23 ديسمبر، 2024 1:29 م

في علاقة المفكّر المستنير بالسلطة والفقيه

في علاقة المفكّر المستنير بالسلطة والفقيه

يقول هربرت سبنسر: “أنّ التحوّل الحضاري لا يتمّ على يد بطل، أو حاكم، ولكنّه يتمّ على يد الحكمة الجماعيّةّ وهي من المصلحين وقادة الفكر”
ولكن، رغم عظمة هذا الدور ونبله،فإن محنة  قادة الفكر الحرّ،وعلى امتداد التاريخ، تحاكي ولاتختلف في قساوتها عن الأسطورة  الإغريقيّة التي تحدّثت عن بروميثوس الذي، نظرا لسرقته لقبس من النار- رمز الفكر-  من عند الآلهة، فقد حكم عليه زبوس كبيرهم بأن يربط إلى إحدى صخور القوقاز فتآكل النسور كبده في محنة يوميّة متجدّدة،  و ذلك بعد أن تتشكّل له كبد أخرى في اللّيلة الموالية.
كثيرا ما تساءلت عن سر العلاقة العدائيّة التي طبعت التواصل ما بين المفكرين والعلماء والأدباء المسلمين، العرب منهم وغير العرب، وبين الحكام والشيوخالفقهاء والأصوليينعلى مدى تاريخ الحضارة الإسلامية. وهي العلاقة التي تكاد تكون رهابا.ثم هي كذلك،تتماهى في حدّة عدائيتها بعلاقة الحداثيين بالإسلاميين التي نعايشها اليوم ونلمس تجلّياتها في التجاذبات السياسيةوالخطابات المتشنّجة والناريّة لهذا الطرف أو ذاك،في تونس وفي كافة أرجاء الوطن العربي، لا سيّما بعد وصول الإسلاميين، إن عن طريق الإقتراع او عن طريق السلاح، إلى سدة الحكم، في كل من تونس، المغرب، الأردن، ليبيا ومصر.
 وما يمكن استقراؤه تاريخيّا، كإجابة جزئيّة على هذا التساؤل الحارق وربما المأزقي، القديم المتجدّد في حضارتنا العربيّة الإسلامية، خلافا للحضارة المسيحيّة التي حسمت هذه العلاقة-منذ قرون- لفائدة العلماء، هو أنإختلاط الديني بالدنيوي إبّان الخلافات، الراشدة وغير الراشدة، جعل رجل الدّين، بما له، في الماضي البعيد، من سلطة سياسيّة أو نفوذ في دوائرها العليا، يحاول محاصرة المفكر والعالم،في غيرالعلوم الدينية،والتضييق عليهما فيما يشبهالإحتكارلسلطة إقرار المعرفة ومصادرتها إن هي خرجت عن دائرة اليقينيّات التي يسلّم بها  الفقيه ولا يقبل حتى مجرّد التشكيك فيها.وهي التي لا تزعزعها المجادلات الفكريّة الخالصة المتعدّدة الأبعاد والمتمرّدة أبدا على الشكل المسطّح ذو البعد اليقيني الواحد الذي يرومه الفقيه ولا يقبل ضمنه غير اليقين وامتلاك الحقيقة القطعيّة والنهائيّة. وهو البعد الذييغيب وينعدم فيه الحضور المتعدّد للمسالة الواحدة صوابا وخطأ.
غير أن المفكّرين العرب و المسلمين عموما،وفي سياق وعيهم بالحرّية وتوقهم إلى تنسّم عبقهاو ممارسة الفكر الحرّ بوصفه تبدّيا لها، كانوا بقدر ما تمتدّ  حرّيتهم على مساحة واسعة  بقدر مايكتسب فكرهم دفقاووهجا علميّا بل ورؤية موضوعيّة فلسفيّة للموضوع الذي يشتغلون عليه. مما قد يجعل أفكارهم  متقدّمة على أزمنتها،أويكون منجزهم،إبداعا مغايرا وجديدا أو لعلّه فتحا علميّا مدويّا،يكادأحيانا أن يغيّروجه العالم ويعصف بالمسلّمات لتنقلب رأسا على عقب. وهو ما كاد يبلغه ابن الشّاطرفي علم الفلك،في خصوص دوران الأرض حول الشمس، قبل ‘كوبرنيك’بأكثر من قرن.
ولا تعني الجدّة هنا أن يكون الإنتاج الفكري- علما أو أدبا- لم يتطرق إليه أحد فحسب، بل يعني كذلك -وهوالأهمّ– أن الموضوع أو الفكرة قد صيغت بشكل مغايرعن السائد.وفي هذا المضمار يقول الشاعر الألمانيJohannWolfgangvon Goethe(غوته): “ليس الشعراء الكبار شعراء كبارا لأنهم ،أتوا بأشياء جديدة، وإنما هم شعراء كبار، لأنّهم أبرزوا الأشياء كما لو أنها تظهر لأول مرّة”.وهو ما يختلف عن المفهوم السائدللتجديد ، من حيث هو تطور وليس إعادة قديم كان، وإنما هوعملية خلق جديد لم يكن من قبل.
هذا النزوع الطبيعي إلى الحرّية عند الممارسة الفكريّة، لدى المفكرين العرب والمسلمين المستنيرين، أدّى بهم في كثير من الأحيان إلى اجترائهم على اقتحامالمناطق المحرّمة لدى الفقهاءالذين يتسيّدون الجمود -وهي ليست بالضرورة كذلك من الناحية الشرعيّة ولكنّها الأصوليّة والظلاميّة المتشدّدةذات التوجّهات التقليديّة المتكلّسة في تخلّفها ونظرتها للحياة.–بما هو تجاوز لخط التماس. وهنا يحدثالتصادم العنيف بين من يحمل فكرا مستنيرا يسنده فعل النقد ومن ينقله عن غيره بالحفظالببّغائيوالإجترار،دون فهم ولاتدقيق وتمحيص ودون تحرّعلمي صارم، فيحدث التناحروالقطيعة والعداء ثم العقاب الشديد، الذي يكون دوما على حساب المفكر أو العالم  أو الشاعر والأديب. غير أنّه وإحقاقا للحقّ، فأنّ هذا المفكر الحرّ في مجاله كثيرا ما  يكونهو ذاته فقيهاأو قاضيا شرعيّاأو إماما عقلانيّا معتدلا غير متشدّد.
وتاريخنا -مع الأسف- حافل بالأمثلة العديدة من الفصول السوداء ضدّ العلماء والمفكرين.نعرض لبعضها فقط لضيق المجال أوّلا، وتجنّباللجهاد من غير خصم،بتعبير الفقهاء،ثانيا،ودون إعتماد  الترتيب التاريخي لحدوثها، ثالثا.
وأستهل بمحنةابن رشد لأنّي أعتبره -عن جدارة- أفضل فيلسوف أنتجته الحضارة العربيّة الإسلاميّة على مدى تاريخها المديد. فهذا المفكر الفذّ، الذي حفظ موطأ مالك  ودرس الفقه والعقيدة كما يدرسها فقهاء عصره،ودرس الفلسفة بعمق مما جعله يشرح كلالتراث الأرسطي العظيمبما جعل فكره مهيمنا على برامج الجامعات في أوروبا القرون الوسطى وحتى نهاية القرن السادس عشر.حتى أن الفيلسوف الإيطالي بيتروبمبوناتسيPietro Pomponazzi  أسّس مدرسة عرفت باسم “المدرسة الأرسطيّة الرشديّة”،إضافة إلى ورود اسمه في الكوميدبا الإلهية لدانتي مع زمرة من الفلاسفة العظماء الذين لم تدركهم المسيحيّة.ورغم أن ابن رشد الذي يقول ”إن الحقّ لا يضادالحقّ بل يوافقه ويشهد له” ويرى أن ”الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها”، و”لا يرى تعارضا بين الدّين و الفلسفة”، فإنّه اتّهم من قبل  شيوخ الفقه بالاندلسفي عهد ملوك الطوائف، بالكفروالإلحاد، وحرقت كتبهوجميع مؤلّفاته الفلسفيّة كما منع من الاشتغال بالفلسفة والعلوم ما عدى الطبّ.ثم أبعد من الأندلس إلى مرّاكش وتوفّي بها غريبا. وهذا دليل صارخ على غربة المفكر بين أهله وذويه في الدول المتخلّفة التي تعادي العلم والفكر الحرّ، في الوقت الذي يسعى فيه الغرب إلى تنميته. يقول ‘برتراند راسل’ في هذا السياق:” لو كان الأمر بيدي لعرضت على عقول الأطفال أكثر الآراء تباينا حتّى أنمّي عندهم ملكة النقد”. و بديهي أن أهمّية العقل النقدي اليوم وحاجتنا إليه لا تحتاج إلى دليل، بعد أن منحنا عقولنا إجازة مفتوحة منذ عصر الممالك الشراكسة، فما زادتنا إلّا خمولاً وسباتاً وانتكاساً وانكفاءًبما جعلنا نسير، منذ قرون، بعكس اتجاه الحضارة،وشدّ مجتمعنا إلى هاوية من الظّلام والتخلّف لا قرار لها.
 أما المثال الثاني فيتعلّق بعبد الله إبن المقفّع،الذي جمع بين الثقافة العربيّة والفارسيّة واليونانيّة والهنديّة واظهر عيوب النُّظُم الإدارية في عصره وفضّل النظم الإداريّة الفارسيّة عليها، وخلّف آثارا كثيرة، منها ‘كليلة ودمنة’ منقولا عن الهنديّة، تشهد له على سعة عقله وعبقريّته، وأنّه صاحب المدرسة الرائدة في النثر.
إلا انّه،عند كتابته ميثاق الأمان بين الخليفة أبو جعفر المنصور وعمّه المتخاصم معه، أفرط في الاحتياط حتّى لا يجد المنصور منفذاً للإخلال بعهده. وممّا جاء في هذا االميثاق: إذا أخلّ المنصور بشرط من شروط الأمان كانت “نساؤه طوالق، وكان الناس في حلّ من بيعته”، مما أغاظ المنصورفامر بقتله.يقول إبن خلّكان متحدّثاعن ذلك، إنه لما ألقى عليهالقبضَ سفيان بن معاوية والي البصرة،قال له: “أنشدك الله أيها الأمير في نفسي. فقال أمّي مغتلمة إن لم أقتلك قتلة لم يقتل بها أحد، وأمر بتنّور فسجر، ثم أمر بابن المقفع فقطعت أطرافه عضواً عضواً، وهو يلقيها في التنّور وينظر حتى أتى على جميع جسده، ثم أطبق عليه التنّور وقال: ليس عليّ في المثلّة بك حرج لأنك زنديق وقد أفسدت النّاس”.وفي رواية أخرى قيل إنهأكره على أكل جسده مشويًّا حتى مات وهو في مقتبل العمر، ولم يتجاوز السادسة والثلاثين.
و أمّا المثال الثالث فيتعلّق بالطبيب الفيلسوف الرّازي الذي يعتبر الطبيب الأوّل في التاريخ الذي أوجد (التدوين السريري) في تاريخ الطبّ في العالم. وقد اعترف الغربيّون بفضله على الطب وأشادوا به في غير كتاب على أنّه فصل رائع من فصول الطبّ العربي الإسلامي والعالمي. إلّا انّه أتّهم بالكفر من قبل الغزالي في كتاب ‘تهافت التهافت’ ، و ضربه منصور بن نوح أحد ملوك السامانية على رأسه بكتاب في الكيمياء وضعه الرازي بطلب منه، إلىأن تقطّع،وهو ما سبّب له نزول الماء في عينيه. وسبب ذلك أن الرازي، لم يكن باستطاعته وضع النظريات الواردة في الكتاب موضع التجربة كما أراد ذلك منصوربن نوح الذي أعتبر الكتاب، عندئذ، مجرد كذب يستوجب العقاب الشديد.
نكتفي بهذه الأمثلة، التي هي ليست إلا غيض من فيض، وإن ننسى فلا ننسى محنة كل من سفيان الثوري، الذي عاش مطاردا زهاء السنة،وزعيم المعتزلة حسن البصري، الذي كاد يعدمه الحجّاج بن يوسف،والإمام مالكالذي جرّد من ثيابهوضرب بالسيّاط حتّى انخلعت كتفه، و الإمام أحمدبن حنبل، الذي قيّد بالأغلال وكان يُضرَب ضرباً مبرّحاً حتى يغشى عليه ثم يتجدّد ضربه في اليوم الموالي، وجمال الدّين الأفغاني الذيأتّهم بالكفر و هاجمه الوعّاظ وأئمّة المساجد حتى اضطرّإلى مغادرة الأستانة،و عبد الرحمان الكواكبي صاحب كتاب»طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد« الذيقال إن الاستبداد محنة للعقل والأخلاق فعانى مضايقات عديدة من السلطة العثمانيّة وعلي عبدالرازقصاحب الكتاب الشهير “نظام الحكم في الإسلام” الذي سحبت منه شهادته العلميّة وأوقفوا عنه راتبه،ونصرحامد أبو زيد الذي اعتبر مرتدّا عن الإسلام  وطلّقوا زوجته منه فاضطرّ إلى اللّجوء معها إلى هولندا… ومازالت القائمة طويلة وطويلة جدّا من المفكّرين الاجلاّء الذينلا حقهمسيف’ديموكلاس’، فيحينانّه كان من المفترض إيلاؤهم التبجيلوالتقديرالذي يستحقّونوليس التحقيروالمطاردة والإهانة والتعذيب من قبل الجهلة الذينيناصبونهم العداء.ولكن هذه المحن لا تعيب هؤلاء بل تزيدهم إجلالا في عيون الشعوب وتحقيرا لمن بطش بهم، وهو ما عبّر عنه الشاعر بقوله :
لا تأسفنّ على غدر الزمان لطالما… رقصت على جثث الأسود كلاب
لا تحسبنّ برقصها تعلو على أسيادها…تبقى الأسود أسودا والكلاب كلاب
تبقى الأسود مخيفة في أسرها… حتّى وإن نبحت عليها كلاب