليل أن صحت تلك المرجعية ، على أنهم من الموحدين الأوائل ، وهذا التوحيد الوثوق فيه تأكد من خلال الذكر الحكيم في أكثر من آية عندما ساوى الصابئة مع اهل الذمة من النصارى واليهود وكما في سورة المائدة قوله تعالى (( إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون..)) ، هذا التشريف الإلهي يمنح الطائفة وثوق القوي في الدفاع عن خصوصيتها وديانتها ووطنيتها ، بل أن المندائي لن يحتاج اي حجة اخرى لوحدانيته بالرغم من أن كتبهم المقدسة والمتوارث من ادعية الصلوات والتعميد وأهمه ما جاء في كتابهم المقدس ( الكنزا ربا ) ويعني الكنز العظيم ، فيه الكثير من السُور والتلاوات والادعية والتصوير والقصص والحكم والشواهد ، ما يدل على أن هؤلاء القوم ينتسبون الى الفكرة السماوية الاولى التي بشر فيها آدم ( ع ) ، ذريته ليكونوا صالحين..والذي يتمعن في قراءة آيات الكتاب وسورهُ سيكتشفَ القيمة والمعنى والدقة في تعامل المندائي مع خالقه ، لأن تعاليم الكتاب لاتحيد عن الذكر ومشاركة الآله الواحد في جميع افعالنا حتى التي تأتي بواسطة الملائكة الصالحين ، وهي في اغلبها تقود المندائي الى ديمومته وصلاح نفسه ، كما في الوسيط النوراني ( زيوا ) ، الذي يعتقد فيه المندائيون روحاً نورانية تهدي الى الصلاح والخير والفضيلة ، كما في الملاك جبرائيل عند المسلمين والذي نقل رسالة الوحي الالهي الى النبي محمد ( ص ) وكان وسيطا لتلاوة مايؤمر به النبي ويُوصى ويُنزل من آيات القران الكريم.
يُوثقُ المندائيون تواريخهم بشيء من الحذر والحصانة ، لشعورهم بأن الأزمنة بتعاقبها لم تكن عادلة معهم ، أي أنهم بسبب عصامية الحفاظ على الأرث وتحاشي تجربة الاندماج الديني والمجتمعي مع الحضارات الأخرى ، ولأصرارهم على الأبقاء على الأرث بذات الصفاء والتداول الحَصري بين الطائفة ، وعدم تأثرهم بأي متغير ديني وطقوسي وتقبلهم الصامت لك فعل ورد فعل ازاء مايأمنون ، تحملوا الكثير من المصاعب والأهمال وبعضها وصل الى حد المجازر ومحاولة افناءهم بحجج تأخذ طابعاً دينياً في بعض الأحيان وعرقياً متطرفاً في أحيان أخرى ، وفيها الكثير من التجني على أساس أنهم من عبدت النجوم ، والبعض ادعى أنهم من ارث الزيرادشتيه مستنداً الى الاصول السكانية الاولى لهذه الطائفة عندما كانت تجمعاتها السكانية في منطقة دهلران والبطائح الممتدة في منطقة الطيب والاهوار المشتركة بين العراق وأيران. وبعضهم أستند الى تأويل بعض العادات والطقوس دون معرفة الجوهر والمدونات المقدسة لهذه الطائفة ومنها كتاب الكنزا ربا وتعاليم يحيى وغيرها ، ولم ينتبهوا في هذا التعامل القسري الى أي نص قرآني يؤكد على أن الصابئة من أهل الذمة ، وهم في هذا وحدانيون ، وتلك مسألة اخذت من دراستها وطراً في محاولة السيد الخامنئي دراسة تاريخيتهم ومرجعيتهم الدينية ، وله في هذا الأمر فتوى قاطعة وأستنباط موثق في رسالة بحثية على أن الصابئة المندائيين أصحاب كتاب وهم من أهل التوحيد.