بدأت أشعر بملل من الانتظار، فقد مضت ساعة، وأنا انتظر دوري في الدخول الى غرفة الكشف لمعاينة حالتي الصحية من قبل الطبيب؛ ولمعرفة الخلل الذي اصاب اطرافي في الايام الاخيرة حتى صارت لاتقوى على حملي، ولو لمسافة قصيرة. كان الهدوء في صالة الانتظار الصغيرة، هدوء فيه مسحة من الحزن، والترقب والقلق والخوف، يخيم على جميع المرضى الذين ينتظرون دورهم بالدخول الى غرفة الكشف. كانوا يتململون حتى ظهر الضجر واضحا في سيمياء وجوههم، وهم يرمقون باب غرفة الكشف بين الفينة والفينة، بأنتظار أن يُفتح الباب، ويخرج المريض الذي دخل توا، أو قبل دقائق؛ احيانا تمضي اكثر من ربع ساعة، والباب لم يزل مغلقا. تأفف مريض مسن، كان يجلس قبالتي، مع أمرأة هي الاخرى مسنة، تبدوا زوجته. حرك رقبته وعدل من وضع ربطة العنق التي تطوق رقبته.-: الدكتور جليل يفحص مرضاه بدقة وصبر.. قالت له زوجته او هكذا تصورتها. في هذه الاثناء، صر باب الصالة. دخل شاب وسم، وسيم جدا بما فيه الكفاية كي يثير انتباه الجميع بما فيهم، أنا. -: عدد المراجعين، اكثر من الحد المسموح به؛ ثم أن دوام الدكتور ينتهي في الساعة الثامنة؛ بسبب انتشار عصابات الجريمة والخطف، حين يحل الغروب ويبدأ الليل. قالت له السكرتيرة التي، وهي توضح له، لم ترفع عينيها عن الجريدة التي تتابع قراءتها في الفترة، ما بين خروج مريض ودخول أخر.- لا عليك سيدتي، الدكتور جليل يؤدي واجبه الحرفي والانساني والاخلاقي اتجاهي، بمتابعة يومية، وبأشراف حصري من قبله، على حالتي منذ أكثر من سنة. اجابها بصوت خفيض وبأدب جم. -: لكني، لم أرك ولا مرة واحدة. -: لأن الدكتور يتابع حالتي ويشرف على علاجي في البيت، وقبل ذلك، كان يعالجني، مجبرا، في المشفى بسبب خطورة وضعي في حينه، الذي استوجب ان يكون علاجي في المشفى لبعض الوقت. وضعت الجريدة جانبا وهي توميء له، أو تشير الى المقعد الفارغ بسبابتها مع حركة من احد حاجبيها، ووجه ضاحك، باشارات اخرى تدل على معرفة سابقة، بل على وجه الدقة، تدل على علاقة عميقة منذ أمد، ربما بعيد. جلس في المقعد الفارغ الى جانبي. اخرج من علبة السكائر خاصته، سيكارتين، قدم احدها لي؛ تفضل. شكرا، لا أدخن، أو الصحيح لقد اقلعت عن التدخين منذ سنوات. استرخى وهو يدخن، ومن ثم نزع الطرفين الاصطناعيين، ووضعهما تحت المقعد. ذهلت وأنا اتأمله. ذهول هو مزيج من الحزن والألم عليه، والرغبة العارمة التي هزت كل كياني؛ لمعرفة السبب في فقدانه طرفيه السلفيين وهو في عمر الشباب او قل في العقد الأخير من الشباب، يكاد لايتجاز الثلاثين سنة من العمر، الا بسنة او سنتين. من ثم ومن غير مقدمات، كأنه، كان قد عرف ما يجول في خاطري؛ قال والابتسامة لاتفارقه: اشعر بالضيق من هذه الاطراف، لذا، ما أن اجد مكانا استريح فيه، الا واسارع الى التخلص منها ولو لبعض الوقت.-: هل هو حادث سير مثلا او اي حادث اخر. سألته. كلا، لم يكن حادث سير ولا اي حادث اخر. أنا متحصل على الدكتوراه في الاتصالات ونظم المعلوماتية، قبل سنة من الغزو الامريكي. وكنت احد المشرفين على نصب وتشغيل الكيبل المحوري، بالتعاون مع شركة صينية، أو قل وهو الادق؛ كانت الشركة الصينية تقوم بنصب وتشغيل الكيبل المحوري الذي بلغ الانجاز فيه اكثر من 80% عندما بدأ الغزو الامريكي. كنا عدد من المهندسين نعمل مع الشركة الصينية. المهم وحتى لا اطيل عليك؛ ظهر اليوم الرابع، والقنابل والصواريخ الامريكية تتساقط على بغداد بضراوة، كنا، أنا وعدد اخر من المهنسين في مبنى مركز الاتصالات، الى الآن، لا اتذكر كيف حدث ما حدث. وجدتني مقذوفا وقطع الحجارة وغيرها تنهال فوقي حتى أختلط صوت وقوعها على رأسي وبقية جسدي مع دوي الانفجار الهائل. -: حجي ادخل. اشارت السكرتيرة على رجل في الزاوية. نظرت الى الشاب كان قد اطرق برأسه الى الارض، ولاذ بالصمت. اعتصر قلبي الألم على ما حل به. كنت خلال حديثه أركز عليه وعلى طريقته في البوح، حتى حركة يداه اثناء كلامه، شيء فيه استرعى اهتمامي الممزوج بحزني على حاله وهو في هذا العمر. لم يخرج من صمته، ظل صامتاٌ. نهضت على الرغم مني، كأن هناك قوة في داخلي، دفعتني للوقوف فجأة من دون ان تكون هناك اسباب او موجبات؛ تبرر حركتي المباغته هذه، من وجهة نظر الشاب، أذ، ظهر واضحا الاستغراب على محياه في اللحظة التي وقفت فيها. ظللت في وقفتي هذه، انظر خلال جزء من دقيقة؛ الى الطرفيَن الناقصتين للشاب الذي كان هو الأخر بدروه يتبسم في وجهي، وعيناه تنظرني، في مقلتيهما؛ طيف حوار مرجو بمحبة وألفة كما بدى لي في هذه الثواني. أذ، رأيت، في عينيه؛ رغبة في مشاركتي شجونه التي تختفي وارء ظل شفيف لأبتسامة رقيقة وناعمة. تقدمت خطوتين، ووقفت امام الصورة المعلقة على الجدار. كان الدكتور جالسا في منتصف، الصف الأول، فيما الأخرون كانوا جالسين الى جانبيه، واخرون كانوا واقفين في الصف الثاني. كان التأريخ المدون في اسفل الصورة، يشير الى ان عمرها، اكثر من اربعين عاما. تأملت الدكتور جليل، كم كان وسيما، وشابا. لقد تغير كثيرا، صار شيخا، طاعنا في السن. واصلت تأملي للصورة على الرغم من نزيف الذاكرة التي اخذت منذ حين تحاصرني، اي منذ لحظة قفزتي المباغته من مقعدي الى جانب الشاب، أو بالضبط حين حطت عيناي على هذا الشاب او الذي لم يزل شابا؛ تتواصل المشاهد المؤلمة، تتدفق بقوة وسرعة من مخازنها.. كنت قبل اكثر من عقدين من الآن، جالسا في الملجأ وحدي الا من صوت المذياع الذي بدأ في بث الاناشيد الحماسية بعد انتهاء نشرة الاخبار. انتابني القلق من النتيجة التي انتهى بها لقاء وزير خارجيتنا ووزير خارجية امريكا الذي قال للاول: سنعود بكم الى عصر ما قبل الصناعة. اغلقت المذياع واخذت احدق في سقف الملجأ. في الخارج كان كل شيء غارقا في السكون والصمت وسط الصحراء المترامية الاطراف. فقد تعود جنود وضباط اللواء المدرع العاشر الذي هو تحت أمرتي الا المكلفين بالحراسة والرصد والانذار؛ ان يخلدوا الى النوم او المسامرة، والحوارات التي لا تنتهي.. بعد تناولهم العشاء، ويأخذوا قسطا من الراحة والاسترخاء بعد يوم كامل من التدريب والمراقبة والترقب. دخل عليَ الجندي الطبيب، أمر المفرزة الطبية في اللواء.-: سيدي ارسلوا لنا جراح اخصائي. ثم اشار الى شاب أو لم يزل في مرحلة الشباب، فهو لم يتجاوز العقد الرابع من عمره بعد، كان بالباس مدني. وكان وسيما جدا. عندما تقدم خطوتين نحوي، حياني بأحترام فائق والابتسامة لا تفارق وجهه. قال بأبتسامة عريضة، وبأدب، ورابطة جأش (اثار استغرابي؛ اخصائي يجيء به من بغداد العاصمة، تاركا عمله وعائلته ربما قلت لنفسي: لديه عائلة، ويقذف به الى هذا التيه من بحور الرمال، ومع هذا يظل محافظا على شياكته.) -: انا هنا للاشراف على المفرزة الطبية، والقيام بما يسعني او ان الصحيح بما يسعنا؛ القيام به عندما تبدأ المعركة. أز باب غرفة الكشف، أزيزا خفيفا. ألتفتُ الى الباب، خرج الرجل الكهل الذي ولج غرفة الفحص قبل دقائق كثيرة، وهو يتكأ على شاب، يقوده بتؤده وحرص شديدان. رأيت الشاب الوسيم يصوب عيناه ناحيتي.. كنت أجلس الى جانب السائق، في المركبة التى كانت تتقدم الكتيبة، كتيبة دبابات النصر، احدى كتائب اللواء المدرع العاشر. كان رتل الدبابات يتقدم على الطريق الصحراوي الذي يتلوى كما الافعى. انظر الى الطريق الصحرواي. كان الليل في هذا الوقت، قد ارخى سدولة. هدير سرف الدبابات على طريق، تشق سكون الليل. لكن الجنود والضباط، كانوا في صمت مطبق. في السماء، مصابيح الله، تنشر الاضواء في البرية. الطائرات الامريكية، تدوي في السماء القريبة. ينتشر في الانحاء، عواء الذئاب، وابن اوى. اخرجت من علبة سكائري، سكارتين، قدمت واحدة منها، الى السائق الذي رفض التدخين” شكرا، سيدي لا أدخن” مع اني اعرف انه يدخن، ويدخن بشراهة. دفعتها له” خُذ دخن”. وقدمت اخرى الى الدكتور الذي كان جالسا في المقعد الخلفي، وراء سائق المركبة تماما -: تفضل دكتور. بدأنا ندخن بصمت. الرعود التى تحدثها الطائرات الامريكية وهي تحلق، تحليقا منخفضا جدا، حتى لتبدوا وكأنها سوف تمس الارض، كان الطيران كثيفا. لم يتوقف حتى ولا ثانية واحدة. في لحظة بدأت طائرة امريكية، تدور حول الكتيبة، دورانا منخفضا جدا. ارتفعت امتار في السماء. سمعت دوي الانفجار الهائل، وأنا معلقا هناك في السماء لثانية او اقل منها، ومن ثم سقطت على تلة رمل. تفحصت جسدي، لم يكن فيه، اي جرح. النيران تلتهم، مركبتي، تتصاعد منها، اعمدة من الدخان، وألسنة النار. احد الدبابات التى كانت تسير خلف مركبتي، يرتفع منها، الدخان والنار. ضباط الكتيبة والجنود، ينادي بعضهم على البعض، يتفقدون بقية افراد الكتيبة. وقفت امام مركبتي المدمرة بالكامل. الدبابة التى كانت خلف مركبتي، والتى كانت هدف الصاروخ الامريكي، تحولت الى قطعة كبيرة، من الحديد المنصهر، فقد تحولت الى كرة من الحديد المنصهر، لم يبق فيها اي معلم من معالمها، لقد اختفى شكل الدبابة التى كانت عليه.” هل نجا من طاقمها احد” سألت الملازم حسين. بصوت فيه خنة ألم، وبالكاد، كان قد سيطر على نفسه، أجابني ” كلا سيدي، لم ينج احدا، لقد انصهروا داخل هذه الكرة الحديدية. تم جمع الجرحى، من بينهم، سائق مركبتي، والدكتور جليل الذي كان يجلس في المقعد الخلفي لمركبتي. ثم باشر الطاقم الطبي باجراء الاسعافات الضرورية حتى نصل الى المشفى العسكري في البصرة. اصدرت الأمر بمواصلة الانسحاب. نادت السكرتيرة عليَ كي ادخل فقد حان دوري. تقدت نحو الباب لأدخل، لكن الشاب كان قد سبقني في الولوج الى غرفة الكشف. حملقت مستغربا هذا التصرف الذي هو خارج السياق المعمول به في هذه العيادة، لكني، لم اقل كلمة.-: أدخل حجي. ما ان ابصرني الدكتور، وأنا ادخل، حتى نهض ودار من وراء منضدة الفحص الى ان اصبح قبالتي وسط الغرفة. صافحني بحرارة وقوة، بيده الاصطناعية. قلت لنفسي من غير ان افتح فمي؛ هل لايزال يتذكرني رغم كل هذه السنوات التي لم التق به على الاطلاق. على ما يبدوا ان الدكتور يتمتع بذاكرة قوية، كما أنه من صفنتي عرف ما كان في لحظتها؛ يدور في خاطري. -: اللواء الركن علي قاسم، أليس كذلك. سألني. نعم دكتور،أنا هو. ثم قال للشاب -: أجلس أبني على ذلك الكرسي