لازلنا نلحظ ان جيل شريحة كبار السن من الشيوخ والكهول يميلون لاستذكار الماضي في مجالسهم العامة،ولا يترددون في الحديث عن ان الحياة كانت أحلى، والنفوس كانت أصفى،والالفة كانت اصدق ايام زمان مما هي عليه اليوم،ويذكرون لذلك أمثالا شجية عن مزايا ذلك الزمن الحلو الذي عاشوه مع أقرانهم في تلك الحقبة،توكيدا لوجهة نظرهم،وتقريعا للمهووسين برفاهية العصر.
واذا كان استذكار الماضي الجميل يظل جزءا من متعة الحديث في المجالس للكثيرين من جيل شاخ، حينما يحضرهم الحديث عن موضوع العلاقة مع الماضي،فانه يلاحظ ان حسهم وان كان مرتبطا بإدراكهم لكل تفاصيل الماضي،الا ان سحر العلاقة الوجدانية معه يرتبط عندهم بمقدار بعد الفاصلة الزمنية عنه، فكلما تقدم بهم السن زادهم الحال شوقا للماضي البعيد، لأن فيه أغلى مراحل العمر، وهي مرحلة الشباب،لذلك نجدهم أكثر من غيرهم تعلقا بالماضي،ونتلمس ذلك جليا في شعرهم ،وفي حكاياتهم، حيث يستحضرون الجزء الأكثر شجناً من تلك المرحلة في توصيف الماضي، في حالة من التوق المرهف لتجارب ولّت ولن تعود.
وتشير العديد من الدراسات كما يذكر الدكتور حكمت الحلو الى( ان ذكريات الانسان منذ بداية وعيه ولحد موته مخزونة كلها في اللاوعي وليس هناك من خبرة مر بها يمكن ان تتلاشى او تندثر ، وفي بعض الاوقات تقفز بعض الخبرات القديمة الى منطقة الوعي فتظهر بكل ملامحها وصورها وتفاصيلها دون ان نستدعيها، ذلك انها وجدت لها مجالا للانسلال من اللاوعي الى الوعي)الامر الذي يسوغ لنا تعليل التسامى فوق ما بات يصفه البعض بالنوستالجيا المرضية،ذلك ان توق تلك الشريحة للماضي يرتبط بمرحلة الصبا والشباب، وتجاربهم النضرة فيه،لذلك فهم يستعيدونه استشعارا لسعادة وجدانية، لكي يتجاوزوا بها تعاسة غربة الحاضر، بعد هذه الرحلة الطويلة من العمر حيث ارهقهم على ما يبدو الانشغال بالحاضر المثقل بإرهاصات صخب الحياة المعاصرة، وضنك الخشية من مفاجآت مجاهيل الغد،اضافة الى التهيب من صعوبة التكيف مع معطيات الواقع الجديد،الذي فرضته متغيرات العصرنة المتسارعة، وما رافقها من تداعيات كبرى في البناء الاجتماعي، والثقافي ,والتقني ،وما نجم لهم عن ذلك من اغتراب عن هذا الواقع ، لصعوبة تعايشهم مع متطلباته العصرية بطريقة سلسة، بسبب سرعة توالي ايقاعات هذه المتغيرات، التي فاقت سرعة استجابة التحولات الاجتماعية والمعرفية لها، الامر الذي جسّم عندهم معاناة العزلة بفجوة الجيل في حياتهم الراهنة بشكل ملموس،حيث يسعون عندئذ لتجاوز مرارتها بلجوئهم لإعادة إنتاج صور الماضي، واستيلادها بذهنهم بطريقة وردية.
ومعروف ان التحولات والمتغيرات في الماضي كانت تجري بشكل تدريجي وبطيء، وتأخذ وقتا طويلا نسبيا قبل أن تفعل فعلها في البنى الاجتماعية، والثقافية،وبذلك تمنح الناس فرصة كافية لتمثل تلك التغيرات، والاستعداد للاستجابة لها،والتكيف معها على نحو مرن،بعكس الحال اليوم،حيث تتدفق التحولات متسارعة بطريقة قفزات ضفدعية في مختلف جوانب الحياة، بات يتعذر على جيل كبار السن مواكبتها كما ينبغي،فصار ترادفهم مع الخلف محفوفا بالكثير من الصعوبات،الامر الذي افرز نوعا من الاغتراب المحبط في اوساطهم جعلهم يحسون كأنهم غرباء عن حقيقة الواقع الاجتماعي الذي يعيشونه اليوم مقارنة بما اعتادوه في ما مضى من عمرهم،وهذا ما يدعوهم للحنين المفرط الى الماضي،والانشداد اليه، ورغبتهم بالاستمرار بالعيش على نفس طريقة الماضي، حتى مع قناعتهم بان احجامهم عن التعاطي مع هذه المتغيرات لن يؤدي إلى نتيجة تذكر.لذلك فلا غرابة في ان نجدهم يحنون باستمرار الى الماضي في مجالسهم، ويتغنون بنمط حياتهم الاجتماعية السالفة،رغم كل ما افرزته الحداثة لهم في واقعهم الجديد من ايجابيات ورفاهية، لم تكن في متناول ايديهم في ذلك الماضي الذي ما برحوا يحنّون اليه.