23 ديسمبر، 2024 1:23 ص

في كوالالمبور… مَنْ سمع ليس كمن رأى!

في كوالالمبور… مَنْ سمع ليس كمن رأى!

شكَّلت الرحلة، اليد التي ستظلُّ ممتدة لتقرب شعوباً تباعدت عن شعوب، وفصلت فيما بينها بحار وقفار وثقافات وأفكار. وقد مثلت انطباعات الرحالة العربي فرنسيس مرّاش الحلبي (ت: 1874) عند زيارته باريس في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي نموذج الرحالة العربي المعجب بحضارة الغرب المختلفة، وطرق التعايُش والحرّية التي يتمتع بها كل فرد في ذلك المجتمع. ولهذا يقول: “الأمَة الفرنساوية تتموج على بعضها كقطعة واحدة بدون نزاع جزئياتها ولا انقسام في كلياتها، سابحة في بحور الأمن والسلام بدون خوف من واثب أجنبي، أو حسود غادر.. رافلة بأذيال الحرية الكاملة بدون خشية من التعثر بأشواك سيادة بربرية أو سلطة ضارية”. ولَعلَّ رحلتي الأخيرة إلى ماليزيا حملت ذات الانطباع، التي يحملها الرحالة بعد زيارته إلى بلاد الغرب.
كانت صورة ماليزيا في ذهني هي صورة البلد الذي سمعت عنه الكثير من أسفار التجار العرب والمسلمين القدامى الذين جالوا في أرخبيلات جنوب شرق آسيا، أو من السياح المعاصرين الذين ينشرون الأحاديث والتصورات عن أهم المعالم المدنية الشرقية، والنهضة العمرانية والتقنية في ذلك البلد اليوم.
تقع ماليزيا في جنوب شرق آسيا، وتتكوَّن من مجموعة من الجزر المُحاطة بمياه المحيطين الهندي والأطلسي من جميع جهاتها، ويغلب عليها المناخ الاستوائي، نظراً لقربها من خط الاستواء. وتضم ثلاث عشرة مقاطعة تشكل جميعها مملكة اتحادية عاصمتها كوالالمبور، وتبلغ مساحتها نحو 330 ألف كم2. ويتجاوز عدد سكانها الثلاثين مليون نسمة في آخر إحصاءاتها، ويتوزع السكان على مجموعة من الأجناس، وهم الملايو سكان ماليزيا الأصليين، والهنود والصينيون الذين استقروا في ماليزيا عبر الرحلات التجارية أو أنهم أتوا مع المُستعمِر البريطاني، حيث نقلت بريطانيا الآلاف من سكان مدن بومباي وهونغ كونغ إلى الجزر الماليزية، واستقروا بها.
حوار وتثاقف فكري
توقعت أن تكون زيارتي الأولى لماليزيا، بقصد الاصطياف والمشاهدة والرحلة بمعناها الترفيهي، ولكن لم أتوقع أن تكون الزيارة الأولى بقصد البحث، والمشاركة بمؤتمر علمي للتاريخ فيها. فقد كان تكليف معهد الدوحة للدراسات العليا لي ولاثنين من زملائي في برنامج التاريخ بالمعهد لحضور فعالية علمية في ماليزيا ترتبط بالحوار والتثاقف بين الشعوب التي شكلت الأمة العربية الإسلامية أو الأمم التي عاصرتها، فرصة محفزة للتعرُّف إلى تفاصيل ذلك البلد، وجميل معالمه الحضارية عن قرب.
في فندق بوسط العاصمة الماليزية كوالالمبور، بدأت صباح يوم الجمعة بتاريخ 28 أبريل 2017 أولى جلسات المؤتمر العلمي الدولي الثالث للمخطوطات والوثائق التاريخية وكان هذا اليوم مخصصاً للتعريف بالضيوف وبجدول أعمال المؤتمر الذي أشرفت عليه عدد من المؤسسات الأكاديمية والبحثية العربية والماليزية والتركية، وأبرزها الجامعة الإنسانية وأكاديمية فلسبي ومعهد السُنة والتراث النبوي للدراسات ومركز العتبة العباسية المُقدسة وجامعة صقاريا التركية، وجهات مشاركة أخرى. وقد انضم للمؤتمر عدد من الباحثين والمؤرخين من عشر دول عربية وأجنبية أو يزيد. وتنوعت المحاور العملية بين دراسة الوثائق الدينية، ومناقشة واقع اللغة العربية ودورها في النهوض الحضاري، والخطاب القرآني ودوره في حفظ التراث الإسلامي. وتطرقت مواضيع أخرى إلى فن الزخارف والنقوش الإسلامية، وكيفية تحقيق المخطوطات، وترميم الوثائق بالاعتماد على بعض النماذج التاريخية المختارة من تراث العراق القديم. كما جرى بحث أساليب فهرسة المخطوطات التاريخية القديمة، وطرق المسح الضوئي للمخطوط، وأهم أدوات ومناهج تحليل الوثائق بأنواعها المختلفة.
فضاءات عامة..
لم تكن زيارتي لماليزيا ذات هدف واحد فحسب، أيّ المشاركة في ورشة بحثية تاريخية، وإنما كانت الرغبة في التعرُّف إلى ثقافة المجتمع الماليزي، والاطلاع على أصول التعايش بين أبناء الجاليات العربية والأوروبية والماليزيين والشرقيين في ماليزيا، ومدى الاختلاف في الثقافة الغذائية والقيمية والأخلاقية بينها من أهم ما قصدته في الزيارة. وكانت أيام المؤتمر فرصة للتعرف على شباب عربي من أقطار مشرقية ومغربية، أيّ من الجزائر ومصر والسودان والسعودية وسورية وليبيا، سواء باحثين أو طلاب جامعيين.
إثر انتهاء أعمال المؤتمر، بدأت الرحلة الثقافية الفعلية في فضاءات كولالمبور وما حولها، فقد انتقلنا من الفندق الذي استضاف المؤتمر إلى منطقة قرب كوالالمبور، وتدعى منطقة جينتنج هايلد Genting Highlands، والتي تشكل منطقة اصطياف للمتنزهين الماليزيين، والسياح الصينيين والهنود والعرب وغيرهم. في هايلد تستشعر اللوحة الطبيعية التي ترتسم في أذهان كل سائح في ماليزيا، هناك ترى الإبداع الإلهي الخلاق، حيث الجبال التي تغطيها الغابات الكثيفة المتشابكة، وتشقها المجاري النهرية المنسابة، ويغطي المشهد جو ضبابي يُنعش الصحة ويريح البدن، وكان التل فريد هو السبيل للتعرُّف إلى تلك اللوحة الرائعة بكل تفاصيلها.
لم أتوقف في رحلتي عند هذه الزيارة، إنما انتقلت في الأيام التالية إلى مناطق أخرى محيطة بكوالالمبور. فزرت غابات تمبلر بارك Templer Park، والتي تبدو لزائرها وكأنها جزء من سينما كرتونية تنتمي لأدغال الأمازون أو تعود لمرحلة العصر الوسيط، فتشهد الحيوانات البرية الأليفة بأنواعها، والبرك الطبيعية والشلالات النهرية التي تنحدر من الأعلى، ويتجول فيها كثير من المصطافين والسياح لالتقاط الصور والسباحة في غمرة الشلالات الخفيفة المنحدرة. ومن ثَمَّ زرت معبد شاينيز تمبل في بلدة بتكيف Batu Cave الدينية العريقة. خلال انتقالي بين معلم وآخر، كانت الأمطار الاستوائية تهطل بغزارة وتجلٍ عذب، وتضفي على المكان بهاءً وجمالاً طبيعياً، وتموج اللوحة الطبيعية بألوان مائية إضافية. وبعد تلك الجولة، توجهت لزيارة القصر الملكي في العاصمة. والقصر هو المسكن الرسمي لجلالة ملك البلاد، وهو يبعد قليلاً عن مركز المدينة، ويقع على هضبة صغيرة، ومحاط بمعالم خضراء جاذبة، ويحتوي في حديقته الأمامية على نباتات وزهور لامعة فواحة تتفتح طوال أيام السنة. وفي ساحة القصر تجري العروض الطقوسية الصباحية والمسائية من قِبلِ فرق الفرسان والخيالة الملكيين عند تبدل نوبات الحراسة اليومية، وكما ترى القصر الملكي بأنه المركز الرئيسي للاحتفالات والمناسبات الرسمية التي تخص ماليزيا.

انتهت الجولة الختامية، بيومٍ للتجول والتسوق في كولالمبور، حيث قمنا بزيارة برجي المدينة الكبيرين بترناس التوأم Petronas Twin Towers، وهما برجان تجاريان تم بناؤهما على مدى ست سنوات بين عامي 1998 و2004، ويبلغ ارتفاعهما نحو 375م. فالزائر يشهد روعة المكان حولهما، فتجد الحدائق المزدانة بالنوافير المائية الملونة، وترى الأعداد الكبيرة من السياح بجانب البرجين يلتقطون صور السلفي من جهاته الأربع، ولا سيما حين تزور المكان ليلاً. وبعد ذلك زرنا السوق الصيني في المدينة Chines Town، وفيه التقيت لأول مّرَّة بالتجار الصينيين، ولحظت مدى النشاط والجدة في عملهم، وطرقهم في جذب الزبائن والزوار إلى زبائنهم، ولا سيّما إذا كان الزائر الزبون عربياً، إذ على الفور يلتقطه التاجر الصيني، ظاناً بأنه عثر على ثروة لا يجوز له تبديدها، وما يميز هؤلاء الباعة – بغالبهم – هو امتلاكهم القدرة على التحدُّث باللغات الصينية والإنجليزية والعربّية في آنٍ واحد.

شارع العرب..
في مساء كلّ يوم من أيام زيارتي لماليزيا، كنت أخرج إلى شارع يُسمى شارع العرب في كوالالمبور. وشارع العرب يقع وسط المدينة الكبيرة. فهناك تجد المقاهي العربية على جانبيه، ولا تشهد التواجد العربي الكثيف فحسب، بل تشهد الثقافة العربية بفنونها الشعبية ومطابخها التقليدية التي تُقدم الأكلات المغربية واليمنية والسورية والعراقية.. حيث يبدو التناغم الحضاري بين ثقافات عربيّة وآسيوية ماليزية وصينية وهندية. وهناك أمام شارع العرب ساحة عامة، تمارس فيها جميع النشاطات الترفيهية والروحية، فمن الاسترخاء والراحة في المقاهي الشعبية إلى الرقص والغناء، إلى مشاهدة أشخاص يجلسون على طرفي الطريق يقرؤون القرآن والكتب الدينية أو الجرائد أو يحملون مجلات عروض الأزياء، ومنهم من يتداولون الأحاديث بشأن العمل أو الدراسة الجامعية أو الأوضاع السياسية والاقتصادية العالمية. وكما شاهدت في الأحياء المقابلة لشارع العرب المطاعم الصينية الممتدة في شوارع عامة وفرعية، وفيها مأكولات مختلفة كلّ الاختلاف عن الثقافة الغذائية العربيّة السائدة هناك.
ليست المدينة الماليزية، مُجرد سكان وعمران مُتطوّر وأحياء تخترقها أزقة عريضة وأخرى ضيقة بل هي انبثاق للعقل الخلَّاق، ونتاج خطة محكمة قائمة على التخطيط والدقة المتناهية. فكيفما توجه المرء لا يرى سوى ظرافة البناء، وحسن الانتظام والهندسة، والحدائق الباهرة، واللوحات الطبيعية التي تغطي مشهد مدينة كولالمبور والمدن الماليزية الأخرى. وتستمر المدينة في ازدهارها نتيجة العمل والإنتاج والتطلع نحو الأجمل والأفضل، فما للكلل هنالك موقع ولا للملل موضع، فهناك الجميع يسيرون بثقة نحو الأمام.
أهم ما يمكن أن أختم به زيارتي ومشاهداتي بالقول، لاحظت خلال تلك الزيارة النمط التعايُشي الثقافي والحضاري لدى الأجناس عربية وملوية مسلمة، وصينية وهندية هندوسية وبوذية وتاميلية ومسيحية. وما يلفت النظر المكانة العظيمة التي يتبوأها المقيم أو السائح العربي لدى أهل البلد. وكما أنه على الرغم من التعقيدات الإدارية التي تشهدها في مطارها الشهير وما سمعناه عن بيروقراطية ورتابة الدوائر الحكومية في ماليزيا، ولكنها لا تتقاطع مع البيروقراطية والمحسوبية العربية إلا قليلاً، فهناك تجد جميع أهل البلد يتطلع للعمل الحقيقي، وليس لهم هماً سوى النهوض ببلدهم، ورفع مكانه، وتحقيق الازدهار له.
انتهت الرحلة في 5 مايو 2017، وحملت معي إلى قَطر انطباعات جديدة عن بلدٍ آسيوي مسلم سمعت عنه الكثير، ولكن حقاً كما قال المثل “مّنْ سمع ليس كمَنْ رأى”. فقد أظهرت رحلتي لماليزيا بأن السفر جامعةٌ زاخرة تحفل بالدروس والعبر، وتحتشد بالعلم والمعرفة، وتزيد في الفهم والإدراك، وتصقل الشخصية بفضل جدة التجربة ورهبة المغامرة في كل شأن، والاطلاع على الطبائع المختلفة والاعتياد على الغريب، وبداية التمرس بمعاملته.