18 ديسمبر، 2024 8:38 م

في عراق اليوم ، سياسة الرواتب تكريم للاقلية وعقوبة للاكثرية 

في عراق اليوم ، سياسة الرواتب تكريم للاقلية وعقوبة للاكثرية 

على مر العصور والازمان ، ومنذ ان اقام الانسان الشكل الاداري المتمثل بوجود هيئات لادارة شؤون التجمعات السكانية الكبيرة ، كالأمبراطوريات او المماالك ، او على مستوى تجمعات صغيرة كالقبيلة او العشيرة ، وجميع هذه الاشكل من الادارات ، تتميز بوجود رجالات في قمة هرم هياكلها الادارية على جانب من المواصفات تتعدى تلك الاعتيادية التي تتوافرلدى السواد الاعظم من الشعوب ، مثل الفطنة والذكاء والعدل والانصاف النسبي الذي يتفق وفطرة الانسان في تلك الازمنة ، لكن الاهم من ذلك ، هو الحرص والتفاني لخدمة شعوب او تجمعات تلك الانظمة الادارية ، مع وجود استثناءات لقيادات عاكست ذلك الحرص والتفاني ، لكنها حظيت اما بأزدراء شعوبها والثورة عليها  ، لذلك خلد  التاريخ المتميزين ولم ينسى ان يزدريء السيئين 
ومناسبة حديثنا هذا ، ان تتكرر صورة ذلك الاستثناء من الادارات السيئة ، وللعجب في زمن قمة الرقي والتقدم الانساني وتطور اساليب واشكال الادارات ، والعجب الثاني ان تكون هذه الادارات السيئة في ارض كانت هي المهد لنشوء الادارات المنظمة التي مهدت للادارات الحديثة
فالسلطة الجديدة في عراق اليوم رغم ان دستورها الذي يبدو للوهلة الاولى عصريا ، الا انه عبارة عن نصوص ملغومة تتيح التفسير بكل الاتجاهات ، وان كان منه نصا لا يحتمل التفسير ، فمن البساطة ان يهمل تطبيقه ، ويكون التوافق هو سيد الموقف في الادارة الجديدة للعراق ، والتوافق يعني ان اسكت عن تجاوزك عليك ان تسكت عن تجاوزي ، 
اي بين المزدوجين ، اصبح العراق ملكا للاحزاب والكتل وصاروا هم السادة بعديدهم بغض النظر ان كانوا من اصحاب الفكير النير او من الكفاءات او من غير ذلك ، واصبح عديد الشعب هم العبيد في معادلة الحكم الجديد والدستور الحقيقي هو دستور غير مكتوب ، تتداوله احزاب وازلام السلطة ، اساسه ارضاء جميع السياسيين وعلى حساب العبيد ، الذين  ارتضوا هذا الوضع لان الحكومات هي انعكاس لارادة الشعوب 
لذلك ليس بالغريب ان نرى سلسلة من السلوكيات تتنافى وقيم وواجبات السلطة نجاه الشعب ومستقبله في التمنية والتطور والحرص على بناء اقتصاد متين ، وتوفير الحياة الحرة الكريمة لأفراد الشعب ، ومن متطلبات العيش الكريم ، هو منح اجور تتلائم والحاجات الانسانية للفرد ، ولا يجوز الاعتداء عليها ، اما  ان تقوم الحكومة باجراءات تخالف الدستور المكتوب وتعتدي على الشعب العبد ، وتستثني ازلامها ، باستقطاعات متتالية تطال رواتب الموظفين تحت شتى العناوين بسبب اشتداد الازمة المالية ، لهو استغفال واضح وعدم اكتراث بحق مصالح ما يعتبرونهم عبيدا ، وكان الاجدر ان تخضع هذه الاستقطاعات للمنطق والقانون ، لا باستقطاعات متتالية لرواتب الموظفين ، دون ان تأبه للعواقب السلبية على حياة هؤلاء ، رغم ان تلك الاجراءات تخالف الدستور الذي وضعوه ، لكن بنفس الوقت حاولت الحفاظ على مكاسب ازلام السلطة من خلال تشريعات لم تعلن لتعويض الاستقطاعات المفروضة ، ضعف الثقافة القانونية لدى عامة الشعب ، سمحت للحكومة للاستمرار في الاستقطاعات وصارت تراكمية من خلال اصدارات متتالية ، في دولة تتباين فيها مستويات الرواتب بشكل غير معقول ، وشاذ عن الانظمة العالمية فضلا عن تلك التي اعقبت تأسيس الدولة العراقية في عشرينيات القرن الماضي ، حيث كانت وعلى مدى تسعون عاما تقريبا عادلة نسبيا ولا يوجد تفاوت يثير حفيظة الناس ، 
فلو اخذنا عينات من موظفين بنفس الاختصاص يعملون في دوائر عديدة ، لوجدنا تفاوتا كبير ا وغير معقول ، ففي مجلس الوزراء او دوائر المنطقة الخضراء ، يتقاضى ضعف ما يتقاضاه قرينه في الكهرباء ، الذي بدوره يتقاضى ضعف ما يتقاضه زملاءهم في الوزارات الاخرى ، اما في وزارة النفط ، فالرواتب اقل من المنطقة الخضراء واكثر من الاخرين ،  مع وجود حوافز سنوية كأرباح وكأن النفط هو من صنع وزارة النفط وليس هبة الهية  ، ولو انتقلنا الى رواتب طبقة الحاكمين من الاحزاب والكتل التي اعتبرت العراق ملكا عضوضا لها ولافرادها ، لوجدنا  ما يذهل العقل والضمير ، فاصغرهم منصبا يتجاوز راتبه المعلن ما يتقاضاه الرئيس الروسي قائد احدى الدولتين العظميين واحد المؤثرين في رسم السياسة الدولية باضعاف ، ويتجاوز راتب ميركل رئيسة وزراء اعظم قوة اقتصادية وصاحبة المواقف الانسانية الرائعة التي اثارت حفيظة اليمين المتطرف ، اما اكبرهم موقعا ، فراتبه يتجاوز باضعاف مضاعفة راتب رئيس اكبر دولة وصاحبة اعظم اقتصاد التي يبلغ دخلها القومي السنوي 16 ترليون وعملتها سيدة النقد الدولي ، ورئيسها هو من يرسم مصير العالم اليوم ، اية قسمة ظيزى وكيف يكون ذلك ، فدولتنا تكاد ان تكون نقطة في بحر اقتصاديات الدول التي ذكرناها كامثلة ، مع الفارق في نوعية القيادات ، لان لا احد منا يجد من بين سياسيينا من هو نافذ الفكر ، او صاحب نظرية اقتصادية او اجتماعية ، او مؤثرا في الاحداث لا متأثرا ، او لديه مشروع بناء دولة ، لكي يستحق ان يقارن بالاخرين وبالتالي يليق به ذلك الاجر الذي يتقاضاه سيكون لهذا التوزيع غير العادل للاجور عواقب اجتماعية وخيمة ، وستترك اثرا سيئا ودافعا للانتقام الاجتماعي ولو بعد حين ، حيث ستتراكم الاموال لدى البعض ويتراكم العجز لدى الاخرين ، ولن يكون هنالك شعور بالمساواة وبالتالي فقدان الحماس الوطني للبناء ناهيك عن انحسار الوطنية لدى المواطن العادي ، وهذا يذكرنا بالذي جرى في الحقبة الاسلامية الاولى التي تتمثل في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين ، حيث كانت تتوزع عطايا  بيت مال المسلمين بالتساوي على افراد المجتمع في عهد الرسول انطلاقا من فهم الاية الكريمة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)  ، وبعد وفاة الرسول صلى الله عليه واله طرح بعض الصحابة على الخليفة أبي بكر إعادة مقولة جاهلية، وهي التفريق بين الناس في معايشهم على أسس معينة، وعلى الرغم من اختلاف هذه الأسس في الجاهلية عما اقترحه هؤلاء الصحابة، لكنها تتطابق معها من حيث المبدأ، ونتيجة الاثنين واحدة، وهي خلق فجوة في المجتمع من خلال خلق طبقات اجتماعية ألغاها الإسلام، وهذه الطبقية أخطر من الأولى لأنها ارتدت رداء الإسلام, لكنَّ الخليفة أبا بكر رفض هذا الأمر وقال لهم: ( إنما ذلك شيء ثوابه إلى عز وجل، وهذا معاش فالأسوة فيه خير من الأثرة)لكن بعد وافة الخليفة الاول ساد القوم منطق البداوة حيث تناخى الكثير من الصحابة  الى مبدأ ( لا أجعل من قاتل رسول الله (ص) كمن قاتل معه، ففرض لأهل السوابق والقدم من المهاجرين والأنصار)  وكان المعارض الاول لذهذا المنطق الامام علي بن ابي طالب عليه السلام لانه اراد استمرار المبدأ الذي عمل عليه الرسول ومن بعده الخليفة الاول ، (وكان ذلك اول بذور الشقاق وأوجدت شرخاً في المجتمع، فهناك طبقة من المسلمين كانت جالسة في المدينة لا تعمل، وغير نافعة للجماعة الإسلامية يأتيها رزقها رغداً وبدون أي جهد، وهؤلاء يمكن أن نسميهم الطبقة الارستقراطية في المجتمع الإسلامي، في مقابل طبقتين الأولى منهما هي التي تعمل وتجاهد وتبني الدولة، وهم من أصحاب العطاء الذين يأخذونه بناءاً على دفاعهم عن الدولة ضد أعدائها، والثانية من الفقراء الذين لا يقوون على العمل ، فنظرت هاتان الطبقتان إلى تلك الطبقة نظرة حقد وحسد، ما دامت تأخذ العطاء الأكثر في الدولة دون أن تؤدي أي عمل وهذا الشرخ الذي أوجدته هذه السياسة الاقتصادية، أدى إلى إيجاد طبقة من الأشراف، المتعالين على الآخرين نتيجة لتمييز الدولة لهم بالعطاء عن غيرهم، وهؤلاء لا يستمدون قوتهم من الإسلام وإنما من الغنى والامتيازات )1(فتدفقت الأموال الى جيوب الأغنياء وحرم الفقراء منها، لذلك نجد إن هؤلاء الأشراف قاموا بمعارضة كل حركة إصلاح في البلاد، واشتدت معارضتهم أثناء خلافة الإمام علي، لأنهم شعروا بأن سياسة الإصلاح التي قرر أن يتبعها فيها خطر على مصالحهم،)2 اننا بحاجة الى الاصلاح الذي يعيد للمجتمع تماسكه بدلا من السماح للاحقاد ان تنمو وتترعرع في بيئة هشة كما يرغب الاعداء واجعلوا الانسان هو الغاية