ليس من المبالغة , القول : بأن المدونة الابداعية العربية لم تشهد خلافا حول مصطلح ما مثل خلافها حول مصطلح قصيدة النثر , ولعل ابسط ما يقال في تعليل ذلك الخلاف : انه خلاف آيديولوجي قبل ان يكون خلافا فنيا او لغويا , فالرافضون لهذه التسمية ينطلقون من خوفهم على هوية متحققة منذ مئات السنين متمثلة في الوزن الخليلي , والبلاغة الاثيرة , اما الداعون لها فيرون انها تسمية تنطلق اساسا من مطلب حضاري يتمثل في ممارسة الحرية في احقية اعادة النظر في المفاهيم السائدة ومنها مفهوم القصيدة نفسه .
لذلك فأن مصطلح : قصيدة النثر لا يمثل ازمة الا عند من يرون : ان كسر الثابت , والقار , والنمطي يعد مجاوزة فجة , وفعالية غير محببة , وبذلك فأن هذا المفهوم ـ بحسب اولئك ـ يمثل خرقا اقل ما يوصف به انه سبب اضطرابا وفوضى وخلطا بين الابداع الحقيقي والابداع الزائف .
ومما لا شك فيه ان بعض هذه الاتهامات جديرة بالتأمل , لا سيما اتهامهم لقصيدة النثر بإشاعة الفوضى وتغييب الحدود بين الاصيل والزائف .
فمن نافلة القول ان قصيدة النثر اصبحت مأوى لكثير ممن يستهويه لقب الشاعر , ولذلك اصبحت ـ في الوقت ذاته ـ مرمى قريب المنال لمنتقديها , وميدانا خلافيا محتدما بين كتابها انفسهم , ويبدو ان مرد ذلك يكمن في التسطيح المتعمد لجماليات النص الابداعي , والانفلات غير المشروط احيانا من قواعديات الكتابة , والعبث غير المبرر , والاستسهال السردي .
فضلا على ان مرونة حدود هذ الجنس الادبي , وهلاميتها , وصعوبة انضوائها داخل سياقات محددة , واشتباك ميكانزمات الاشتغال داخله , جعل منه جنسا عصيا على التعريف والحد .
لكن في الوقت ذاته يجب ان لا ننسى ان قصيدة النثر لا يمكن ان تحاكم بالاستناد الى معطيات اللغة والفن , فهي ـ في واقع الامر ربما تقع خارج متناول التفسير اللغوي الذي لا يسعفنا في تبرير وجودها , فالمدلول الفلسفي لهذ الجنس ـ على الاقل في نماذجها الاولى ـ يتجاوز ذلك التفسير , وبعدم اللجوء الى المنطلقات الفلسفية لقصيدة النثر لا يمكن فهم آليات التناقض , واللا تجانس , والاحتفاء باللا قواعدية , فهذه كلها منطلقات فلسفية تناقض تماما مسلمات اللغة واصولياتها القائمة اصلا على ما يضاد تلك المنطلقات الفلسفية .
لقد عكست قصيدة النثر الحساسية القرائية الجديدة , فهي ليست نتاج صراع مزدوج بين قديم ثقافي , وحاضر متجدد فحسب , بل لقد اصبحت مطلبا ملحا للحاق بثقافة مغرية , مشتهاة , وان كانت هذه الثقافة قد خلعت رداء النمطية المحبب كليا .
لقد بدت قصيدة النثر في ظل هذه الثقافة الجديدة وكأنها ابن ـ لم يكتسب ملامحه الواضحة ـ لزواج قسري بين ثقافتين : عربية رصينة لا تقبل التغيير الا بصعوبة , واخرى مستجدة وافدة .
من جانب آخر مثلت قصيدة النثر منعكسا شرطيا للمكبوت العربي الذي يختزن كل تلك الآمال والطموحات في الانفلات من ربقة العروض , والسائد , والقار بكل تبعاته الآيديولوجية , ومصادراته لعوامل تهشيم صنميات اللغة والبلاغة التقليديين .
ولا بد من القول ان الاجناس الادبية تولد وتختفي تبعا لإشترطات ذاتية محضة واخرى موضوعية , ويبدو ان هذا المبدأ لا يقتصر على زمان ثقافي معين مثلما لا يقتصر على جنس ادبي بعينه .
وقصيدة النثر لا تشذ عن هذه القاعدة فبوصفها جنسا ادبيا فرض نفسه بشكل واضح في السنوات الأخيرة لابد ان تخضع لتلك الاشتراطات , وبالتالي يصبح البحث عن المبررات التي أوجدت ميلاد قصيدة النثر واستمرارها سؤالا عن شرعية هذه القصيدة , ولابد ان يتساوق هذا السؤال مع السليقة المنطقية التي ترى ضرورة ارتكاز الاشياء جميعا على شروط موضوعية وذاتية متحكمة في جودها وديمومتها , وعلى الرغم من كثرا المعارضين لقصيدة النثر , والشاكين في شرعية وجودها الادبي , يمكن القول ان هذا النوع من الادب لم يكتسب وجوده لو لا توافر تلك الاشتراطات التي تمثل تطورا طبيعيا للشعر , واستجابة لمتغيرات الزمن .
لم يعد هناك اي بد من مسايرة اليومي والعرضي والمسكوت عنه في زمن لم تعد المعالجات الكلاسيكية ولا الرومانسية قادرة على الكشف عن مخبئاته , لذلك كان ميلاد قصيدة النثر بعد مخاض عسير ابتداءا من احتفاء الشاعر بالتلاعب بجماليات اللغة لينتهي الى الاهتمام بانطباعاته الحدسية , ليصوغها في تقريرية تداولية لم تكن معهودة من ذي قبل في معالجات الكلاسيكية للواقع الاجتماعي اوفي المعالجات الرومانسية لعلاقات المجتمع الرأسمالي , ولا في معالجات السوريالية المحكومة بمخلفات الحرب العالمية الثانية . وبذلك كانت محاولات : بودلير , وملارميه, ورامبو , واليوت, وباوند , وطاغور , وغيرهم تمثل استجابة طبيعية محكومة بزمانها وظروفها .
وفي واقعنا العربي يمكن تحديد البدايات المبكرة لميلاد قصيدة النثر مع بزوغ النهضة العربية الحديثة فكانت كتابات نقولا فياض , وخليل مطران , وجبران خليل جبران , وامين الريحاني .
لكننا مع مجلة شعر ، ومحاولات محمد الماغوط , وانسي الحاج وادونيس , ويوسف الخال يمكن ان نجد تأسيسا واضحا لقصيدة النثر العربية متأثرة بالنموذج الفرنسي لا سيما تنظيرات سوزان برنار في كتابها قصيدة النثر ، على الرغم من ان تلك النماذج ـ اذا استثنينا كتابات ادونيس ـ لم تكن دائما بمستوى ذائقة القارئ العربي وبذلك ظلت معزولة بعيدا عن متناول المتلقي العربي ، ويبدو ان هذا النفس المغترب ظل مسيطرا على قصيدة النثر حتى السبعينات , يقول الاستاذ عبد العزيز موافي ((وهكذا بدأ النموذج الجديد في الصعود من الهامش الى المتن …. وفي نفس اللحظة بدأ التجريب الحداثي مصحوبا بالتجديد الذي بدا بدوره جزءا حيويا من منظومة التغيير الشامل في الذاكرة الشعرية فالتجريد يعني غياب المضامين وبمعنى اخر غياب الواقع ومن خلال الحدس الصوفي او الميتافيزيقي بدأ الشعراء في خلق عوالم اخرى ما ورائية ليس فيها من الواقع الا مجرد واقع لغوي … كلمات تتمرد على الدلالة واشكال تتمرد على مضامينها)) ص21 .
ومع صعود الاصوات المعارضة بدأ كتاب قصيدة النثر بالتخفيف من حدة التجريد اللغوي مع الاحتفاظ بما ذكرته سوزان برنار من ضرورة الايجاز او الكثافة والتوهج او الاشراق واللازمانية , والاهم من ذلك ارتباط الشاعر باللغة وحدها وانسلاخه من اي ترسبات ايديولوجية او توجهه كليا الى الاهتمام بالمحايثة اللفظية والابتعاد عن التصوير البصري واتباع آ ليات كثيرة في الصنعة الكتابية مثل : السردية والتداعي والتكرار والفراغات والتنقيط والتناصات الواعية مع علوم الطبيعة والرياضيات .
لكن هذا كله جعل من قصيدة النثر خيمة كبيرة مشرعة لمن يطلب الكتابة ـ كما مرـ يدخلها من يشاء دون ان يواجه صعوبات , حتى ان قصيدة النثر اصبحت في احيان كثيرة لا تمتلك هوية محددة فبالكاد احينا يميزها القارئ عن الاجناس الاخرى كالقصة القصيرة او الخاطرة او الكتابة العادية على الرغم من ان اغلب كتاب قصيدة النثر يعتبرون كتاب سوزان برنار (قصيدة النثر) انجيلا لهم لكنهم لم يأخذوا بنظر الاعتبار قولها : ((وتفترض قصيدة النثر ــ وهو ما سبق ان قلناه ـ ارادة واعية للانتظام في قصيدة ,لابد ان تكون كلا عضويا مستقلا فيما يسمح بتمييزها عن النثر الشعري ..)) .