كأننا لم نزل نعيش عهد الدكتاتورية الشمولية .. المعرفة محرّمة على الرعيّة. هي حقّ مطلق وملك صرف للحاكم وأزلامه.
كأننا لم نستفتِ منذ ثلاث عشرة سنة على دستور يعلن منذ مادته الأولى أنّ نظام الحكم في العراق “جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي”، فالمعرفة لم تزل حِكراً على الحاكم، وليس علينا نحن الرعية سوى السمع والطاعة لمَن ما كانوا سيكونون في مناصبهم ووظائفهم لو لم يكن لدينا هذا الدستور.
وزارة الداخلية أعلنت في بيان أول من أمس أنّ الوزير قاسم الأعرجي: “في إطار الاهتمام الكبير الذي يوليه لمعالجة الظواهر السلبية كافة ومنها الظواهر التي تسيء للآداب والذوق العام”، ترأس “اجتماعاً هاماً لدراسة الآثار السلبية لظاهرة تناول الخمور على الأرصفة وفي الطرقات والأماكن العامة وما يؤديه ذلك من مضايقات للعوائل ومستخدمي الطرق والمارّة”.
هذا جيد جداً، فهذه الظاهرة تتفاقم في بغداد. هي مزعجة كثيراً بل مؤذية .. غير الجيد أنّ الوزارة اكتفت بالقول في بيانها إنّ “الاجتماع تضمّن دراسة سبل معالجة هذه الظاهرة على وفق القوانين النافذة كقانون هيئة السياحة رقم 14 لسنة 1996 والقرار رقم 82 لسنة 1994 والتعليمات الصادرة بموجب القانون رقم 4 لسنة 1994″، مشيرةً إلى أنّ الأعرجي “أصدر التوجيهات المناسبة بشأن الموضوع”… هذه معلومات ناقصة جداً، كما لو أنّ الأمر سرّ عسكري أو أمني خطير، والحال كان يتعيّن أن يوضّح البيان “التوجيهات المناسبة” الصادرة عن الوزير. من حقّ عموم الناس أن تعرف كُنهَ هذه التوجيهات والإجراءات المترتّبة عليها، ومن حقّ المقصودين (شاربي الخمرة على الأرصفة وفي الطرقات والأماكن العامة) أن يعلموا أيضاً.. الشفافية تنقصنا.
الأهم من هذا كله هو: لماذا يشرب بعض الناس، وبخاصة الشباب، الخمرة على الأرصفة وفي الطرقات والأماكن العامة، ولماذا أصبح هذا ظاهرة ؟
ببساطة لأنه لا تتوافر لهم الأماكن المناسبة التي تحفظ كرامة الشارب ومستخدمي الطريق العام وتفرض احترام النظام العام. الدولة، وبخاصة الحكومة، لم تتعامل مع هذا الأمر على النحو الصحيح .. من المفارقات الكبيرة على هذا الصعيد أنّ تناول الخمور والاتجار بها غير محظورين في البلاد، لكنّ بعض المحافظات تحرّمهما، ومع ذلك فإن الخمور موجودة فيها بكثرة ويجري الاتجار بها وتناولها سرّاً، وبعض المتاجرين بها هم من موظفي أجهزة الدولة المدنية والأمنية.
بحسب معطيات وزارة الثقافة والسياحة فإنّ في بغداد يوجد 1700 نادٍ ومطعم ومشرب ودكان تقدّم الخمور وتبيعها علناً، بيد أنّ 90 بالمئة منها غير مرخصة من الوزارة. عدم الترخيص يحرم الدولة من عشرات ملايين الدولارات هي قيمة الرسوم التي كانت ستُفرض على هذه المحال لقاء الحصول على الإجازة. في المقابل فإن الـ 90 بالمئة من باعة الخمور والمتاجرين بها يدفعون ما يعادل عشرات ملايين الدولارات إلى الميليشيات والعصابات التي ترغم أصحاب الدكاكين والمطاعم والمشارب والفنادق على الدفع مقابل توفير الحماية لها.
الحلّ السليم والناجع للمشكلة التي بحثها اجتماع وزارة الداخلية هو في تنظيم عملية تناول الخمور والاتجار بها بمنح الإجازات للباعة وفرض الرسوم عليهم وتأمين الحماية لهم، والتشجيع على فتح محال للشرب رصينة وليست مبتذلة كالتي تنتشر الآن وتحوّل الكثير منها إلى مباغٍ أو ما يشبهها (إقليم كردستان مثال يمكن الاحتذاء به).
المنع وسواه من الإجراءات القسرية ليس حلاً.. إيران والسعودية من أكبر البلدان الإسلامية المحرّمة للخمور بيعاً وشراءً وتناولاً، لكنّ تجارة الخمور وتناولها مزدهران في هذين البلدين ربما أكثر من ازدهارهما في بغداد وإقليم كردستان.