توطئة : إن أوجاعنا وخيباتنا المأزومة والمزمنة ربما بقدم وعراقة هذا الوطن المستباح منذُ تأسيسه المنحوس في 1921 حتى المحتال ” بريمر ” يدفعنا للبحث عن الخروج من الوحل الأمريكي أو ربما البحث عن تلك القشة المنقذة بالأستعانة في أستنساخ بعض التجارب العالمية الناجحة في تغيير الحال مثل ( نموذج التجربة الديمقراطية التنزانية الرائدة )
العرض يقع الأقليم التنزاني التي قامت عليه لاحقا دولة تنزانيا في أواسط الساحل الشرقي لأفريقيا ، مساحتها 900 ألف كم2 ، نجحت التجربة التنزانية لكونها لم تنصاع لآملاءات الغرب في التنمية المجتمعية ، بدأت بمحاربة الفساد الأداري والمالي بتفعيل القانون ومحاسبة المتهم مهما كان مركزهُ حسب شعار الحكومة المكتوب بحروف واضحة ” إذا أردت تنظيف الدرج فعليك أن تبدأ من الأعلى ” ، وإن هيكلة الحكومة على النمط الرئاسي وليس البرلماني لأن المعارضة السياسية المطلوبة في النظم الديمقراطية لا ولن تنجح في النظام البرلماني كما لمسنا فشلها وغيابها في حكومات العراق منذ 2003 ولحد الآن ، ويقوم الأقتصاد التنزاني على مبدأ الأندماج والتكامل الأقتصادي بين جزر الأرخبيل الذي يشمل أقليم زنجبار وأقليم تنجانيقا ، ويبلغ أجمالي الناتج المحلي لتنزانيا حوالي 50 مليار دولار ( حسب بيانات البنك الدولي ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية ) .
ساهمت شبكة شركات أجنبية رصينة ومشهودة المصداقية وبأشراف ومتابعة رئيس الدولة وعلى الشركة أن تقدم تقريرها الأنجازي كل ثلاثة أشهر ، وهذا البرنامج الأستثماري التنموي يعود إلى ثلاثينيات وأربعينيات نهاية القرن 19 وبدايات القرن العشرين وبدأت مؤسسات الدولة تأخذ هيكلية شكلها السياسي والأقتصادي والأجتماعي مع مؤسسات مالية لتلبية حاجات التأمين والتسليف والأسكان وهو مما أدى إلى أزدهار الصناعة والسياحة مقرونة بخدمات وسائل الأعلام في ترويج الصناعة والسياحة ، والذي يلفت النظر هوأن سياسة التنمية والتطور يبدأ من برنامج أسمه ” دعم الريف الساحلي ” وتوفير الخدمات البيئية للأرياف لتقليل الهجرة من الريف إلى المدن وكذلك التقليل من الهجرة الخارج .
جمهورية تنزانيا الأتحادية تقع في شرق وسط أفريقيا ، تشرف على المحيط الهندي من الحدود الشرقية ، هي أفريقيا —ببشرتها السوداء وقلبها الأبيض ، لا تفتأ أن تذكرنا بتأريخ مضيء وآخر مظلم ، وتستحضر أمامنا أرواح أولئك المناضلين الذين تحدوا الأستعمار والعنصرية بصدورٍ عامرة بالتضحية أمثال( لومومبا ومانديلا ) .
الرئيس” جون موغافولي”John Magufuli 1959تولى السلطة عام 2016محبوه يلقبونهُ ب ( البلدوزر) وصاحب المكنسة الذي أضاف لسجلهِ الحافل بالنظافة عندما كان وزيراً للأشغال العامة ، وأستمر بعد أستلامه الرئاسة في حمل شعار ( المكنسة ) حيث ينظّمْ لآلاف المواطنين في حملة لتنظيف شوارع العاصمة ” دار السلام” بالتزامن مع ذكرى أستقلال البلاد ، ورحب المواطنون بمكنسة ” ماغوفولي ” في تطهير الفساد المستشري في البلاد منذُ عقود ، كثيراً ما أشتهر بزياراتهِ المفاجئة لمواقع تشييد الطرق لكشف أنشطة الفساد ، وأنتشرت أخبارهُ عبر التواصل الأجتماعي وتويتر ووسائل الأعلام في نشر ثقافة المواطنة والتقشف ومحاربة الفساد ، ونهجه في تخفيف حدة الأنفاق الغير ضروري ، ويركز على الأصلاح وتوفير الخدمات ، وتعزيز تحصيل الأيرادات وشعارهُ المثل السواحيلي : { أذا أردت تنظيف الدرج فعليك أن تبدأ من الأعلى } لذا رحب التنزانيون بالتدابير المبتكرة التي أنتهجها الرئيس الجديد ” جون ماغوفولي ” في مكافحة الفساد تلك الحملة الوطنية لأجتثاث الفساد الأداري والمالي والتي كسبت الأستحسان ليس من داخل تنزانيا فقط أنما عبر القارة الأفريقية حيث يبشر عهدهُ (بنموذج) يحتذِي بهِ غيره من القادة الأفارقة بالرغم من أنهُ لم يمضي في منصبه شهرا واحدا ، وفي أول يوم لهُ في السلطة ، نظّم زيارة مفاجئة لوزارة المالية حيث وبخ وعاقب موظفي الخدمة المدنية الذين لم يكونوا في مكاتبهم ، كما أنهُ ألغى مظاهر البذخ في الأحتفالات يوم الأستقلال لتوفير الأموال لشراء أسرّة للمستشفى العام في تنزانيا ، وحظر السفر إلىى الخارج لجميع موظفي الحكومة ، وفي زيارة مفاجئة غير معلنة عنها للمستشفى الرئيسي للدولة وجد المرضى ينامون على الأرض فأقال على الفور مدير المستشفى وحلّ مجلس أدارته ، وزيارة أخرى مفاجئة أيضا لميناء دار السلام وأكتشف تجاوزات ضريبية كبيرة تصل إلى 40 مليون دولار مما جعل رئيس سلطة تنزانيا قيد الأعتقال جنبا إلى جنب خمسة من كبار مساعديه في أنتظار تحقيق جنائي ، ونالت تدابيرهُ الجذرية الأستحسان والثناء والتقدير من معارضيه ، حيث قال حزب التحالف من أجل التغيير : لقد بنينا معارضة قوية قائمة على أساس أجتثاث الفساد ، والآن لدينا رئيس قرر الأنظمام ألينا — فلماذا نعارضهُ؟؟؟
ومن أقواله : أن لا شيء يحمي الدولة من الخراب سوى سياسيين صادقين في العمل وفي الأعتراف بالتقصير في الصح والخطأ ، راتبهُ الشهري ( 3 -4 ) اربعة آلاف دولار أي ما يعادل بالدينار العراقي خمسة ملايين دينار في الشهر – بينما تشير مصادر عراقية مطلعة إلى أن الرئاسات الثلاث تكلف رواتبها خزينة الدولة العراقية مبلغا يتجاوز 15 مليار دولار سنويا وهو ما يتجاوز ثلاثة أرباع ميزانية تنزانيا البالغة 2-22 ملياردولار سنة 2016 وتتجاوز ميزانية دولة مجاورة – وهذا التفاني والأخلاص وحب الأوطان أوصلت ” جمهورية تنزانيا إلى مصافي الدول المتقدمة في وضوح الدولة المؤسساتية وفصل السلطات الثلاثة والقضاء العادل والتعليم الشامل وتقزيم البطالة وحفظ المال العام بأستعمال القبضة الحديدية في محاسبة أي كان من رموز الدولة بدون أستعمال { عفا الله عما سلف }وقد يعزوا بعض الخبراء الأستراتيجيين هذا التطور ولعقدٍ من الزمن ألى :
1-أزدهار فكرة التعايش الديني والأثني . 2- لم تسمح الحكومة لترسيخ مبدأ القبلية بقدر ما بذلت جهداً مضنياً في تعزيز هوية المواطنة .3- التناوب بين المسلمين والمسيحيين في تداول السلطة ، بأتباع ” النهج ” التوافقي الديمقراطي الذي يعتبر حامياً لذلك التعايش الديني والأثني . 4- شمولية التعليم وبشكلٍ عادل . 5- محاربة التطرف والأرهاب ولم تنصاع لأملاءات الغرب في هذه المسألة الخطيرة . 5- لم تتورط تنزانيا في المستنقع الصومالي . 6- قيام الرئيس التنزاني الحالي بحملة أعتقالات دون هوادة لأرهابيين تنزانيين متشددين عابري الحدود الصومالية بهدف الأنظمام لحركة الشباب الأرهابية الجديدة . 7- أصبحت تنزانيا دولة مستقرة بفضل تلك التدابير الوقائية ربما ستشكل سدا منيعا أمام أي أنزلاق تنزاني نحو صراع عرقي أو ديني في المستقبل .
أخيراً/ حرمانات كوميدية صرنا نكابدها ونعيشها ونحن مرغمين ، ما زلنا نفتش في المعاجم القديمة عن كذبة كبيرة تدعى الوطن ، وإني أرى وطني مصلوبا على حائط الكراهية أو ككرة الثلج وهي تنحدر بسرعة فائقة رهيبة نحو سحيق الهاوية بأنتظار الثقب الأسود ، والغريب الجديد أكتضاض المنافي بهذا الوطن المنسي ، وكما يقول نزار قباني : (— فالجميع مواطنون دون وطن ، مطاردون على خرائط الزمن ، موتى دونما كفن ) ، والأغرب في عالم ( غيتس ) الأبله إنهُ لم يكتشف جغرافيتنا ولا تأريخنا في تصريحه اللئيم { لقد ألقي القبض على وطنكم المقتول ، وأطلق سراح القاتل } فهو الوطن الوحيد الذي تشتت بين خرائط العالم ذات النفق الواحد بنهاية مغلوقة معتمدة ، وهي نهاية مأساتنا التراجيدية ، وتبدو وكأنها تفتقد مسك الختام —- بل محرمٌ عليها .
هوامش:
سعيد أسماعيل ندا ( مستقبل التجربة الديمقراطية في تنزانيا)
سيد عبدالمجيد بكر (الأقليات المسلمة في أفريقيا ) نت
كاتب وباحث سياسي عراقي مغترب
في تشرين الثاني/ 2021